بابوا غينيا الجديدة تجدد تأكيد دعمها لمغربية الصحراء، ولسيادة المملكة على أقاليمها الجنوبية، وللمخطط المغربي للحكم الذاتي    بالأمم المتحدة، المغرب يعلن استضافة الرباط لأول مؤتمر حول ضحايا الإرهاب في إفريقيا    قيوح يحشد لتمكين المغرب من مقعد دائم بمجلس المنظمة العالمية للطيران    زامبيا تجدد تأكيد دعمها لسيادة المغرب على صحرائه    المغرب يخطط لاستقطاب مليون سائح سنوياً من خلال " السياحة الخضراء"    طنجة.. أزمة الصرف الصحي ومياه الأمطار تُهدد منطقة "أوف شور بلازا" ودعوات عاجلة لوالي الجهة للتدخل    إسبانيا ترسل سفينة لإنقاذ رعاياها بعد استهداف "أسطول الصمود" قبالة اليونان والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي يدينان الهجمات        ب20 مليار درهم.. الملك محمد السادس يُطلق مشاريع سككية بالدار البيضاء    استطلاع: 78% من المغاربة يعتبرون التغير المناخي تهديدا حقيقيا.. والجفاف في صدارة التحديات    شريط فيديو يستنفر أمن مراكش ويقود لتوقيف شخصين متورطين في حيازة أسلحة بيضاء    جيش إسبانيا يساعد أسطول الصمود            شيشاوة.. مصرع 5 أشخاص 4 منهم من أسرة واحدة اختناقا داخل "مطمورة" للصرف الصحي    سوريا تكشف عن سجن سري جديد تحت الأرض في ريف حمص    الحسيمة تتصدر المدن الأغلى وطنيا في أسعار الاستهلاك    مونديال أقل من 20 سنة.. وهبي: جئنا بطموحات كبيرة ونسعى للجاهزية الكاملة لمواجهة إسبانيا    عمر عزيمان يتوج بالجائزة الدولية "ذاكرة من أجل الديمقراطية والسلم"    "لامورا..الحب في زمن الحرب" للمخرج الراحل محمد اسماعيل يدخل سباق القاعات السينمائية    وفد اقتصادي أمريكي يزور ميناء طنجة المتوسط لتعزيز التعاون مع المغرب    مدرب جيرونا يشيد بأداء أوناحي بعد تألقه أمام بلباو    "الشمعة" تدافع عن تصويت الجالية    TV5MONDE تحتفي بالفرنكوفونية المغربية في سهرة ثقافية خاصة    مهرجان "عيطة بلادي" يكشف تفاصيل نسخته الأولى في الدار البيضاء    الصراع مستمر بين المغرب وإسبانيا على استضافة نهائي مونديال 2030    الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تطلق قسما إخباريا حول الذكاء الاصطناعي ضمن منصتها الرقمية    بزشكيان: إيران لا تريد أسلحة نووية    سناء العلوي… من تكريم وزان إلى لجنة تحكيم سلا    قراءة في مسرحية «عيشه ومش عيشه»: «الوجود الإنساني لا يفهم إلا في ضوء تناقضاته»    تقرير: "آلية تعديل الكربون الأوروبية" ستؤثر على صادرات المغرب وتدفع نحو تسريع إزالة الكربون من الاقتصاد الوطني    المغرب يجدد بنيويورك تأكيد دعمه لحل الدولتين بشأن القضية الفلسطينية    أخنوش: دينامية الدعم الثابت لمغربية الصحراء تفرض إنهاء هذا النزاع المفتعل    6 روايات عن العائلة إلى المرحلة النهائية من جائزة "بوكر"    مؤسسة الدوحة للأفلام تسلط الضوء على الأصوات الفلسطينية في مهرجان الدوحة السينمائي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    توقيف حركة السير بعدد من المحاور الرئيسية يوم 28 شتنبر الجاري بالدار البيضاء    استئنافية طنجة تدين "البيدوفيل الألماني" وشريكه المغربي ب12 سنة سجنا نافذة        سباق الفضاء الثاني .. الولايات المتحدة تتقدم نحو القمر    منظمة الصحة العالمية: لا علاقة مؤكدة بين الباراسيتامول والتوحد            نزيف الطرق متواصل.. 