لأكثر من ثلاثة أعوام برز اسم سيرغي كيرينكو، النائب الأول لرئيس ديوان الكرملين، كأحد أهم العقول التنفيذية التي تعتمد عليها موسكو في إدارة الحرب على أوكرانيا؛ ورغم أن منصبه الرسمي يبدو إدارياً تقنياً فإن الواقع يكشف عن شبكة واسعة من الصلاحيات التي جعلته لاعباً محورياً في إحكام قبضة الرئيس فلاديمير بوتين على الداخل الروسي، وترسيخ السيطرة في الأراضي الأوكرانية التي ضمتها روسيا، وإعادة صياغة البنية السياسية والإعلامية والثقافية بما يخدم مشروع الكرملين. وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أن كيرينكو، البالغ 63 عاماً، عُرف داخل دوائر السلطة بقدرته الفائقة على تنفيذ التعليمات بلا ضجيج، وبالعمل على "حل المشكلات التقنية" التي يضعها بوتين على مكتبه، بدءاً من تنظيم الاستفتاءات في المناطق الأوكرانية التي تم ضمها، وصولاً إلى هندسة المشهد السياسي الداخلي بما يضمن بقاء السلطة مهيمنة على كل مفاصل القرار، ويصفه مقربون منه بأنه تكنوقراطي دقيق في التفاصيل، يفتقر إلى أجندة شخصية مستقلة، لكنه بارع في ترجمة أفكار القيادة إلى إجراءات عملية. رحلة كيرينكو السياسية بدأت بصعود سريع في التسعينيات؛ ففي عام 1998 تولى منصب رئيس الوزراء وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، ليحمل لقب "مفاجأة كيندر" تشبيهاً بحلوى الأطفال الأوروبية؛ وبعد مغادرته المنصب إثر أزمة الديون أسس حزباً إصلاحياً يتبنى سياسات اقتصادية ليبرالية، قبل أن يبدل مساره مع وصول بوتين إلى الكرملين عام 2000، وينضم إلى الجهاز الرئاسي؛ لاحقاً، أدار لسنوات شركة "روس آتوم" للطاقة النووية، حيث طبق أساليب إدارية حديثة وعقد صفقات إستراتيجية عززت نفوذ روسيا في هذا القطاع. عام 2016 عاد النائب الأول لرئيس ديوان الكرملين إلى الكرملين ليشرف على الشؤون السياسية الداخلية، متولياً تنظيم الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية، وضمان فوز المرشحين الموالين للسلطة في أكثر من 80 منطقة روسية؛ كما ابتكر برامج لاختيار "جيل جديد من التكنوقراط" عبر مسابقات واختبارات، وزج بخريجيها في مواقع إدارية حساسة، بعضها في المناطق الأوكرانية التي ضمتها روسيا بعد 2022. وأشارت "نيويورك تايمز" إلى أنه مع بداية الحرب، ارتدى كيرينكو القميص الزيتوني، وبدأ زيارات متكررة للمستشفيات والمدارس في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، مروجاً رواية تحرير هذه المناطق، ومشرفاً على مناهج تعليمية جديدة ترسخ الخطاب القومي المؤيد للحرب؛ كما مارس ضغوطاً على مسؤولين محليين للانضمام إلى الإدارات الروسية المحلية، ملوحاً بأن رفضهم قد يعرقل مستقبلهم الوظيفي. امتدت مهامه إلى المجالين الثقافي والإعلامي؛ إذ دعم الفنانين الموالين للحرب، وأقصى المعارضين، وأشرف على تعزيز سيطرة الدولة على الإنترنت عبر إحكام القبضة على منصة "VK" وتطوير تطبيق مراسلة محلي بات إلزامياً على الهواتف الجديدة. وفي موازاة ذلك، اتهمت الصحيفة الأمريكية كيرينكو بأنه قام بعمليات سياسية وأمنية استهدفت المعارضين وقلصت هامش المعارضة العلنية، ما دفع آلاف الروس المناهضين للحرب إلى السجون أو المنفى. نفوذ كيرينكو توسع أيضاً خارج أوكرانيا، حيث أوكلت إليه ملفات مثل أبخازيا ومولدوفا، بعد تراجع نفوذ مسؤولين آخرين بسبب مواقفهم من الحرب؛ ووفق مراقبين فإن بوتين يعتمد عليه في تنفيذ السياسات الحساسة التي تتطلب مزيجاً من الكفاءة البيروقراطية والانضباط السياسي، وهو ما جعل مكانته ترتفع داخل هرم السلطة رغم الطبيعة الصامتة لدوره. الصحيفة الأمريكية نقلت عن المعارض الروسي إيليا ياشين وصفه لكيرينكو بأنه "فعال وانتهازي بالكامل"، مؤكداً أنه قادر على تبرير أي تحول في سياسة الدولة إذا تغير اتجاه القيادة، سواء كان ذلك نحو مزيد من التشدد أو نحو الانفتاح على الغرب، ما يجعله أحد أكثر منفذي أجندة بوتين مرونةً وولاءً في آن واحد.