سان جرمان يسقط في فخ بوتافوغو    موكب استعراضي يبهر الصويرة في افتتاح مهرجان كناوة    تطورات حريق عين لحصن.. النيران تلتهم 20 هكتارًا والرياح تعقّد جهود الإطفاء    التصادم الإيراني الإسرائيلي إختبار لتفوق التكنلوجيا العسكرية بين الشرق والغرب    مؤسسة بالياريا تقدّم في طنجة مختارات شعرية نسائية مغربية-إسبانية بعنوان "ماتريا"    وزير الداخلية يودّع شقيقته الكبرى بجنازة هادئة وبدون بروتكول ومتواريا عن الأنظار    العيون.. رئيس "سيماك": التجربة التنموية في الأقاليم الجنوبية للمغرب نموذج يحتذى على الصعيد القاري    كوت ديفوار تجدد تأكيد "دعمها الكامل" للمبادرة المغربية للحكم الذاتي    ميسي يقود ميامي إلى هزم بورتو    انطلاق فعاليات النسخة الأولى من ملتقى التشغيل وريادة الأعمال بطنجة    رئيس النيابة العامة يجري مباحثات مع وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    حكومة أخنوش تصادق على إحداث "الوكالة الوطنية لحماية الطفولة" في إطار نفس إصلاحي هيكلي ومؤسساتي    "عائدتها قدرت بالملايير".. توقيف شبكة إجرامية تنشط في الهجرة السرية وتهريب المخدرات    تغييرات في حكامة "اتصالات المغرب"    الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يستقبل وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    بعيوي يكذب تصريحات "إسكوبار الصحراء"    ماركا: ياسين بونو "سيد" التصديات لركلات الجزاء بلا منازع    البيت الأبيض: موقف دونالد ترامب من إيران "لا يجب أن يفاجئ أحداً"    إصدار أول سلسلة استثنائية من عشرة طوابع بريدية مخصصة لحرف تقليدية مغربية مهددة بالاندثار    أمن طنجة يتفاعل بسرعة مع فيديو السياقة الاستعراضية بشاطئ المريسات ويوقف المتورطين    الحرب الامبريالية على إيران        الحكومة تصادق على تقنين استخدام "التروتينت" ووسائل التنقل الفردي بقوانين صارمة    المغرب والولايات المتحدة يعززان شراكتهما الأمنية عبر اتفاق جديد لتأمين الحاويات بموانئ طنجة المتوسط والدار البيضاء    الأحمر يلازم تداولات بورصة البيضاء    "مجموعة العمل" تحشد لمسيرة الرباط تنديدا بتوسيع العدوان الإسرائيلي وتجويع الفلسطينيين    نشرة إنذارية تحذر المواطنين من موجة حر شديدة ليومين متتاليين    الوداد الرياضي يتلقى هدفين نظيفين أمام مانشستر سيتي في كأس العالم للأندية    هل يعي عبد الإله بنكيران خطورة ما يتلفظ به؟    بنكيران يهاجم… الجماهري يرد… ومناضلو الاتحاد الاشتراكي يوضحون    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    أخبار الساحة    بيت الشعر في المغرب يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر    تعدد الأصوات في رواية «ليلة مع رباب» (سيرة سيف الرواي) لفاتحة مرشيد    سؤال الهوية الشعرية في ديواني .. « سأعبر جسر القصيدة» و «حصتي من الإرث شجرة» للشاعرة سعاد بازي المرابط        الحكومة تصادق على إحداث المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي    معرض بكين للكتاب: اتفاقية لترجمة مؤلفات حول التراث المغربي اللامادي إلى اللغة الصينية    الدوزي يُطلق العدّ التنازلي ل"ديما لباس"    كتل هوائية صحراوية ترفع الحرارة إلى مستويات غير معتادة في المغرب    الشعب المغربي يحتفل غدا الجمعة بالذكرى ال55 لميلاد صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد    إصابة حكم ومشجعين في فوضى بالدوري الليبي    طنجاوة يتظاهرون تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة وإيران    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    ست ميداليات منها ذهبيتان حصيلة مشاركة الرياضيين المغاربة في ملتقى تونس للبارا ألعاب القوى    بنك المغرب والمؤسسة المالية الدولية يوقعان شراكة لتعزيز الشمول المالي الفلاحي بالمغرب    بنهاشم بعد مواجهة مانشستر سيتي: لعبنا بشجاعة وخرجنا بدروس ثمينة رغم الخسارة    إيران تستهدف مستشفى بجنوب إسرائيل ونتانياهو يتوعدها بدفع "ثمن باهظ"    برلمان أمريكا الوسطى يُجدد دعمه الكامل للوحدة الترابية للمغرب ويرد على مناورات خصوم المملكة    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بعد الحصول على الباكالوريا ( 2)

في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي ،كنا نحن التلاميذ متلهفين لمتابعة دراستنا الجامعية بالعاصمة العلمية فاس.