33 قتيلا و3058 جريحا في أسبوع واحد    دراسة: تلوث الهواء قد يضر ببصر الأطفال    سفيرة المغرب في فرنسا سميرة سيطايل بالكوفية الفلسطينية وفي بيت سفيرة فلسطين في باريس.. بعد اعتراف الرئيس الفرنسي بدولة فلسطين            الدفاع الجديدي يعلن رسميا استقبال الرجاء بملعب الزمامرة    دراسة: غثيان الحمل الشديد يرفع خطر الإصابة بأمراض نفسية    ترامب يسخر من الأمم المتحدة: كل ما تقوم به هو صياغة رسائل شديدة اللهجة لكنها مجرد كلمات فارغة            المشي المنتظم يقلل خطر الإصابة بآلام الظهر المزمنة (دراسة)    بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    الرسالة الملكية في المولد النبوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تنشر جريدة " تطوان نيوز" خلال شهر يناير وفبراير 2015 رواية " ناتاليا" للكاتب الصحافي يوسف خليل السباعي
نشر في تطوان نيوز يوم 17 - 01 - 2015


الليلة الثانية: حكاية ناتاليا
بعد تناولي لأكلة سمكية شهية في مطعم" لا خودريا" خرجت على عجل، كان القمر بدرا مكتملا في السماء، وإسبان يتناولون طعام العشاء في مطعم جانبي بالخارج. لم ألتفت إلى أي شيء، شيء واحد كان يدور في رأسي هو معرفة حكاية ناتاليا. دلفت إلى سيارة أجرة كبيرة بيضاء ذات خطوط زرقاء رقيقة جدا، ما أن نطقت إسم النادي حتى انطلقت السيارة. وعلى الرغم من كوني لم أتحدث مع يحيى في أمر السهر في النادي الليلي الإشبيلي، إلا أنني كنت متيقنا أن رفاقي سيلحقون بي، وأنهم لن يتركوني، لكن صوتا باطنيا كان يدعوني إلى الإسراع لملاقاة ناتاليا، التي كنت أتصور أنها تنتظرني بعدما وعدتها بالمجيء في الغد. أذكر أنها قالت بأدب بالغ ظهر عليها فجأة، وبإسبانية رقيقة:
- أسطا مانيانا
- غدا ليلا عزيزتي
وقبلتها في شفتيها اللذيذتين كمذاق العسل. كانت إيليا تنظر إلينا بشكل جنوني، تكاد تفترسني بعينيها اللذين ستأكلهما الديدان. لكنني لم أكن أعيرها اهتماما، كانت إيليا قد خرجت توا من معترك حيواني، فأنا أعرف عبد القادر لن يرحمها لأنه متعود على ممارسة الجنس بطريقة بهيمية أو حمارية كما يقول، وما أن ينطقها حتى يكاد الجميع يستلقون على قفاهم من الضحك. تابعتني إيليا بنظراتها الزائغة، المتلهفة، كما لوأنها لم تشبع، وتريد المزيد من الوطء، أشحت بوجهي عنها، ووعدت ناتاليا بالعودة إلى النادي غدا.
وقفت سيارة الأجرة بالقرب من النادي، تكررت نفس الحركات…الدفع… ثم الدخول، لم أهتم بالجثة الصلعاء الجالسة على الهواء، ولا بالحارس الأسود الإفريقي المفتول العضلات والصامت كالصنم، ماكان يهمني بالدرجة الأولى هو رؤية ناتاليا حبيبتي، التي لا أعرف حقيقة إن كنت أحببتها بصدق، أم أنها فقط الرغبة الجنسية التي كانت أقوى مني، وهل يمكن أن يحب الواحد منا عاهرة شقراء حسناء وهو يدرك أنه سيعود يوما إلا مسقط رأسه، ولن تبق هناك سوى الذكريات. لا أعرف لماذا تذكرت يومها حبيبتي إيمان، كما أنني لا أعرف لماذا تذكرت بيتنا القديم في أصيلة، البيت الذي قضيت فيه سنوات جميلة لن تنسى، وتعرفت على بلبل، حيث كنا نقضي أوقاتا ممتعة في المجامعة داخل أقسام الدراسة التي كنا نجري في فضاءاتها ونضحك، ونحب بعضنا البعض كعصافير. لا أدري لماذا كلما وضعت قدمي على باب النادي تذكرت كل هذه الأشياء.
