نقابة تعليمية ترفض أي ابتزاز يطال ملف الأساتذة الموقوفين وتطالب بالوفاء بالالتزامات والحد من الانتهاكات    موظفو الجماعات الترابية ينسحبون من الحوار مع وزارة الداخلية    برئاسة المغرب .. مجلس حقوق الإنسان الأممي يرفض الإعادة القسرية للمهاجرين    الملك محمد السادس يوجه خطابا إلى القمة الثالثة والثلاثين لجامعة الدول العربية    ميناء طنجة.. تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بنسبة 30% حتى متم أبريل    تقرير: إحداث أزيد من 42 ألف مقاولة ذات شخصية معنوية نشطة بجهة الشمال    الملك: التهجير القسري للفلسطينيين أمر مرفوض وقطاع غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية الموحدة    محمود عباس يتهم حماس ب"توفير ذرائع" لإسرائيل لتهاجم قطاع غزّة    بمشاركة المغرب.. إنطلاق أعمال الدورة ال 33 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة    مقترح "إلغاء الفار" ينتظر تصويت الأندية الانجليزية    بسبب عدم الامتثال.. شرطي مرور يشهر سلاحه والسلطات تحقق    حادثة غريبة.. استخراج جثة شابة بعد أكثر من سنة على وفاتها    المغاربة أكثر العمال الأجانب مساهمة في نظام الضمان الاجتماعي بإسبانيا    ولاية أمن طنجة تحتفل بالذكرى ال 68 لتأسيس الأمن الوطني    طقس الجمعة.. أمطار ضعيفة و متفرقة وتشكّل سحب بالشمال وحرارة بالجنوب    المغرب يثير من جديد موضوع استقلال الشعب القبايلي في الامم المتحدة    القمة العربية: الملك محمد السادس يعتبر محاولة إسرائيل فرض واقع جديد في غزة "أمرا مرفوضا"    على هامش تكريمه.. البكوري: مهرجان الريف يسعى لتقريب الإبداعات الناطقة بالأمازيغية إلى الجمهور التطواني    عائلات "مغاربة ميانمار" تحتج بالرباط .. وناجية تكشف تفاصيل "رحلة الجحيم"    هذه حجم الأموال التي يكتنزها المغاربة في الأبناك.. ارتفعت بنسبة 4.4%    وفاة الفنان أحمد بيرو أحد رواد الطرب الغرناطي    أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    "حماة المال العام" يستنكرون التضييق على نشاطهم الفاضح للفساد ويطالبون بمحاسبة المفسدين    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    كأس العرش.. مولودية وجدة يضرب موعدًا لمواجهة الرجاء في النصف النهائي    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    باحثون يعددون دور الدبلوماسية الأكاديمية في إسناد مغربية الصحراء    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    صعود أسعار النفط بفضل قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    مطالب لوزارة التربية الوطنية بالتدخل لإنقاذ حياة أستاذ مضرب عن الطعام منذ 10 أيام    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمييز الديني والسياسي عند الأستاذ محمد عبده – بقلم سعد الدين العثماني
نشر في التجديد يوم 20 - 02 - 2009


كنا تحدثنا في مقال سابق، تحت عنوان الدين والسياسة تمييز لا فصل1, عن أن التمييز بين الديني والسياسي وعدم الوصل التام بينهما إلى حد التماهي، هو الأصل في فكر المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية والأصولية ونظار الفكر السياسي في الحضارة الإسلامية. وقد قام العديد من المفكرين والمجددين في العصر الحاضر بإحياء المبادئ العامة للعلاقة بين الديني والسياسي، نأيا بها عن مخلفات عصور الانحطاط والجمود من جهة، وعن تأثيرات الفكر الكنسي الغربي المختلف جوهريا مع المنظور الإسلامي