كانت الأصداء التي تصلنا من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بظهر المهراز مثيرة ومشوقة إلى حد كبير.
أصداء الصراعات السياسية والإيديولوجية ،
أصداء الفصائل المتناحرة فيما بينها ،فصيل النهج الديموقراطي القاعدي والإسلاميون.....،
أصداء الحلقيات التي كانت تعقد هناك ،
أصداء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب "أوطم"،
صولات وجولات "الأواكس".
هذه الأجواء كان تأثيرها علينا كبيرا، فخلفت لدينا رغبة كبيرة في الذهاب إلى هناك.
رغبة اكتشاف هذه الجامعة التي أنجبت مناضلين وأطر وساسة أكفاء.
شعبة الحقوق كانت موضة العصر آنذاك ، فقد كان الجميع يتوجه إلى فاس باستثناء البعض الذي كان يفضل شعبا أخرى، كشعبتي الدراسات الإسلامية والآداب والعلوم الإنسانية الموجودتين بتطوان.
لذلك فنحن لم نحد عن هذه القاعدة، وقررت وأصدقائي شد الرحال إلى العاصمة العلمية قصد متابعة دراستنا الجامعية في شعبة الحقوق.
قبل ذلك ، وبعد حصولي على الباكالوريا مباشرة، جاء عندي صديقي إسماعيل يستفسرني إن كانت لدي الرغبة في اجتياز مباراة مركز تكوين المعلمين.
دارت في خلدي مجموعة من الأسئلة، فهذه تعد فرصة تاريخية لأحرق فيها المراحل. فًلِم لا أخفف الأعباء عن والدتي؟ لم سأثقل كاهلها بالمصاريف لمدة أربع سنوات أو أكثر ؟ لم لا ألعب دور الأب مبكرا وأكون المعيل لأسرتي؟
قلت لزميلي : ماذا علي أن افعل؟
قال :بداية علينا بجمع الوثائق المطلوبة اليوم قبل الغد، ثم نقوم بإيداع ملُفُيْ ترشيحنا لدى المصالح المختصة، وبعد ذلك ننتظر إلى أن توجه الدعوة لنا لاجتياز المباراة.
وإن رسبنا في المباراة ما مصير الجامعة ؟ هكذا تساءلت مستغربا.
قال: سنضرب عصفورين بحجر واحد، نقدم ملفي ترشيحنا لاجتياز المباراة ثم نتسجل بعد ذلك في الجامعة .
لقد كان جوابه مقنعا إلى حد بعيد.
لذلك كان علي أن استشير والدتي في الأمر وآخذ بركة والدي الذي لا يعرفني بأنني ابنه.
أبي كان طريح الفراش منذ زمن، ولقد عجز الأطباء عن إيجاد علاج له.
قالت لي والدتي بعدما أوضحت لها رغبتي : يا بني أنت وحيدي، سأرعاك وأتعهدك ما دمت حية . فسر على بركة الله واعلم أن دعائي لك لن يتوقف، وثقتي فيك لن تهتز.
كلماتها تلك ،ظلت تلازمني إلى اليوم.
في الساعة السابعة صباحا كانت الحافلة المتوجهة إلى تطوان تطوي بنا الأرض طيا .
كانت هذه المرة الثانية التي أزور فيها هذه المدينة التاريخية الرائعة.
المرة الأولى كانت سياحية بصحبة والدي سنة 1985
قد يتساءل البعض لماذا لم نقم بإيداع ملف ترشيحنا بمركز تكوين المعلمين بطنجة؟
الأمر بسيط، في تلك الفترة كان مركز طنجة يستقبل فقط الطالبات المعلمات ومركز تطوان يستقبل الطلبة المعلمين .
كان ذلك من سوء حظنا فعلا .