كنت قد شربت ليلتها كثيرا في مطعم " لا خودريا "، الأمر الذي زاد من اشتياقي إلى ناتاليا، التي ما أن لمحتني حتى ارتمت علي بجنون، وشرعت تقبلني بقوة، لم أتمالك نفسي، فأعطيتها ماكنت أملك من نقود، هي التي كانت في حوزتي آنذاك، وفي طرفة عين كنا في الغرفة، طبعا، صعدنا الدرج، عرجنا على الشابة المكسيكية التي قبضت بلهفة النقود و حسبتها لتتأكد من أنها مكتملة. أحببت قبل وطء ناتاليا أن نتحدث قليلا، لكنها رفضت، وبدأت رقصة الجسدين، رقصة ممتعة وأبدية، ولم تنتهي إلا بعد شهيق وزفير، أدركت ناتاليا أنني أحببتها منذ النظرة الأولى، تلك طريقتها في معرفة أصناف الرجال وما يخبئونه تحت ضلوعهم، فقامت بإطفاء النور وترك نور أحمر يغلف فضاء الغرفة لتتلذذ وتستمتع بكل قواها بهذا الماروكي الذي بعثه لها البحر، تركتها على راحتها حتى أكملت سيمفونية العزف على أوتار جسدي برمته، ولم تترك تفصيلة أو جزءا لم تلمسه، كأنها تريد شم رائحة المغرب، والحق أنني أحسست كمغربي بالفخر، كون ناتاليا وشبيهاتها يحببن المغاربة، رغم تلك الرغبة القصيرة جدا، ولكن لا يمكن أن يهرب عن البال أن النقود كانت هي المفتاح لاقتحام جسد ناتاليا التي لم أعرف كيف وصلت إلى النادي، والتي لم تكشف عن حكايتها إلا بصعوبة وبعدما وعدتها ألا أحكي الأمر لأي أحد.
قالت ناتاليا:
– " كنت أعيش مع أسرتي في بوخارست في سعادة، وكان كل شيء متوفر لنا، ولم يكن والدي يتردد في تلبية كل رغباتنا، وحاجيات المنزل، إلى أن فوجئنا ذات يوم بطرده من العمل داخل شركة للماء والكهرباء التي كان يعمل بها، حيث اتهمه مدير الشركة باختلاس أموال، وهو الأمر الذي جعل والدي يتدهور صحيا ولم يصدق المؤامرة التي حيكت خيوطها بذكاء من طرف مدير الشركة وبعض أعوانه للتخلص منه، لأنه كان نظيف اليد، وهكذا أفلس والدي، وأكلنا كل ما نملك، وحتى النقود التي كانت في البنك اكتملت، وأصيب بوعكة صحية ألزمته الفراش لمدة طويلة إلى أن فارق الحياة، وتبعته والدتي التي قهرها الزمن وعانينا من الفقر، كنت أنا وحيدتهما ولي صديقة إسمها ناديا، هي التي عرفتني على ترايان الذي أوصلني إلى هذا الجحيم، أقصد النادي…"
قاطعتها قائلا:
-كيف ذلك ناتاليا؟
-إنه ثعلب.
-من؟
-ترايان.
-ماذا فعل بك؟
-باعني وقبض الثمن الضخم. باع لحمي للكلاب…
وفي هذه الأثناء، امتلأت جفون ناتاليا بالدموع، وتوقفت عن الكلام.
حزنت لكلام ناتاليا.
لم أعرف كيف أجفف دمعها الذي ملأ كيم الغرفة.
هل أحببتها؟
لا أدري.
إنه من الصعب الإجابة الآن عن هذا السؤال.
بعد برهة،تابعت ناتاليا قائلة:
- " ترايان أغراني. قال لي: إنني سأعثر عند وصولي إلى إشبيلية على عمل محترم. لكنني عندما وصلت… وجدت نفسي في شدق الذئب ( بيدرو)، الذي كان يدير ناديا ليليا، محتجزة مع بنات مغربيات، سوريات، برازيليات، رومانيات وروسيات وأوكرانيات وغيرهن في حبس، بيت واسع، لكنه قذر."…
- أجبروك عزيزتي على ممارسة الدعارة بالقوة.
- رغم رفضي، إلا أنهم لم يبالوا وعذبوني، ثم حبسوني في حجرة بمفردي مع الفئران.
- ياللقسوة…
- وأكثر من ذلك، كانوا يغتصبونني كل ليلة، ولم أسلم حتى من ذلك الحارس الأسود المفتول العضلات الذي كان يتلذذ بتعذيبي كل ليلة. كما تركوني جوعانة أسبوعا كاملا حتى كدت أموت، وياليتني مت.
لم أعد راغبا في سماع المزيد من هذه الحكاية. وقلت لنفسي: لدي اليقين الآن أن المغربيات أنفسهن لم يسلمن من هذه المعاملة القاسية. ولعنت الزمن، والحارس الأسود المفتول العضلات والجثة الصلعاء، والثعلب ترايان، وناديا، وماكينة الأرباح، وعبد القادر الذي ظهر فجأة أمامي وهو يحمل في يده اليمنى قارورة هنيكين، فيما يمسك مؤخرة إيليا بيده اليسرى. كنت قد نزلت من الغرفة، تاركا ناتاليا وحيدة، لم أكن راغبا في سماع حكايتها المؤلمة. هل أحببتها فعلا؟لا أدري.