في الموضوع. ومن المجددين الذين بينوا هذه القضية بدقة ووضوح معرفي ومنهجي الأستاذ محمد عبده. لذلك نسلط هنا الضوء على أهم مفردات فكره في هذا المجال. التعريف والسياق يعتبر الأستاذ محمد عبده (1849 /1905) رائدا في تجديد الفكر الإسلامي الحديث، وصاحب مدرسة أحدثت ثورة فكرية ذات تأثيرات واسعة، وأستاذ جيل كامل من رواد الإصلاح في المشرق العربي، وفي مناطق متعددة من العالم الإسلامي. وقد ثبتت اتصالاته بالعديد من العلماء والشباب في المغرب الكبير من خلال المراسلات أو الزيارات أو المقالات في الصحف والمجلات2. وهكذا كان للأستاذ الإمام ـ كما يقول عباس محمود العقاد ـ تلاميذ في أرجاء العالم الإسلامي شرقا وغربا، أكثرهم من أصحاب الفكر المتدينين، الذين يقومون بواجبهم في كل بلد إسلامي كما قام به الإمام في وطنه. فيكافحون الجمود من جهة، ويكافحون التفرنج الذميم من جهة أخرى3. وعلى الرغم من أن جهود محمد عبده تركزت في مجال الإصلاح الديني بمختلف مستوياته حثا على الاجتهاد ومحاربة للتقليد والجمود وتثمينا للعلم وعطاءات الفكر الإنساني، وإصلاحا لطرق تدريس العلم الديني ومناهجه، إلا أنه ربما يكون الشخص الوحيد الذي استطاع أن يقدم إجابات متكاملة ضمن بناء فكري متناسق في موضوع الإصلاح والنهضة عموما، ولذلك فإن برهان غليون يصفه بأنه الوحيد الذي حاول أن يقدم جوابا عمليا وشاملا لكل المسائل المرتبطة بالنهضة، وأن يدرج في هذا الجواب العامل الديني، ليخرج منه برؤية توليفية، تجمع بين ضرورات تمثل عناصر الحضارة، وحاجات الحفاظ على الهوية والوحدة الاجتماعية4 . كما يعتبر محمد عبده كما يقول الدكتور محمد عمارة عقلاً من أكبر عقول الشرق والعروبة والإسلام في عصرنا الحديث5, لأنه الأكثر ثراء في الفكر والتنظير، والأكثر تأثيرا في عصره ومن بعد عصره. وقد كان محمد عبده ـ على غرار بعض من سبقه وخصوصا أستاذه جمال الدين الأفغاني ـ يعتبر الإصلاح الديني أساس كل إصلاح، ويضيف إلى ذلك اعتبار الاهتمام بالتربية والتعليم أداة الإصلاح الكبرى. وهو وإن لم ينجح في جعل تحقيق النهضة الشاملة التي كان يصبو إليها واقعا معيشا، فإن محاولات الذين كانوا يريدون بناء النهضة على تقليد النظم والمفاهيم الغربية كانت أكثر فشلا. ففي حين بقي فكر محمد عبده مصدرا لإصلاح ثقافي وفكري ومؤثرا تأثيرا كبيرا على الرأي العام إلى اليوم، انعزل الفكر الليبرالي العربي اللاديني تماما في العقود التي أعقبت وفاة محمد عبده، بل إن الفكر الليبرالي الحديث نفسه اضطر من أجل المحافظة على وجوده إلى التقرب من الإسلام والاحتماء به6. والذي جعل فكر محمد عبده يكون له هذا التأثير واسع المدى هو تجديديته، ونجاحه إلى حد كبير في صياغة منهج ينطلق من الانسجام بين مبادئ الإسلام ومقتضيات شريعته من جهة، ومعطيات الحضارة الإنسانية المعاصرة من جهة أخرى. وهو ما برزت تأثيراته على مختلف جوانب إنتاجات الرجل الفكرية واجتهاداته الدينية7. وعلى المستوى السياسي أسهم محمد عبده في النضال السياسي إلى جانب أستاذه جمال الدين الأفغاني فانضم إلى الحزب الوطني الحر الذي أسسه الأفغاني، وهو حزب ناضل من أجل صد التدخل الأجنبي الزاحف آنذاك على مصر، واستخلاص مصر للمصريين من أيدي الشراكسة والأتراك، ومن أجل إقامة الحياة الدستورية النيابية. وانصبت العديد من كتابات محمد عبده الصحفية على مواضيع في السياسة والاجتماع والشؤون العامة نقدا للواقع ومناداة بالإصلاح واقتراحا للبدائل. ولما نفي الأفغاني من مصر