لما وصلنا مركز تكوين المعلمين المحاذي لنيابة تطوان ، وجدنا هناك طوابير من صفوف التلاميذ تنتظر دورها في إيداع ملف ترشيحها.
كان علينا الانتظار.
أثناء وقوفنا صفا، تجاذبنا أطراف الحديث مع بعض التلاميذ الذين جاؤوا من مدن مختلفة تنتمي لجهة الشمال على الخصوص.
كانت الكلمات التي سمعتها منهم عن مهنة التعليم تبدو للوهلة الأولى مقلقة وصادمة. فالكل كان يتحدث عن صعوبتها، عن التعيين في مناطق نائية، عن شظف العيش في البادية ، عن المبيت في الأقسام ، عن مخاطر الطرق غير المعبدة ، عن غياب الماء والكهرباء ،عن الراتب الهزيل ،عن ،عن، عن ........
كان الأمر جديدا علي فعلا، فلم أكن أعلم أن مهنة التعليم تكتنفها هذه الصعوبات.
نظرت إلى صديقي مستغربا ، فكانت تقاسيم وجهه تغني عن الجواب.
أخيرا جاء دورنا لإيداع ملفنا.
وكانت مفاجأة بانتظارنا،
مفاجأة من عيار ثقيل،
مفاجأة لا تخطر على بال.
لقد رُفض ملف زميلي إسماعيل، وقُبل ملفي.
رُفض ملفه لتجاوزه السن القانوني.
لقد كانت فكرته منذ البداية،
الفكرة التي لم يكتب لها أن تكتمل،
فيا لسخرية القدر.
بعد جولة قصيرة بتطوان تعرفنا فيها على بعض معالمها التاريخية كالقصر الملكي والفدان وباب العقلة وباب النوادر والأبنية ذات الطابع الاسباني,عدنا أدراجنا إلى طنجة.
كانت الصورة التي رسمتها عن مهنة التعليم في ذلك الحوار السريع مع التلاميذ قاتمة ، لذا فقد كان علي أن أختار، هل أجتاز المباراة إن نودي علي ، أم أحقق حلمي في أن أتابع دراستي في جامعة ظهر المهراز ؟
صديقي إسماعيل كان هادئا أثناء عودتنا إلى الديار.فقد أصبح طريقه واضحا الآن .
في أواسط العطلة الصيفية من سنة 1993 ، قررنا مع جماعة من أصدقائنا التوجه إلى فاس لوضع ملفنا لدى إدارة الكلية.
كنا سبعة . استقلنا القطار ليلا ،
لقد كان قطارا من نوع خاص،
قطارا ينتسب للعصور الوسطى،
ويا ليتني لم أركبه..
كانت أول مرة أضع قدميًّ في وسيلة النقل هذه ،
وللمرة الأولى أسافر بعيدا عن طنجة ،
لم يسبق لي أن سافرت خارج مدينتي سوى إلى مدينتيْ تطوان وأصيلة .
كانت رحلة تاريخية بامتياز،
رحلة عانيت فيها الشيء الكثير.
كان القطار آنذاك يضم أربع درجات.أرخص درجة هي الرابعة ، ومع فقرنا المدقع وحاجتنا للنقود اتفقنا على السفر في الدرجة الأخيرة.
ثمن الرحلة آنذاك يتراوح بين خمسة وثلاثين إلى أربعين درهما إن لم تخنني الذاكرة. قاطرات القطار ذات اللون الأخضر الداكن تبدو من الخارج مهترئة تماما. داخل المقصورة كان الوضع أسوأ بكثير،فقد جلسنا على كراسي من لوح صلب بكل ما تحمله الكلمة من معنى .
مؤخراتنا في تلك الليلة عاشت وضعا عصيبا ،
لقد تورمت من جراء الجلوس الطويل،
فقد كانت الرحلة طويلة وشاقة، استمرت لأكثر من ثمان ساعات.
بين الفينة والأخرى كنا نقوم من مكاننا حتى نمنح مؤخراتنا بعض الراحة.
لقد كنا قاسيين معها،
وكان من الضروري أن نقسو عليها،
فقد كنا بحاجة إلى المال،
ولا نريد أن نثقل كاهل أسرنا بمصاريف جديدة.
كانت ملامح الراكبين المسافرين معنا في تلك الليلة تنبئ بكل شيء.فقر وبؤس وتهريب وجريمة.....
