أرهق الظمأ الإنسان، واستحوذت عليه مشاعر الخوف والأحزان، وتشتت السبل أمام عينيه، وتفرقت الطرق والمناهج، وعلت الأصوات باكتساب أم الحقائق، وهلل كل حزب بما لديه من حجج دامغة، وبيانات سائدة، فراح المرء يدور في عجلة لا تنتهي من الدوران، لا تستقر على حال، حتى أنهكت قواه ووهن عظمه وابيض شعره واقشعر جلده، فصاح رباه إلى أين الاتجاه؟ رباه أين المأوى وإلى أين المفر؟ وأين هو المستقر؟ هل تركتني لحالي؟ هل غابت عني تأييداتك؟ هل انشغلت عني بغيري؟. ها أنا ذا يا إلهي، تائها في هذه البحار، سائحا بين الديار، غارقا في هذا الطوفان، هل يحق لجلالك أن تغظ البصر عن عبادك؟ وأنت الذي تعاليت عن إدراكي وإدراك الممكنات، وأنت القاهر الملم بكل صغيرة وكبيرة في هذه العوالم؛ حاشاك فأنت الذي ترعى كل شيء، وتسهر على كل شيء، ولا يعزب عن علمك من شيء، فقد سرى نورك في الأكوان وملأ ضياؤه من في الإمكان، وأنّى للنور أن ينفذ إلى القلوب المقفلة والنفوس المحجبة خلف ألف حجاب؟ وأنى للبذرة أن تنمو فوق الأراضي القاحلة؟ فلا بد أن تمتد الأيادي بالطلب، ولا بد للقلوب أن تشتغل بالمقصد، ولا بد للعقول أن تتدبر وتتفكر. الحركة على نيل المطلب هي التي تولد الشغف والفضول، وتهتدي بها العقول إلى المعارف الجديدة والاكتشافات الحديثة، وبها تنال القلوب شهد الوصال، وتنشرح بها الصدور وتطمئن النفوس. والحركة من المتطلبات الضرورية للحياة، شهد لها علماء الإغريق واليونان، واستهدى إليها علماء العرب ومن بعدهم أئمة الغرب. أما الركود والقعود والجزم باستقرار الأمور على حالها وبأنها كذلك ستبقى إلى آخر الأيام، ذلك ما وهم عدة أقوام، حتى تاهوا عن جوهر الحقيقة ولب العزيمة، فتوقف حالهم وتراجع كيانهم، وانكسرت شوكتهم وطفأ سراجهم، واضمحل شأنهم، وتاهوا عن أوج الفلاح والنجاح. ومصدر هذا الارتباك والارتجاف، والتراجع والتقهقر، عدم الإيمان بأن الحركة ملزمة للحياة، ومبدأ أساسي لنمو الإنسان والمجتمعات. وعلى الطالب للحركة أن ينسى القيل والقال، وما توارثه الأقوام، فيرى الأشياء بعينيه ويسمع النغمات بأذنيه، ويطلب الحقيقة الملائمة لهذا الزمان بقلبه وفكره، جادا مجتهدا للوصول إليها، حتى يهدأ باله ويسكن اضطرابه، فيرى الأشياء قد اكتست حلة أخرى، ويرى العالم بنظرة مغايرة، ويشاهد في نفسه عزيمة جديدة، وتنفتح أبواب الأمل أمامه، ويهتدي إلى طريق يريح ضميره ونفسه، وإلى بحر يشفي غليله، وبذلك تصلح أحوال الفرد والمجتمع. وللباحث أن تتاح له فرص التربية، التي تقوده للعلم والمعرفة، إذ التربية هي المفتاح للأزمة والطريق المؤدي إلى شاطئ النجاة، وبدونها لن تستخرج الكنوز النفيسة المكنوزة في أفئدة وعقول البشر، فهي السراج الأعظم والسر لهذا النجاح الأكرم. والتربية أقسام ثلاثة؛ جسمانية وفكرية وروحانية، إذا ما اجتمعت واتحدت، تحدث في الإنسان تغيرا عظيما، وتطورا جليا، فتجعله كالشجرة المثقلة بالثمار، دانية أقطافها للعوام. والتربية بأقسامها الثلاثة خاضعة لحركة مستمرة، وتحول لا ينقطع، لتواكب مقتضيات الزمان والمكان، ولتحدث القوة الملزمة لتطور الإنسان. وفي هذا عبرة لمن اعتبر من الأنام.