سنة 1879م أبعد محمد عبده عن التدريس ونفي إلى قريته محلة نصر. وصدر عفو عنه سنة 1880, وعين محررا في صحيفة الوقائع المصرية الرسمية، ثم رئيسا لتحريرها. وقد اشتغل في هذه المرحلة بالصحافة والسياسة وانضم إلى العرابيين مع أعضاء الحزب الوطني الحر، وساند الثورة العرابية بكل قواه بعد اندلاعها (1881) على الرغم من ملاحظاته عليها، فلما انهزمت سجن ثلاثة أشهر، ثم حكم عليه بالنفي خارج البلاد لثلاث سنوات، امتدت لتصل إلى ست سنوات. انتقل الإمام إلى بيروت ثم إلى باريس (1883)، حيث أسس وأصدر مع الأفغاني صحيفة العروة الوثقى التي كانت تتضمن مقالات تندد بالاستعمار وتدعو إلى التحرر من الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله، فتم إيقافها بعد سنة تقريبا. ثم عاد مرة أخرى إلى بيروت (1885) حيث اشتغل بالتدريس والتأليف والتوعية وبث فكره الإصلاحي. وتجول في العديد من الدول ودعا لجلاء الانجليز. وبعد عودته إلى مصر (1899) عين قاضيا أهليا ثم مستشاراً في محكمة الاستئناف، كما عين عضوا في مجلس إدارة الأزهر، قبل أن يصبح مفتياً للديار المصرية. وكان أول مفت مستقل في مصر، إذ كان منصب الإفتاء يشغله قبل ذلك شيخ الجامع الأزهر. مفردات الفكر السياسي لدى محمد عبده لقد أسهم محمد عبده فترة من حياته في العمل السياسي المباشر، وكان له فيه بلاء، لكن إسهامه الأكبر ـ كما قلنا ـ كان في بث فكر سياسي إسلامي تجديدي، مبني على الانسجام بين معطيات الشرع ومعطيات الحضارة المعاصرة. وبمراجعة كتابات الأستاذ الإمام في الموضوع نفاجأ ليس فقط بغزارتها، ولكن أكثر من ذلك بالوضوح الفكري والمنهجي في تناولها. وتعتبر من أهم مضامين الإصلاح الديني الذي بشر به. ونستعرض هنا أهم ما نراه مفردات هذا الفكر السياسي. 1 ـ نفي وجود السلطة الدينية في الإسلام فقد رفض محمد عبده رفضا قاطعا كون الإسلام يريد إنشاء سلطة دينية في المجتمع بأي شكل من الأشكال. فعند استعراض محمد عبده لأصول تعامل الإسلام مع العلم أورد منها أصل قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، ويمتدحه بقوله: وما أجله من أصل. فذهب إلى أن الإسلام قد هدم أي سلطة دينية ومحا أثرها، ولم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه. على أن رسول الله كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمنًا ولا مسيطرًا، قال الله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، (...)، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، يرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده. وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام، على آخر، مهما انحطت منزلته فيه، إلا حق النصيحة والإرشاد8. ويستدل محمد عبده على ذلك بعدة مقتضيات شرعية منها أن المسلمين يتناصحون، والأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار. و لا يجوز لها ولا لأحد منها أن يتجسس على عقيدة أحد، فالإيمان أمر بين العبد وربه وليس عليه رقيب سوى الله وحده. كما لا يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا واسطة بين العبد وربه. وعلى كل مسلم أن يحصل من الوسائل ما يؤهله لهذا الفهم. ثم يختم قائلا: فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. ويستعرض محمد عبده رأي بعض الغربيين الذين يظنون بأن الحاكم في الإسلام أو السلطان هو مقرر الدين، وهو واضع أحكامه، وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف فيها