حذرني أصدقائي من النوم،غفوة بسيطة تساوي ضياع النقود والملابس.
وضعت نقودي في أماكن متفرقة من جسدي وركزت على جواربي التي وضعت فيها حصة أكبر.
تذكرت مثلا كنت أحفظه عن ظهر قلب، "لا تضع البيض كله في سلة واحدة"
أثارني طريقة جلوس المسافرين، فهي تختلف من شخص لآخر.فهناك من يحتل المقصورة لوحده ليتمدد كيفما شاء ،وهناك من ينام أرضا ، وهناك من يتكئ عليك بلا استئذان ، وهناك من يقلع حذاءه ليريح قدميه فتنبعث منهما رائحة تزكم الأنوف ، وهناك من كان شخيره يصل صداه إلى المقصورات المجاورة.
من لحظة لأخرى كنا نرى بعضا من الراكبين لا يستقرون في مكان معين، كانوا يقبلون ثم يدبرون.
إلى أين يذهبون ؟ لا أعلم.
قيل لي فيما بعد بأن هؤلاء مطاردون من مراقبي التذاكر.
بعض النسوة المسافرات يبدون لي أسمن بكثير ، وكأنهن حاملين بعشرة توائم.
استفسرت عن الأمر ، فقيل لي أنهن يهربن السلع بوضعها تحت ملابسهن.
إنه النبوغ المغربي !!!!!!
أحسست بعض مضي الوقت بأن مثانتي امتلأت، لذا فقد كان علي أن أفرغها في مرحاض ،
أرشدني أحدهم إليه.
كان مرحاضا مختلفا عن المراحيض التي عرفت. فقد كان المسافرون يضعون حاجتهم أرضا بشكل عادي .
يضعون حاجتهم فوق حاجة الآخرين!!!
كانوا متعودين على ذلك. هكذا اعتقدت.
تقززت نفسي فتقيأت لتوي، وكدت أن أضع حاجتي في ملابسي.
نصحني أصدقائي بأن أفتح باب القاطرة عندما يتوقف القطار ، ثم أقضيها في الهواء الطلق،
خجلت من الأمر كليا وامتنعت،
احتفظت بما في مثانتي إلى نهاية الرحلة.
كان علي أن أتحمل.
كان الكرى قد بدأ يداعبني، فأحسست بدوار في رأسي ، بعض النظرات الموجهة نحوي تنبئ بشر مستطير، لذا فقد بقيت متيقظا.
فلتصبر يا نور، لم يبق إلا القليل وتصل، سيكون لديك متسع من الوقت لقضاء حاجتك.
أخيرا وصلنا،أخيرا انتهت المعاناة.كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحا ،
الشمس مشرقة وتنذر بيوم قائظ.
أول شيء فعلته بعد النزول من القطار هو الذهاب إلى بيت الراحة ،
كانت راحة ما بعدها راحة.
ما أجمل أن يستريح الإنسان !!!
لقد أنساني ذلك عذاب الرحلة.
كان فاضلا لدينا ساعتين قبل التوجه إلى الكلية ،لذا فقد بحثنا عن مقهى لكي نتناول وجبة الفطور.
تناولنا وجبة بئيسة شبيهة بالمقهى التي ارتدناها.
في طريقنا للكلية كنت أسرح عيني عبر نافذة الحافلة لأرى بعضا من معالم هذه المدينة التاريخية التي ذاع صيتها عبر العالم.
تمكنا من التسجيل في ظرف وجيز، ثم قمنا بجولة استطلاعية لذلك الحرم الجامعي الذي كنا نسمع عنه دون أن نراه.
كان علينا أن نقوم بشئ آخر. أن نؤمن منزلا للكراء في انتظار أن يسمح لنا بالسكن في الحي الجامعي.
كنا مضطرين لذلك خوفا من عدم إيجاد سكن عند مطلع الموسم الدراسي.
وهكذا خرجنا نبحث عن السكن في يوم شديد الحرارة.
تلك الحرارة التي لم أر لها مثيلا في حياتي .
طوال اليوم ونحن نبحث عن سكن يضمنا نحن السبعة بثمن مناسب.
كان الإجهاد قد أخذ مني كل مأخذ.
جلست على درج لأستريح أثناء مفاوضة أصدقائي لإحدى السيدات حول ثمن الشقة.