في هذه الأثناء دخل يحيى ونوفل و مروان، راح نوفل ناحية ماكينة الأرباح كما يحلو له أن يسميها ، فيما هو الخاسر، لكنه يدعي دوما أنه ربح، وأن جيوبه مترعة بالنقود، التي يخفيها ولا يظهرها البتة. وشرع في اللعب دون أن يعير اهتماما لرهط الحوريات المترنحات ذوات النهود العامرة، الجالسات على الكراسي كما لوكن يعزفن داخل أوركسترا. وتوجه مروان ناحية شابة حسناء من أوكرانيا، تبادلا التحية، تضاحكا، أدركت توا أنهما تفاهما، وفي رمشة عين صعدا الدرج، عرجا على الشابة المكسيكية، ثم دلفا إلى الغرفة.
ظل يحيى وحيدا. لايريد معاشرة أي واحدة، يحيى لا يحب سوى المغربيات، وماذا لو لم تكن هناك مغربية في هذا النادي، وحتى إن كانت فإنها ستخفي هويتها، مع العلم أنني أعرف أنها موجودة. قالت لي ناتاليا: إن الطلب على المغربيات كثير وكبير، فأجسادهن شهية جدا، والأجنبي يعشق معاشرتهن كما تحبون أنتم الرجال المغاربة معاشرتنا. توجه يحيى صوب مغربية تتخفى بالتكلم بالإسبانية، لكنه سرعان ما جعلها تعترف بكونها مغربية، كنت أتابع تبادل الحديث بين الطرفين دون أن أفهم ما يتحدثان به، لكن يبدو أن المغربية تفاهمت مع يحيى الذي لم يرغب في معاشرتها، قلت له:
- ما اسمها؟
- جهينة
- إسم جميل. ربما تكون تكذب
- هذا شأنها.
- قد يكون اسمها خديجة. لا يهمني الإسم، كل ما يهمني كيف وصلت إلى هنا، وهل هناك ترايان مغربي هو الذي جلبها إلى هنا بإغرائها والكذب عليها لتلفى نفسها وسط الجحيم مثلها مثل ناتاليا؟.
- بالتأكيد.
- ألا تعرف أن مافيا تهريب اللحم الأبيض موجودة في كل مكان.
- أعرف…..
تحركت داخل النادي، كنت راغبا في الشراب. طلبت من البارمان أن يحضر لي قارورة هنيكين، جلبها لي بسرعة البرق، فتحتها بلهفة وشربت، أحسست كأن جوفي انتعش لحظتها بعدما جف حلقي، وتذكرت حكاية ناتاليا، وحزنت مرة أخرى، اتخذت لي زاوية بعيدة عن الضوضاء التي كانت تملأ النادي، تعجبت لذلك الإسباني الشبيه بالنسناس الذي يحسب نفسه يرقص فيما هو يتنطط، ويثب، وضحكت، جعلني هذا الغبي أضحك، وأنا الذي لم أعرف طعم الانشراح بعدما سمعت حكاية ناتاليا. نوفل ملتصق بالماكينة…مروان أتم مهمته، بينما يحيى واقف يتأمل جهينة دون أن يحاول الاقتراب منها، لعلها تذكره بأشياء لا يرغب في البوح بها.
نزلت ناتاليا من غرفتها. كانت ترتدي فستانا أسودا، استغربت لكونها لا تكشف عن جسدها مثل الأخريات، وهذا ماراقني فيها. كان لابد لي آنذاك من أن أكشف لها عن حبي. هذا الحب الذي ولد في إشبيلية بشكل فجائي. حب ماروكي لشابة رومانية في الثلاثين من عمرها، لكنني لم أكن اعرف ماهو رد فعلها. وهل يمكن لي أن أحب عاهرة، أم أنني لحظتها كنت ضريرا، ولم أراها على حقيقتها؟. ألم يكن نورها هو الذي بهرني وجعلني أغرق في قيعان بحرها؟. هل أحببت ناتاليا أم رومانيا؟ كيف لي أن أحب رومانيا وأنا أسمع عنها فقط ولم أزرها يوما، لكن جسد ناتاليا زرته ليلتين وأعرف كل تضاريسه وقممه الشبيهة بقمة مولدوفينو ونهرها الزلال، الرائق، الشبيه بنهر الدانوب.
