إن التربية ضرورية لبني الانسان لرقيه وتطوره وسموه وازدهاره، بل لضمان وجوده وبقائه. فالتربية هي التي صنعت الحضارات وغرست في القلوب حب الاكتشافوالاطلاع، وفي الأذهان رغبة البحث والاختراع. وبدونها يبقى الانسان كسائر المخلوقات بدون حراك ولا تطور ولا ارتقاء. فاذا نظرنا الى عالم الجماد نجد أنتحوله وتغيرههو تحت وطأة الأحداث وتفاعل عوامل الظهورات. أما عالم النبات فتحوله وتغيره مقرون بأحوال الطبيعة من ماء وهواء وتراب، لا حول له ولا قوة في ذلك مجبور ليس له خيار. وأما عالم الحيوان فتغيره طبيعي مكنون في عالم الجينات وتحت وطأة المستجدات منها البيئية وأخرى ظرفية لضمان بقائه واستمرار سلالته.فالحيوان كما عهدناه في غابر الأزمان لم يتغير حاله، مساير لطبيعته وغرائزه. وحين ننظر الى بني البشر نجد أن تطورهم وتغير أوضاعهم وظهور اختراعاتهم التي أبرزوها من عالم الغيب والنكران الى عالم الشهود والعيان كان ولا يزال بفضل التربية التي تلقوها وكل ما تعلموه واستأنسوا به جيلا بعد جيل وعصرا بعد عصر. وتنقسم التربية الى ثلاثة أقسام: تربية جسمانية وتربية إنسانية وأخرى روحانية. أما التربية الجسمانية فهي متعلقة مرتبطة بمتطلبات الجسم لكي ينمو على أحسن وجه، لا تعتليه العلل ولا ينقص من قواه مرض أو وهن. فبفضل هذه التربية تعلم الانسان تحسين نوعية الغذاء واختراع الدواء لعلاج الداء وممارسة الرياضة واعتدال أوقات الاسترخاء. كل هذا جعل من جسم الانسان أقوى وأمتن، وأصبح معدل حياته يناهز 80 سنة في بعض البلدان وربما زاد وارتفع في مستقبل الأزمان. وأما التربية الانسانية فهي الجامعة لكل العلوم والمعارف والفنون والأدب.وبفضلها ظهرت الحضارات وتنظمت المجتمعات وازدهر الانسان في كل المجالات من عمران وبنيان وتنقل ومواصلات. بفضل هذه التربية استطاع الانسان أن يجري فوق البحار ويغوص فيها وأن يطيرا عاليا في الهواء بل ويصل الى الفضاء وكل هذه الأمور مناقضة لطبيعته ومنافية لقدراته الجسمانية. ومع ذلك تبقى التربية الروحانية التي سعى اليها الانسان في كل زمان ومكان أهم ركن من أركان التربية. فهي تهدفإلى ترسيخ أبدع القيم وتعليم أفضل الشيم من عدل وإنصاف ومحبة وكرم وإحسان،وبفتورها وتراجعها تزداد المصائب والآفات في مختلف المجتمعات مما يؤدي الى نشوب الحروب والنزاعات،ولنا أمثلة معاصرة لهذا المآل. فرغم تقدم البشرية في مجال التربية الجسمانية والانسانية على حد سواء، إلا أنه بسبب تراجع وتقهقر التربية الروحانيةحلت بالعالم حروب مروعة مدمرة، حيث أن بؤر التوتر لا تزال قائمة بلا هوادة ومستوى الإجرام والإتلاف البيئي سيتفاقم دون محالة.فإن كانت التربية الجسمانية والانسانية مرجعها الفكر والتجربة والمنطق، فمصدر التربية الروحانية هي الكلمة الربانية والآيات الملكوتية المنزهة عن همهمة الألفاظ والمقدسة عن دمدمة الكلمات. فقوتها بمثابة الشمس المنعشة للقوى الكامنة في الانسان وهي كالغذاء للصفات الروحانية الموجودة في روح الأنام. إذن، فالتربية الروحانية تنمي في الانسان الصفات الروحانية والملكات القدسية من عدل وإحسان ومحبة بغض النظر عن المعتقدات والعادات والأحكام المتعلقة بكل دين وملة. في عالمنا هذا حيث تقلصت المسافات وتوحدت الثقافات لتكون الحضارة الإنسانية، واختلطت الشعوب والأجناس والمجتمعات الدينية، وأصبحت الكرة الأرضية كقرية واحدة يتجاور سكانها... في عالم كهذا، نحن بحاجة ماسة الى تربية روحانية تواكب هذا التحول وتساير هذا التطور لكي تعلو المصلحة العامة ويُنظر بعين العدل والانصاف الى كل الشعوب والأصناف، ونعيش معا في عالم يسوده الحب والسلام حيث "الأرض وطن واحد وكل البشر سكانه".