بعد أن وضعت "حرب أكتوبر" أوزارها وعادت الألسن إلى عقالها و"المدفعيات الثقيلة" إلى ثكناتها، وتوقفت البيانات النارية، وتفرق شمل الأحزاب التي كانت بالأمس القريب تضرب الدف وتجر الكمان في جوقة "البام"، وبدأ حميد شباط يفتي في ضرورات المرحلة والدفاع عن الديمقراطية والاستماع لكلمة الصناديق، ولشكر على مسافة قريبة من الانضمام إلى حكومة يقودها حزب كان يخشى أن يسير بالمغرب للهاوية ومآلات الشرق الأوسط الدرامية، فيما كسر الزعيم المفدى، إلياس العماري، أفق انتظار الجميع بحديثه عن الحاجة إلى مصالحة شجاعة، على طريقة "لعّاب ولا حرّام"، بعد كل هذا، لنا أن نسأل سياسيّينا: إلى أين مع هذه المواقف التي لا ترسو على قرار؟ قبل الانتخابات، كنتم تروجون بين الناس تلك الفكرة الركيكة والشعبوية التي تقوم على ربط الأوضاع الصعبة في الشرق الأوسط بالإسلام السياسي. إذا كانت مصر تتعرض لطغيان السيسي فالسبب هو الإخوان، وإذا كانت سوريا تتمزق وتستحيل إلى أكبر وصمة عار على جبين الإنسانية، فالسبب ليس هو بشار الأسد، وإنما الإخوان، وإذا كانت سياحة تونس تنهار، فبسبب هجمات إرهابية يحتمل أن من يقف ورائها إخوان، ويمضي الكلام الفارغ إلى أن يصير الإخوان هم السبب في سقوط بغداد. وبهذا التفكير الشارد كنتم تريدون منافسة بنكيران، وكأن الشعب شيوعي كابرا عن كابر، أو كأنه لم يتابع تفاصيل كل نكسة من نكسات الشرق الأوسط بأم عينيه.. هل يمكن الآن أن ترقوا إلى ذكاء الناس؟ الناس الذين لا يغيظهم شيء أكثر من نهب المال والخيرات ومراكمة الامتيازات وتوريث الكراسي. الشعب الذي لا يتشاطر بالضرورة قراءتكم للواقع السياسي وتلك التحليلات المتعالية التي تعتنقونها بتطرف، و"ممسوقش" لمن يتخوف من حزب بنكيران أو لا يتخوف؟ ولا ينظر إلى نفسه من فوق، بعين النخب والمحللين وأصحاب المصالح، ينظر إلى نفسه من كل الزوايا والجهات، بعين مفتوحة متفلتة من التصنيفات السهلة، ومحاولات التأثير الفجة، ولا يريد حزبا خارقا للطبيعة، يريد فقط حزبا لا يخرق جيوب الدولة.. هل تفهمون أن الناس لا يتقبلون ذلك التعريف للسياسة الذي يجعلها تتسع لشرعنة القفز من ضفة لأخرى، وتبني موقف والانقلاب عليه غدا، هذه بدعة مغربية، والناس تراها نفاقا، لذا لا يرى الكثيرون في مشاركة حزب الميزان والاتحاد الاشتراكي (المحتملة) في الحكومة، على الأقل، في ظل القيادة الحالية للحزبين، شيئا آخر سوى بحث عن المصلحة وحنين للحقائب الوزارية.. في عمود سابق، تحدثت عن الهوة التي تتشكل بين الناخب ومن يمثله بعد مرور الانتخابات، حيث يتناسى النائب الوعود التي قطعها على نفسه، وينتقل مع زملائه إلى تشكيل أقلية حاكمة، تخدم نفسها وعشيرتها عبر الكرسي السحري، على حساب عشيرة الوطن، وهذا سلوك يقتل السياسة ويكرّه الناس في كل ما يأتي منها. صحيح. لكن نتائج الانتخابات الأخيرة، غيّرت الأمر قليلا، صار هذا السلوك لا يقتل السياسة، وإنما السياسي الذي يحترفه، والحزب الذي يخترقه. لعبتكم الأثيرة بدأت تتكسر.