سؤال يثير الفضول ويتنبه إليه أصحاب العقول , ويفكر فيه كل من أراد الاجتهاد وإدراك الأشياء بعقله لا تبعا للعبادات والتقاليد , وماورد على لسان قومه وذويه , فيتوقف آنا من الزمان , ويحملق في نفسه لعله يجيب على هذا السؤال , ثم يلتفت إلى الموروث المنقول , ويحرك عقله وأحاسيسه الروحانية الكامنة فيه لعله يهتدي إلى سبيل الرشاد , فقد سمع واستمع , وبصر وأبصر , وفكر ودبر ,في مختلف الآراء والمفاهيم , والمعتقدات والمراسيم , وهمهم في داخله إلى أين المصير , وأين نور الحق المبين , وهل لي أنا الفرد الواحد الضعيف أن أهتدي إلى سبيل الرشد اليقين , فلا حول لي ولا قوة , ولا علم ولامعرفة , فكيف الجواب عن هذا السؤال الخطير , والمفهوم القديم , الذي حير الإنسان منذ زمن طويل , فتارة تأخذه نشوة الايمان والتشبث بالدين , وكأنه الملاذ الوحيد والكهف المنيع , والكتاب المفتوح الذي قص فيه كل ما عرف وسوف يعرف إلى آخر الدين , ومرة ينقلب مزاجه وتهيج خواطره , فينقلب عليه , ولا يؤمن به ويرى فيه عادات وتقاليد وطقوسا , بل وأساطير الأولين , تطيب خاطر الضعفاء و الفقراء من أذلة الأقوام , تريح بالهم لما حرموا منه في حياتهم , وتعطيهم آمالا ووعودا في مستقبل زمانهم , فتكون مخدرا لعقولهم , ومانعا حاجزا لتحركهم وقيامهم , وربما أداة يستعملها الأقوياء منهم لتسخيرهم والسيطرة عليهم. فإلى متى هذا الصراع والجدال والنزاع والقتال بين هده الأفكار ؟ وهل حان وقت الالتحام والاتحاد بين العلم والدين , فيقر الإنسان بعد تحريه الشخصي المستقل لاحتياجه الروحاني , الإلهي المنبع والذي لا ينبض , فهو يجري في هذا الكون الشاسع ويغذي كل ما هو موجود بلا حدود , وبما فيهم الكائن العاقل المدبر المتأمل , فيهب له الغذاء المعنوي والبصيرة الروحانية , حتى يدرك ماهيته والقصد من خلقه في هذا الفضاء الأبدي . ومن ناحية أخرى يعترف الإنسان بكل عدل وإنصاف بضرورة تحصيل العلوم والمعرفة , من أجل الخير العام وازدهار الأمم والملل , وبأن العلم كان ولا يزال سببا في فهم ما يحيط بالإنسان , والعقل نور من أنوار السبحان , به تتنور مقاصد الأقوام و فيجني لها الهناء والحبور والخير الموفور. فالدين السماوي الرباني , يغذي الأرواح , ويلهمها إلى الصواب , وينمي قدراتها الروحانية الكامنة فيها من محبة وصدق وكرم ووفاء , فلا يمكن الاستغناء عنه , لأن المظاهر الكلية والرسل الربانية تنفخ في الإنسان روح الحياة , بقوة الكلمة التي لا شرقية و لا غربية ,والتي تعالت عن دمدمة الحروف ¸ وتنزهت عن الدخول والخروج , وترفعت عن الفصاحة والبلاغة , وتحررت من القواعد المعروفة المألوفة , فقوتها وبرهانها في مدى تأثيرها وتغييرها لحال العباد , من طلاح إلى صلاح , وخسران إلى فلاح , وحرب وجدال إلى وئام وسلام . فهي القوة الجامعة للقلوب ,المؤلفة للصدور , الباعثة لنور الفكر المبرور. ولنا عبر في ما خلى من الأيام , كيف أن الكلمة الإلهية كانت سببا في رقي أمم منحطة بائسة , فتقدمت وازدهرت , وصارت من الأمم الناجحة المميزة , وبعد حين انكسرت شوكتها , وخبت مصابيحها , وخربت قصورها , فباتت مرة أخرى تعيش حياة قاتمة مكتئبة مظلمة. أليس هذا حال العالم بأسره في هذه الأيام ؟ حيث توالت عليه حروب شرسة مهولة , وأمراض فتاكة قاتلة , وانعدم الأمان والطمأنينة والسلام , ورحنا نشاهد مشاهد مرعبة , أشتات أجسام متناثرة , وقتلة سفاكوا دماء مرعبة , وأطفال ونساء يخاطرون في مياه هائجة , وقوم ذوي ثروة فاحشة , وآخرون يعانون الجوع والحاجة المعوزة . رغم أن العلم في تطور ونقدم تام , لم ترى له عين البشرية مثيلا , بحيث قرب بين القارات وقلص المسافات , وراح يكتشف أسرار البر و البحر , فقهر الطبيعة بل وجعلها مسخرة للإنسان , فها هو يطير في الهواء والفضاء وهذا تحد للطبيعة , ويغوص في البحار وأجوافها وهذا تحد للطبيعة , واستخرج المعادن والمناجم المكنوزة تحت أطباق الصخور , وسخرها لحاجياته وهذا أيضا تحد للطبيعة , وإن هذا لجواب مقنع دال لكل من يؤمن بأن الإنسان محدث بالطبيعة , فأنا للخالق أن يحاط بل ويقهر ؟ ومن ثم فالإنسان كائن مميز في درجات الخليقة بل أرقاها وأسماها .وبالتالي فإحساساته الروحانية وحاجته إلى شمس الحقيقة التي تبزغ من عالم غير هذا العالم , وتلوح أنوارها من فضاء غير هذا الفضاء باتت واضحة جلية لا غبار عليها . إنما يتحير الإنسان ويرتبك لما يتشبث بالتقاليد القديمة والعادات الماضية وهو الذي في حراك مستمر بعقله وجسمه ,فيختلط عليه الأمر ويصطدم العلم مع الدين , فيستنتج بطلان الأحاديث الدينية والروايات الروحانية بل وينفي عالم غير عالم الطبيعة . ويتأكد من عدم لزوم الدين وأن له المقدرة على وضع الحدود والقوانين لتنظيم المجتمعات , ولكن إذا ائتلفت مفاهيمه العقلية الحديثة بمعطيات ومفاهيم دينية ملائمة متطابقة , متنورة ساطعة براقة لامعة من المصدر الإلهي والجوهر الرباني , فلا محالة بأن تتوازن القوى المادية والروحانية في هذا العالم فينجم عنها الهدنة والاستقرار , وهذا ما يتوق إليه الخيرة الأبرار.