وأنا هائم أفكر في ناتاليا التي تقف أمامي، تكلم إسباني تارة وتتكلم مع زميلتها التي لم أحفظ إسمها بسهولة تارة أخرى، وأنطقه بصعوبة: راياناه، دخل صديقي ريكاردو أستاذ اللغة الفرنسية بمؤسسة بإشبيلية، ومن غير أن ينبس ببنت شفة، ناولني سيجارا، كنت في أمس الحاجة إليه، وبدأت أدخن بنشوة، قال ريكاردو بابتسام:
- أدعوك لتناول العشاء غدا في بيتي، زوجتي ستسعد كثيرا برؤيتك.
- شكرا..
- تعرف أن بيتي وقلبي مفتوح لك في أي وقت.
- أعرف قلبك الكبير.
قبلت دعوة ريكاردو على العشاء. وراقتني الفكرة لكوني كائن ليلي، فأنا أعشق الليل حد الوله.
خرجت من النادي بعدما ودعت ناتاليا وريكاردو، وتركت نوفل مع ماكينته، علمت من يحيي أنه خسر 200 أورو في ليلة واحدة، ومع ذلك لم يتوقف عن اللعب، كما أني أعرف أنه سيقول لي إنه ربح ضعف ذلك المبلغ المالي، وسأحاول أن أتظاهر بتصديقي له حتى لا يغضب فطبيعته الطفولية تجعلني في كثير من الأحيان أشفق عليه.
لم أكثرت لعبد القادر وإيليا الملتصقين كخنزيرين، ولم أر أثرا لمروان، الذي لحست عقله العاهرة الأوكرانية.
وأنا أمتطي سيارة الأجرة الكبيرة البيضاء ذات الخطوط الزرقاء الرقيقة جدا التي خرمت الطريق، تذكرت جود ريكاردو الذي لم يعد يتحلى به أشخاص كثيرون في زماننا و في إشبيلية، فالمغربي هناك لا يحب أن يستقبل أي زائر للمدينة حتى لا ينفضح أمره ويكشف أمره كيف يعيش هناك، وهذا في واقع الأمر شيء لا يهمني بتاتا، ولكن وسواس الشيطان يثب في رؤوس لم تنضج بعد.
وبصوت عال، صحت في جوف الليل بعد أن خرجت من السيارة متوجها إلى الفندق الكبير، وأنا أرنو ببصري إلى الجهة الأخرى من الشارع حيث كانت فتاة وحيدة تسير ببطء كالسلحفاة:
- " انتظرني ياصديقي ريكاردو، فأنا قادم إليك في الموعد المحدد غدا…"
كان الظلام. وكان الصمت يخيم على الفندق الكبير.
صعدت إلى غرفتي رقم 701، ونمت بثيابي فوق السرير.
الفصل الثاني
الليلة الثانية: حكاية ناتاليا
بعد تناولي لأكلة سمكية شهية في مطعم" لا خودريا" خرجت على عجل، كان القمر بدرا مكتملا في السماء، وإسبان يتناولون طعام العشاء في مطعم جانبي بالخارج. لم ألتفت إلى أي شيء، شيء واحد كان يدور في رأسي هو معرفة حكاية ناتاليا. دلفت إلى سيارة أجرة كبيرة بيضاء ذات خطوط زرقاء رقيقة جدا، ما أن نطقت إسم النادي حتى انطلقت السيارة. وعلى الرغم من كوني لم أتحدث مع يحيى في أمر السهر في النادي الليلي الإشبيلي، إلا أنني كنت متيقنا أن رفاقي سيلحقون بي، وأنهم لن يتركوني، لكن صوتا باطنيا كان يدعوني إلى الإسراع لملاقاة ناتاليا، التي كنت أتصور أنها تنتظرني بعدما وعدتها بالمجيء في الغد. أذكر أنها قالت بأدب بالغ ظهر عليها فجأة، وبإسبانية رقيقة:
- أسطا مانيانا
- غدا ليلا عزيزتي
وقبلتها في شفتيها اللذيذتين كمذاق العسل. كانت إيليا تنظر إلينا بشكل جنوني، تكاد تفترسني بعينيها اللذين ستأكلهما الديدان. لكنني لم أكن أعيرها اهتماما، كانت إيليا قد خرجت توا من معترك حيواني، فأنا أعرف عبد القادر لن يرحمها لأنه متعود على ممارسة الجنس بطريقة بهيمية أو حمارية كما يقول، وما أن ينطقها حتى يكاد الجميع يستلقون على قفاهم من الضحك. تابعتني إيليا بنظراتها الزائغة، المتلهفة، كما لوأنها لم تشبع، وتريد المزيد من الوطء، أشحت بوجهي عنها، ووعدت ناتاليا بالعودة إلى النادي غدا.