فأخذتني سنة من النوم.
أيقظني صديقي ليبشرني بأنهم تمكنوا من كراء شقة بحي "الليدو " المشهور. فإذا بي أرى قميصي الأبيض قد اكتسى حمرة قانية.
كانت الدماء تسيل من أنفي دون أن افطن للأمر.
لقد فعلت الحرارة المفرطة فعلتها إذن . وكان علي أن أعود بذلك القميص المخضب بدمي إلى طنجة وسط دهشة كل من رآني.
أدينا لصاحبة الشقة واجب الكراء الذي حدد في 1500 درهم للشهر، والذي كان يشكل مبلغا ضخما في ذلك الوقت. طلبت منا أن نضيف لها ثمن شهر آخر.
لقد كانت جشعة .
أخيرا سأعود.
سأعود لحضن أمي ،لحنان أمي ، لخبز أمي.
عدنا إلى طنجة في نفس القطار الذي ركبناه.
وتكررت المعاناة بشكل آخر.
مازال صداها يتردد إلى اليوم.
عند مطلع الموسم الدراسي من سنة 1993 ،عدنا مجددا إلى فاس حاملين معنا أمتعتنا.
هذه المرة لم أعان مع القطار، فقد تألفت قلوبنا وتصافت.لقد صرنا أصدقاء.
كانت الشقة التي اكتريناها بالعاصمة العلمية رحبة وواسعة ،
آه ، آه ، بطوننا تئن من الجوع. علينا أن نعد طعام الغذاء،
تذكرت أمي، تذكرت أطعمتها اللذيذة ، فسال لعابي.
نظرنا إلى بعضنا البعض نظرات استفهام، ثم انفجرنا بعدها ضاحكين.
لقد علمنا بأن لا أحد منا يعرف الطهي.
أدركنا حينها الدور الهام التي تلعبه الأم والأخت والزوجة والمرأة بصفة عامة في حياتنا.
كان دورا رياديا لا ينكره سوى الجاحدين.
فتحية لهن، ملؤها المحبة والمودة والحب والاعتزاز.
كان من الضروري أن يتطوع احدنا لكي يطهو لنا أكلة سريعة حتى نسكت بطوننا.
قام صديقي إسماعيل وأعلن نفسه طاهيا بدون تزكية منا. اقترح علينا أكلة مشهورة آنذاك عند الطلبة.
كانوا يسمونها في فاس ب " بي، إم "وفي الشمال يسمونها ب "أتلتيك".نسبة لفريق اتلتيكو مدريد الإسباني ذي الأقمصة الحمراء والبيضاء.
لقد كانت أكلة البيض مع الطماطم التي ذاع صيتها آنذاك بين الطلبة.
لم يخترها لأنه يجيد طهوها، بل لأنها أرخص أكلة في ذلك الوقت.
اكتشفنا ذلك بعد فوات الأوان.
خرج إسماعيل ليتبضع من دكان قريب وعاد بسرعة. كنا في الحقيقة نتضور جوعا ولم يكن باستطاعتنا الأكل في المطعم المجاور لنا.
فقد كان علينا أن نقتصد المال لنصرفه في أشياء أهم.
وهكذا قسونا على بطوننا كما قسونا على مؤخراتنا.
أعد صديقنا الأكلة بسرعة غريبة، بلا ثوم ولا قزبر ولا معدنوس.
ومع ذلك ، هجمنا كفريق واحد على الصحن. فأكلنا بشراهة دون أن نتذوق طعم الأكل ، المهم أن نسكت بطوننا التي تستغيث.
وفجأة ، أحسسنا بشيء غير عادي أثناء المضغ ،
شيء ما كان صلبا ،
ويحدث صوتا....
اضطررننا للتوقف بحثا عن ذلك الشيء غير العادي . توقفنا في وقت واحد.
وإذا بنا نجد أن اللعين قد طها البيض بقشوره .
اعتقد بأن البيض يُكسر ثم يوضع بمُحه وبياضه وقشوره مع الطماطم.
أراد لنا الوغد وجبة غذاء كاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ويالها من وجبة !!!
تعالت ضحكاتنا وقهقهاتنا. وصار الأمر نكتة نلوكها بيننا في قادم الأيام.
