في أول وهلة يبدو السؤال بديهيا وجوابه واضحا جليا , فالاختلاف بين الأديان ظاهر بارز لا غبار عليه , كوضوح الشمس في وسط الزوال , أو كالقمر في بدره التام , ولكن إذا تفحصنا المسألة بدون انحياز , وانقطعنا عن أفكارنا المسبقة , وما ورثناه من أخبار وأنباء عن مختلف المعتقدات والأديان , لربما اهتدينا إلى طريق الصواب , وانتبهنا إلى حسن الخطاب . فكيف يعقل أن تكون هذه المعتقدات السماوية الربانية على هذا الاختلاف الظاهري و التعارض العدواني , فحقيقتها واحدة لا اختلاف فيها , فحضرات الأنبياء و الرسل كالشمس الظاهرة و إن بزغت من أبراج مختلفة و تميزت و تنوعت في مدى حرارتها , وتمام بزوغها وإشراقها , إلا أنها تبقى واحدة لا تقبل التعدد أو التفريق . كل رسول صدق ما بين يديه من الكتب السماوية السابقة , وبشر بالظهور المقبل , وأنذر أتباعه وحذرهم من عدم التعرف عليه , و الإدبار عن رسالته وتعاليمه , وبين علامات مجده , وأشار إلى دلالات إشراقه , إلا أنها كانت بالتلويح لا بالتوضيح , وذلك راجع للفرق الزمني بين كل ظهور وظهور , فلا يعقل أن ندرك ما أدركه السلف أو أن يتساوى إدراك السلف بالخلف , وأن يتضح للأولين نفس مفاهيم الآخرين , فهذه سنة من سنن الخليقة , وديباج لصنع صانع الأكوان , فالأقوام في مفاهيمهم وإدراكهم وعقولهم يتفاوتون , حسب الزمان والمكان وحاجيات العصر والأوان. فلو حاول السلف الصالح إدراك ما توصل إليه الخلف في هذا الزمان من إدراكات علمية واكتشافات كونية لاستعصى عليه الحال بل هو ضرب من الخيال . لهذه الأسباب كانت البشارات مستورة ملفوفة بالإشارات , محفوفة بالهمزات , حتى يجدٌ الباحث عن الحقيقة النورانية , ويكدٌ المنجذب إلى النغمات العلوية , فتمتحن الأفئدة والقلوب , وتفتتن بصائر الشعوب , فيتبين المجتهد الصادق من المتصنع المنافق. فالحقائق الملكوتية تتعرف عليها روح الإنسان في اي مظهر من المظاهر الإلهية , لأن لحنها واحد و كلماتها متكاملة متظافرة متفقة , تنفذ في الأرواح لا كنفوذ الأشياء , وتستقر في النفوس وتنقش عليها اسمه الفعٌال لما يشاء. فالمظاهر الإلهية المباركة متفقة متحدة , صدٌق الآخر بالأول وبشر الآخر بالظهور الموالي , وكأنهم سلسلة من الياقوت الدري أو من الألماس المعنوي , متفقين متحدين يصلون الشعوب والأقوام برب الأنام حتى تحيى أراضي القلوب وتنضج وتتطور الصفات الحميدة الكامنة في الأرواح , إذا فاتحادهم واضح للعيان فكيف لأتباعهم أن لا يسعوا مسعاهم , و يقتدوا بقديهم , ويتفقون ويتحدون على كلمة سواء , ويغضون البصر عن الطقوس و الشعائر والأحكام التي تتغير وتتنوع حسب العصور والأزمان , ويحصروا نظرهم على نقاط الاتفاق والوفاق , فكل الأديان تدعوا إلى المحبة و الايخاء , والكرم والايثار , والسلم والأمان. وهذا هو مبتغى النبيين والمرسلين , ومقصد العارفين , ومنتهى أمل المؤمنين الصالحين , فلنتشبث بالأصل ولندع الفرع , لأن من الأصل تنبت الفروع و الأغصان , وتبرز الأوراق والأزهار , فتظهر بعدها الأثمار , وبها تتميز الأشجار , وفي هذا لآية لأولي العزم من الأخيار . فالأديان السماوية أتت أكلها بإذن ربها و هذا دليل قاطع وحجة بازغة دامغة لكل ادعاء و افتراء عن أحقية الأديان . فلننظر إلى الأشياء بعين الانصاف , ونتخلى عن القيل والقال , وما ورثناه عبر الأجيال , حتى يتبين لنا المقصد والمآل , ونتعرف على الحقيقة الجوهرية الأصلية لكل النحل و الأديان , ونستمع بآذان صاغية وقلوب منشرحة وأرواح خاشعة إلى لحن كلمات الرب العلي المتعال في كل مصحف وتوراة وانجيل وكتاب أقدس , وصحف أخرى لم تقصص علينا في ما غبر من العقود والأزمان.