وقفت سيارة الأجرة بالقرب من النادي، تكررت نفس الحركات…الدفع… ثم الدخول، لم أهتم بالجثة الصلعاء الجالسة على الهواء، ولا بالحارس الأسود الإفريقي المفتول العضلات والصامت كالصنم، ماكان يهمني بالدرجة الأولى هو رؤية ناتاليا حبيبتي، التي لا أعرف حقيقة إن كنت أحببتها بصدق، أم أنها فقط الرغبة الجنسية التي كانت أقوى مني، وهل يمكن أن يحب الواحد منا عاهرة شقراء حسناء وهو يدرك أنه سيعود يوما إلا مسقط رأسه، ولن تبق هناك سوى الذكريات. لا أعرف لماذا تذكرت يومها حبيبتي إيمان، كما أنني لا أعرف لماذا تذكرت بيتنا القديم في أصيلة، البيت الذي قضيت فيه سنوات جميلة لن تنسى، وتعرفت على بلبل، حيث كنا نقضي أوقاتا ممتعة في المجامعة داخل أقسام الدراسة التي كنا نجري في فضاءاتها ونضحك، ونحب بعضنا البعض كعصافير. لا أدري لماذا كلما وضعت قدمي على باب النادي تذكرت كل هذه الأشياء.
كنت قد شربت ليلتها كثيرا في مطعم " لا خودريا "، الأمر الذي زاد من اشتياقي إلى ناتاليا، التي ما أن لمحتني حتى ارتمت علي بجنون، وشرعت تقبلني بقوة، لم أتمالك نفسي، فأعطيتها ماكنت أملك من نقود، هي التي كانت في حوزتي آنذاك، وفي طرفة عين كنا في الغرفة، طبعا، صعدنا الدرج، عرجنا على الشابة المكسيكية التي قبضت بلهفة النقود و حسبتها لتتأكد من أنها مكتملة. أحببت قبل وطء ناتاليا أن نتحدث قليلا، لكنها رفضت، وبدأت رقصة الجسدين، رقصة ممتعة وأبدية، ولم تنتهي إلا بعد شهيق وزفير، أدركت ناتاليا أنني أحببتها منذ النظرة الأولى، تلك طريقتها في معرفة أصناف الرجال وما يخبئونه تحت ضلوعهم، فقامت بإطفاء النور وترك نور أحمر يغلف فضاء الغرفة لتتلذذ وتستمتع بكل قواها بهذا الماروكي الذي بعثه لها البحر، تركتها على راحتها حتى أكملت سيمفونية العزف على أوتار جسدي برمته، ولم تترك تفصيلة أو جزءا لم تلمسه، كأنها تريد شم رائحة المغرب، والحق أنني أحسست كمغربي بالفخر، كون ناتاليا وشبيهاتها يحببن المغاربة، رغم تلك الرغبة القصيرة جدا، ولكن لا يمكن أن يهرب عن البال أن النقود كانت هي المفتاح لاقتحام جسد ناتاليا التي لم أعرف كيف وصلت إلى النادي، والتي لم تكشف عن حكايتها إلا بصعوبة وبعدما وعدتها ألا أحكي الأمر لأي أحد.
قالت ناتاليا:
– " كنت أعيش مع أسرتي في بوخارست في سعادة، وكان كل شيء متوفر لنا، ولم يكن والدي يتردد في تلبية كل رغباتنا، وحاجيات المنزل، إلى أن فوجئنا ذات يوم بطرده من العمل داخل شركة للماء والكهرباء التي كان يعمل بها، حيث اتهمه مدير الشركة باختلاس أموال، وهو الأمر الذي جعل والدي يتدهور صحيا ولم يصدق المؤامرة التي حيكت خيوطها بذكاء من طرف مدير الشركة وبعض أعوانه للتخلص منه، لأنه كان نظيف اليد، وهكذا أفلس والدي، وأكلنا كل ما نملك، وحتى النقود التي كانت في البنك اكتملت، وأصيب بوعكة صحية ألزمته الفراش لمدة طويلة إلى أن فارق الحياة، وتبعته والدتي التي قهرها الزمن وعانينا من الفقر، كنت أنا وحيدتهما ولي صديقة إسمها ناديا، هي التي عرفتني على ترايان الذي أوصلني إلى هذا الجحيم، أقصد النادي…"
قاطعتها قائلا:
-كيف ذلك ناتاليا؟
-إنه ثعلب.
-من؟
-ترايان.