بعد ذلك أعدنا هجومنا على الصحن فأجهزنا عليه حتى صار ناصع البياض .كان الجوع هو السلطان، وكان لزاما علينا أن نأتمر بأوامره.
زميلي إسماعيل صاحب الأكلة العجيبة أصبح محاميا وحقوقيا مشهورا بطنجة . في كل مرة ألتقي به نتذكر الأكلة العجيبة فننفجر ضاحكين.
كانت ذكريات رائعة فعلا.
لم يمر على وجودي بفاس سوى أسبوع حتى توصلت ببرقية مستعجلة من والدتي تفيد بأنه علي الحضور على وجه السرعة لطنجة قصد الالتحاق بمركز تكوين المعلمين بتطوان لاجتياز المباراة.
ذهبت لتطوان هذه المرة وحدي، فقد أصبحت شخصا متمرسا على السفر.
كانت هناك طوابير من الصفوف في انتظار حلول دورها.
قيل لي بأن الامتحان شفهي فقط.
وصل دوري فتقدمت بخطى ثابتة.
كان هناك أستاذان.أعطياني فقرة من كتاب لصاحبه أبي العلاء المعري لأقرأها عليهما.
كان الأمر بسيطا بالنسبة لي فقد كنت متعودا على القراءة.
سألاني عن قواعد اللغة العربية وسألاني عن مدى معرفتي بحياة ومؤلفات أبي العلاء المعري.
فأجبت على جميع الأسئلة ، فقد كانت معلوماتي غزيرة في الموضوع . والفضل كله يعود لوالدي رحمه الله.
أحد الأستاذين كان يريد أن يتحداني بأسئلة أخرى معجزة . غير أن الأستاذ الآخر قال له: كفى.
كلمة "كفى" كانت إعلانا صريحا بنجاحي في المباراة.غير أنه في مقبل الأيام ساورتني شكوك ووساوس بعد أن تناهى إلى سمعي بأنه من يدفع المال يكون حظه أوفر في النجاح .
لذلك ، لم أنتظر نتيجة المباراة وعدت مجددا إلى فاس .
كان لي الشرف أن أحضر بعض المحاضرات وبعض الحلقيات في تلك الجامعة التاريخية .
أول محاضرة حضرتها كانت في القانون الدستوري للأستاذ "المرغدي"،
وقفت مبهورا من حجم ذلك المدرج .فقد كان مملوءا عن آخره ، فيه رأيت جميع شرائح المجتمع المغربي ممثلة ، الشمالي والغربي والشرقي والجنوبي.الفقير والغني ، الشاب والكهل ، اليساري واليميني ، الوسطي والمتطرف ، السافرة والمتحجبة والمنقبة.
ذلك المدرج جمع جميع الأطياف حتي الأفارقة السود، لا هدف لهم سوى طلب العلم.
حاول بعض الطلبة استقطابي لفصيلهم ،لكن لم تكلل مجهوداتهم بالنجاح ، فقد توصلت ببرقية في اليوم ذاته تخبرني بأني قد أصبحت طالبا معلما وعلي الالتحاق بمركز تكوين المعلمين بتطوان فورا.
آنذاك كان علي أن اتخذ أهم قرار في حياتي.
قرارا سيحدد مصير مستقبلي.
إما البقاء في فاس أو الذهاب لتطوان .
وضعت نصب عيني ألام والدتي ومرض أبي ومستقبل أختي ، لقد كانوا جميعا في حاجة إلي ، بالرغم من أن والدتي قالت لي بأنها ستدعمني ماديا ومعنويا في مسيرتي الدراسية.
أصدقائي الطلاب ثبطوا من عزيمتي ،عددوا لي مشاكل التعليم. حذروني من الانسياق وراء العاطفة عوض استخدام العقل.
انزويت في ركن من أركان المنزل، جلست الأربعاء، وشرعت في تفكير معقلن وعميق.
كان علي أن أقرر سريعا .
في الثامنة صباحا من اليوم الموالي كنت جالسا في القسم أستمع لأول درس في مادة علوم التربية بمركز تكوين المعلمين بتطوان.
وهكذا اغتلت حلمي الجامعي من أجل عيون عائلتي.
كان علي إذن أن أشرع في تجربة جديدة ،
تجربة مليئة بالأحداث والوقائع ،
تجربة من نوع فريد ،
وفذ.
تجربة اكتشفت من خلالها أنني كنت معلما بالفطرة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.