البعد الأول: إحدى ميزات علاقتي بمحمد اليعقوبي أن جدي يحمل هذا الإسم رحمة الله عليه..كان مسير أوراش ، ولعل مسير الأوراش يومها كان يعادل مهندس الطرق اليوم ..وكان صيته بارزا في جبال الريف لأن كل الطرق بالمنطقة أشرف عليها بنفسه.. .. كنت ألمس عفته في علاقتي اليومية معه، لكن طفولتي لم تسمح لي بالاطلاع على عمق المعنى في شخصيته..إلا بعد مماته،حين سمعت حكايات لاتحصى من معاصريه مثالا لصرامته ووقوفه في وجه أباطرة الفساد وتفانيه وعفته...حتى أنه كان يرفض أن يقبل الهدايا لأنه يخشى أن يتعود عليها أو أن يصبح مفهومها ملغوما..كان يتفانى لأن يحيا من عرق جبينه فحسب.. البعد الثاني: في مدينتي لم أسمع يوما بعهد عرفت فيه تطوان واليا قنن الفوضى فيها..وجاء بهدف الإصلاح. وكنت في صغري أجهل إسم الباشا محمد أشعاش..لكن الفضول دفعني يوما لسؤال عجوز كانت تتحسر على عهد أشعاش.. الرجل الذي تولى باشوية تطوان من 1937 إلى 1951 ،و عرف عهده بصرامة الأحكام والقوانين وبانتشار الأمن والأمان في كافة أرجاء مدينة تطوان.. حكت لي هذه العجوز أن المرأة بتطوان إذا خرجت من بيتها وتأخرت بعد صلاة المغرب كانت تخشى مهرولة أن يلقاها الباشا أشعاش..لسلطته وهيبته ..الصرامة في وجه الفساد ترسخ الأمن وتقنن الفوضى. هذا أمر أكيد مفعوله، لكن في ترابط تام مع كل المعاني والمكونات الأخرى.. البعد الثالث: من أشعاش إلى اليوم، عرفت هذه المدينة إسم محمد اليعقوبي الوالي الجديد لها..لاأعرف كيف صرت أقارب بين أشعاش واليعقوبي؟ قد لا يكون وجه الشبه بينهما كبيرا،لكنه الأمل الذي تملك "نيتشه " في شهوته لإصلاح العالم..كنت أسأل أيضا،هل علينا أن ننتظر قرونا بهذه المدينة حتى يأتي من يحمل مشعل الإصلاح بها؟ فمنذ أن تولى السيد اليعقوبي منصبه الجديد بالمدينة بدأ الأمل يثلج الصدور،هذا الشاب الذي خرج ليقاوم الخوارق بأعجوبة..بيده القرار..بالفعل لا بالقول،لأننا لم نحي في الماضي غير عهود الأقوال،ولأننا لم نعرف واليا من قبل يركض مثلنا على قدميه،ويواجه أخطبوط الفساد ببسالة..ولأنه الوالي الوحيد الذي يلقننا درسا في الشفافية بدون معلم ..لأننا ببساطة لم نسمع عن الشفافية إلا في خطب الانتخابات.. تعودنا أن نرى ولاة أشباح لانعرف لهم طريقا للتغيير، ولا نسمع منهم قرارا لصالح تطوان..لم نعرف يوما هل كانوا أناسا مثلنا؟ هل سرقت منازلهم؟ هل نهبت نساءهم مثلنا؟ هل عاشوا مثلنا الألم والأمل؟ في المستشفى وجدت شابا ينزف دما وهو يقارب الاحتضار،وسمعت بالصدفة حوارا دار بين الطبيب وأمه؛ كانت الأم تُقبل يد الطبيب كي يجري العملية الجراحية لفلذة كبدها قبل أن يلفظ أنفاسه، لكن الطبيب طلب موافاته ب 3 ملايين سنتيم فورا وقبل أن يدخل غرفة العمليات، وقال بالحرف: " قبل ما نعمل يدي فيه" .. الدركي في الطريق يوقفك ..ونظراته تطالع محفظتك..إذا كنت كريما فأنت الحبيب الذي لاتغيب، وإذا أردت العفة، ففي الطرقات " غادي تطيب" .. رجل الأمن الذي يقف مجندا لحمايتك، قد يشتري فيك ويبيع.. وثيقة حسن السير والسلوك ثمنها بتطوان مائة درهم للمواطن العادي الذي يحضر لسحبها بنفسه، وللجالية الغائبة ما يزيد أو يقارب الثلاثمائة درهم.. ومتى دخلت مركزا للشرطة فضع يدك بجيبك وأنت تسير.. ترى هل يقوى السيد الوالي أن يحقق أمل المدينة في أن تستفيق على مدينة فاضلة ؟ فنجد كل المتشردين والمنحرفين في دور لهم،وأنهم لن يهددوا أمن المدينة..هل يعلم أن المدينة تعج شبرا شبرا بهم وأن السلطات لاتجمعهم إلا بحلول موعد قدوم جلالة الملك،ثم تعود لتطلق سراحهم في نفس يوم رحيل جلالته عن المدينة.. رجل التعليم الذي أصبحت الساعات الإضافية كل هم يومه، حتى صار رجال التعليم قراصنة بتطوان.. يبيعون ذممهم لذوي المال والنفوذ بصدور رحبة..هل نقف تبجيلا لهم أم حدادا على موت الثقافة فينا؟ وقد تلعن يوم مولدك إذا أردت سحب وثيقة الازدياد من إحدى مقاطعات الحالة المدنية بالمدينة.. هل نعترف بأننا نحيا آخر أيام الضمير،حين ماتت العفة فينا، وجثم الجشع في صدورنا..؟ هل يعرف السيد اليعقوبي أن البناء العشوائي بالمدينة لن يستقيم إلا إذا استقامت الضمائر فينا؟ وأن الضمائر فينا مستترة، فهل يستقيم فينا الطبيب وملاك الرحمة؟ هل يستقيم المخزني والشرطي وعون السلطة؟ هل يعود المعلم إلى عهده الذي ولى؟ ترى هل يستقيم الظل والغصن أعوج ؟