-ماذا فعل بك؟
-باعني وقبض الثمن الضخم. باع لحمي للكلاب…
وفي هذه الأثناء، امتلأت جفون ناتاليا بالدموع، وتوقفت عن الكلام.
حزنت لكلام ناتاليا.
لم أعرف كيف أجفف دمعها الذي ملأ كيم الغرفة.
هل أحببتها؟
لا أدري.
إنه من الصعب الإجابة الآن عن هذا السؤال.
بعد برهة،تابعت ناتاليا قائلة:
- " ترايان أغراني. قال لي: إنني سأعثر عند وصولي إلى إشبيلية على عمل محترم. لكنني عندما وصلت… وجدت نفسي في شدق الذئب ( بيدرو)، الذي كان يدير ناديا ليليا، محتجزة مع بنات مغربيات، سوريات، برازيليات، رومانيات وروسيات وأوكرانيات وغيرهن في حبس، بيت واسع، لكنه قذر."…
- أجبروك عزيزتي على ممارسة الدعارة بالقوة.
- رغم رفضي، إلا أنهم لم يبالوا وعذبوني، ثم حبسوني في حجرة بمفردي مع الفئران.
- ياللقسوة…
- وأكثر من ذلك، كانوا يغتصبونني كل ليلة، ولم أسلم حتى من ذلك الحارس الأسود المفتول العضلات الذي كان يتلذذ بتعذيبي كل ليلة. كما تركوني جوعانة أسبوعا كاملا حتى كدت أموت، وياليتني مت.
لم أعد راغبا في سماع المزيد من هذه الحكاية. وقلت لنفسي: لدي اليقين الآن أن المغربيات أنفسهن لم يسلمن من هذه المعاملة القاسية. ولعنت الزمن، والحارس الأسود المفتول العضلات والجثة الصلعاء، والثعلب ترايان، وناديا، وماكينة الأرباح، وعبد القادر الذي ظهر فجأة أمامي وهو يحمل في يده اليمنى قارورة هنيكين، فيما يمسك مؤخرة إيليا بيده اليسرى. كنت قد نزلت من الغرفة، تاركا ناتاليا وحيدة، لم أكن راغبا في سماع حكايتها المؤلمة. هل أحببتها فعلا؟لا أدري.
في هذه الأثناء دخل يحيى ونوفل و مروان، راح نوفل ناحية ماكينة الأرباح كما يحلو له أن يسميها ، فيما هو الخاسر، لكنه يدعي دوما أنه ربح، وأن جيوبه مترعة بالنقود، التي يخفيها ولا يظهرها البتة. وشرع في اللعب دون أن يعير اهتماما لرهط الحوريات المترنحات ذوات النهود العامرة، الجالسات على الكراسي كما لوكن يعزفن داخل أوركسترا. وتوجه مروان ناحية شابة حسناء من أوكرانيا، تبادلا التحية، تضاحكا، أدركت توا أنهما تفاهما، وفي رمشة عين صعدا الدرج، عرجا على الشابة المكسيكية، ثم دلفا إلى الغرفة.
ظل يحيى وحيدا. لايريد معاشرة أي واحدة، يحيى لا يحب سوى المغربيات، وماذا لو لم تكن هناك مغربية في هذا النادي، وحتى إن كانت فإنها ستخفي هويتها، مع العلم أنني أعرف أنها موجودة. قالت لي ناتاليا: إن الطلب على المغربيات كثير وكبير، فأجسادهن شهية جدا، والأجنبي يعشق معاشرتهن كما تحبون أنتم الرجال المغاربة معاشرتنا. توجه يحيى صوب مغربية تتخفى بالتكلم بالإسبانية، لكنه سرعان ما جعلها تعترف بكونها مغربية، كنت أتابع تبادل الحديث بين الطرفين دون أن أفهم ما يتحدثان به، لكن يبدو أن المغربية تفاهمت مع يحيى الذي لم يرغب في معاشرتها، قلت له:
- ما اسمها؟
- جهينة
- إسم جميل. ربما تكون تكذب
- هذا شأنها.
- قد يكون اسمها خديجة. لا يهمني الإسم، كل ما يهمني كيف وصلت إلى هنا، وهل هناك ترايان مغربي هو الذي جلبها إلى هنا بإغرائها والكذب عليها لتلفى نفسها وسط الجحيم مثلها مثل ناتاليا؟.
- بالتأكيد.
- ألا تعرف أن مافيا تهريب اللحم الأبيض موجودة في كل مكان.
- أعرف…..