بالإخضاع، وفي العقول بالإقناع ... ويبنون على ذلك أن المسلم مستعبد لسلطانه بدينه. كما يعتقدون أن لا تسامح مع العلم في الإسلام ما دام أن من أصوله أن إقامة السلطان واجب بمقتضى الدين. وهذا كله خطأ محض يناقض الأصل الذي رأيناه من أنه لا سلطة دينية في الإسلام سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوَّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوَّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم9. ومن الأسس التي يبني عليها الإمام رؤيته رفض الإسلام لأي إكراه في الدين. وقد ميز بوضوح في ذلك بين ما هو ديني، وهو الإقناع بالبيان والبرهان، وبين إلزام الناس باعتناق عقيدة معينة وهو ما تكون دوافعه سياسية. يقول في تفسيره لقوله تعالى: لا إكراه في الدين (البقرة/256): كان معهودا عند بعض الملل لا سيما النصارى حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه. وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان وهو أصل الدين وجوهره، عبارة عن إذعان النفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالبيان والبرهان10. وهكذا يتأسس نفي محمد عبده لأي ثنائية في السلطة من منظور إسلامي ما بين سلطة دنيوية أو سياسية وأخرى دينية أو روحية، من خلال إنكار وجود هذه الأخيرة بالمرة حسب ما تقتضيه الأصول الإسلامية. كما أن محمد عبده يرد بهذا من جهة على أي مطابقة بين الرؤية الإسلامية والرؤية المسيحية التي كانت تقوم على مفهوم الدولة الدينية، ويرد من جهة أخرى على استبعاد الدين نهائيا من أسس الدولة المدنية ومقوماتها. ولذلك يؤكد أن الحاكم مطالب بالعدل والالتزام بالكتاب والسنة يقول: لكن الإسلام دين وشرع فقد وضع حدودا ورسم حقوقا (...) فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة11. ويؤكد في نفس السياق أن الحاكم مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنة، لكن إذا خالف الكتاب والسنة فالمسلمون له بالمرصاد ولذلك وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه. وفي مقارنة بالمسيحية يؤكد أنه لم يكن من أصول الإسلام أن يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ما له ويأخذ على يده في عمله. ثم عدد تأثيرات الإسلام الإيجابية على الفرد وعلى الجماعة وأكد أنه مكن للأمم التي دخلت فيه نظاما امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك12. 2 - الحاكم في الإسلام حاكم مدني انطلاقا من أصل انتفاء وجود سلطة دينية في الإسلام يصوغ محمد عبده أصلا ثانيا بكون السلطة في الإسلام سلطة مدنية، والحاكم فيها مدني. ويستدل على هذا الأصل بأن الحاكم عند المسلمين ليس معصوما، ولا يتلقى الوحي، وليس من حقِّه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، ولا يخصه الدين في فهم القرآن الكريم والعلم بالأحكام الدينية بأي امتياز، ولا يرتفع به إلى منزلة خاصة. وللناس تقويمه إذا اعوج، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإذا فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه. فالأمة، أو من يمثلها، هي من ينصبه، وهي صاحب الحق في السيطرة عليه، أي هي مصدر السلطات، وهي التي تخلعه متى رأت المصلحة في ذلك. ثم ينتهي إلى الخلاصة الواضحة: فهو حاكم مدني من جميع الوجوه13. وبذلك نزعت أي قداسة أو صفة دينية عن أى حاكم بشرى. ويظهر بوضوح من نصوص واستدلالات الأستاذ الإمام أن هذا التنظير لمدنية الحاكم ينطلق من أصل إخضاعه