تحركت داخل النادي، كنت راغبا في الشراب. طلبت من البارمان أن يحضر لي قارورة هنيكين، جلبها لي بسرعة البرق، فتحتها بلهفة وشربت، أحسست كأن جوفي انتعش لحظتها بعدما جف حلقي، وتذكرت حكاية ناتاليا، وحزنت مرة أخرى، اتخذت لي زاوية بعيدة عن الضوضاء التي كانت تملأ النادي، تعجبت لذلك الإسباني الشبيه بالنسناس الذي يحسب نفسه يرقص فيما هو يتنطط، ويثب، وضحكت، جعلني هذا الغبي أضحك، وأنا الذي لم أعرف طعم الانشراح بعدما سمعت حكاية ناتاليا. نوفل ملتصق بالماكينة…مروان أتم مهمته، بينما يحيى واقف يتأمل جهينة دون أن يحاول الاقتراب منها، لعلها تذكره بأشياء لا يرغب في البوح بها.
نزلت ناتاليا من غرفتها. كانت ترتدي فستانا أسودا، استغربت لكونها لا تكشف عن جسدها مثل الأخريات، وهذا ماراقني فيها. كان لابد لي آنذاك من أن أكشف لها عن حبي. هذا الحب الذي ولد في إشبيلية بشكل فجائي. حب ماروكي لشابة رومانية في الثلاثين من عمرها، لكنني لم أكن اعرف ماهو رد فعلها. وهل يمكن لي أن أحب عاهرة، أم أنني لحظتها كنت ضريرا، ولم أراها على حقيقتها؟. ألم يكن نورها هو الذي بهرني وجعلني أغرق في قيعان بحرها؟. هل أحببت ناتاليا أم رومانيا؟ كيف لي أن أحب رومانيا وأنا أسمع عنها فقط ولم أزرها يوما، لكن جسد ناتاليا زرته ليلتين وأعرف كل تضاريسه وقممه الشبيهة بقمة مولدوفينو ونهرها الزلال، الرائق، الشبيه بنهر الدانوب.
وأنا هائم أفكر في ناتاليا التي تقف أمامي، تكلم إسباني تارة وتتكلم مع زميلتها التي لم أحفظ إسمها بسهولة تارة أخرى، وأنطقه بصعوبة: راياناه، دخل صديقي ريكاردو أستاذ اللغة الفرنسية بمؤسسة بإشبيلية، ومن غير أن ينبس ببنت شفة، ناولني سيجارا، كنت في أمس الحاجة إليه، وبدأت أدخن بنشوة، قال ريكاردو بابتسام:
- أدعوك لتناول العشاء غدا في بيتي، زوجتي ستسعد كثيرا برؤيتك.
- شكرا..
- تعرف أن بيتي وقلبي مفتوح لك في أي وقت.
- أعرف قلبك الكبير.
قبلت دعوة ريكاردو على العشاء. وراقتني الفكرة لكوني كائن ليلي، فأنا أعشق الليل حد الوله.
خرجت من النادي بعدما ودعت ناتاليا وريكاردو، وتركت نوفل مع ماكينته، علمت من يحيي أنه خسر 200 أورو في ليلة واحدة، ومع ذلك لم يتوقف عن اللعب، كما أني أعرف أنه سيقول لي إنه ربح ضعف ذلك المبلغ المالي، وسأحاول أن أتظاهر بتصديقي له حتى لا يغضب فطبيعته الطفولية تجعلني في كثير من الأحيان أشفق عليه.
لم أكثرت لعبد القادر وإيليا الملتصقين كخنزيرين، ولم أر أثرا لمروان، الذي لحست عقله العاهرة الأوكرانية.
وأنا أمتطي سيارة الأجرة الكبيرة البيضاء ذات الخطوط الزرقاء الرقيقة جدا التي خرمت الطريق، تذكرت جود ريكاردو الذي لم يعد يتحلى به أشخاص كثيرون في زماننا و في إشبيلية، فالمغربي هناك لا يحب أن يستقبل أي زائر للمدينة حتى لا ينفضح أمره ويكشف أمره كيف يعيش هناك، وهذا في واقع الأمر شيء لا يهمني بتاتا، ولكن وسواس الشيطان يثب في رؤوس لم تنضج بعد.
وبصوت عال، صحت في جوف الليل بعد أن خرجت من السيارة متوجها إلى الفندق الكبير، وأنا أرنو ببصري إلى الجهة الأخرى من الشارع حيث كانت فتاة وحيدة تسير ببطء كالسلحفاة:
- " انتظرني ياصديقي ريكاردو، فأنا قادم إليك في الموعد المحدد غدا…"
كان الظلام. وكان الصمت يخيم على الفندق الكبير.
صعدت إلى غرفتي رقم 701، ونمت بثيابي فوق السرير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.