لسلطة الأمة وسد كل أبواب الاستبداد والاستفراد بالسلطة. وفي المقابل يرفض محمد عبده خلط الحكم من منظور الإسلام بالحكم التيوقراطي، أو السلطان الإلهي، حيث نجد أن الطاعة للحاكم، ليست بمقتضى مدني (البيعة وما تقتضيه من عدل وحماية للأوطان)، بل بمقتضى الإيمان وبمقتضى الانفراد بتلقي الشريعة عن الله، لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر ظهرا: هما دين وشرع. هكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى، ولا تزال تدعي الحق في هذه السلطة إلى اليوم14. 3 - الوظائف الدينية ليست سلطات تمارس على الناس إذا كان الإسلام قد هدم أي سلطة دينية ورفض الاعتراف بها للسلطة السياسية العليا، فإنه قد نزعها عن أي مؤسسة تمارس سلطة من السلطات في مجتمع المسلمين. فقد تساءل محمد عبده نفسه ـ في ظل التصور الذي عرضه ـ عن مهام القاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام؟ فيجيب بأن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام. وكل سلطة كلف بها أحد منهم فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه أو ينازعه في طريقة نظره (...)51. وعندما يسمي محمد عبده هذه المهام بالوظائف الدينية فلكي ينزع عنها طابع السلطة المتسلطة على الناس باسم الدين، وهو ما قرر من قبل أن الإسلام أتى بهدمه، ثم لكي يقرر بعد ذلك مدنية تلك الوظائف. ويصل في ذلك قمة الوضوح عندما يمنع السلطة السياسية من التدخل في مضامين مهام تلك الوظائف، ويجعل لها حق تنظيمها وتدبيرها فحسب. يقول: وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى، وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب وبالسياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم ورفع المظالم إن أمكن16. وهكذا يبين ما معنى مدنية السلطة السياسية التي على الرغم من إشرافها على الوظائف الدينية، إلا أنها إنما تقوم بتدبير تلك الوظائف حتى تؤدي مهامها بنجاعة وانتظام، وهي لا تؤدي عملا دينيا، ولا يحق لها التدخل في مضامين عمل الوظائف الدينية17. ـــــــــــــــــــ 1 - ـ نشر في جريدة >التجديد< على حلقتين بالعددين 1796 و1797 بتاريخ 31 دجنبر 2007 و 1 يناير 2008. 2 ـ انظر نماذج من ذلك لدى: علال الفاسي: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، دار الطباعة المغربية، تطوان، ص 133, محمد الفلاح العلوي: جامع القرويين والفكر السلفي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1994, ص 59 ـ 61. 3 ـ عبقري الإصلاح، محمد عبده، ص 175. 4 ـ الوعي الذاتي، منشورات عيون، الدار البيضاء، ط 1, 1987, ص 39. 5 ـ دكتور محمد عمارة، مقدمة للأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، دار الشروق 1993 ص 36. 6 ـ الوعي الذاتي، ص 56 ـ 57. 7 ـ خصصت كتابات كاملة لحياة وعطاءات وفكر محمد عبده، منها: تاريخ الأستاذ الإمام لتلميذه محمد رشيد رضا، وعبقري الإصلاح لعباس محمود العقاد، وغيرهما. 8 ـ الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم د، محمد عمارة، ط 1, 1441هـ 1993م، دار الشروق، 3/304 وما بعدها. 9 ـ نفسه، 3/308 ـ 309. 10 ـ نفسه، 4/704. 11 ـ نفسه، 3/307. 12 ـ نفسه، 3/242 13 ـ نفسه، 3/307 ـ 308. 14 ـ نفسه، نفس الصفحة. 15 ـ نفسه، 3/309. 16 ـ نفسه، 3/250. 17 ـ انظر توضيحا أكثر لهذه الفكرة في الفصل السابق: الدين والسياسة، تمييز لا فصل.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.