تجد بعض النساء أنفسهن وحيدات في خريف العمر بعد أن ينخر المرض أجسادهن، ولا يجدن من يعتني بهن أو يساندهن في محنة المرض، إلا بعض الجيران الذين تحن قلوبهم عليهن، ويحاولون تعويضهن الدفئ الأسري الذي يفتقدنه، وهو الأمر الذي يجعلهن يشعرن بالألم والحسرة على سنوات ضاعت في أشياء تافهة لم تستطع فيها كل واحدة منهن صنع استقرار أسري لها، وإنجاب أبناء يعولون عليهم في هذه المرحلة المتأخرة من العمر. كانت ممددة على السرير بالمصحة التابعة لصندوق الضمان الاجتماعي، لا تستطيع الحراك إلا بمساعدة أحدهم بسبب الآلام التي تعتصر بطنها، كلما لمسها احد أو اقترب منها، إلا أن الأكبر الذي كان يعتصر قلبها هو حزنها على كونها تعيش وحيدة من غير سند في الحياة. «معندي حتى حد من غير الله» «امي فاطنة» امرأة مازالت محافظة على كبريائها وعزة نفسها برغم كل ما فعلته بها السنون، ومحافظة على نظافتها الشخصية، إلا أن المرض الذي ألم بها منذ سنوات خلت، أدخل الوهن إلى جسدها، وجعلها غير قادرة على الاعتماد على نفسها في القيام بأبسط الأمور، خاصة أن ضيق ذات اليد وفقرها إلا من معاش لا يتعدى ألف درهم، جعلها تتأخر في تلقي العلاج في الوقت المناسب. «امي فاطنة» امرأة وحيدة لا معيل لها ولا زوج ولا أبناء، يشدون عضدها في آخر سنوات عمرها، ولم تجد بجانبها غير بعض جيرانها الذين لم يستطيعو تحمل آلامها، ونقلوها إلى المستشفى لتلقي العلاج، كما يقومون بتلبية حاجياتها وزيارتها في المستشفى. «معندي حتى حد من غير الله» عبارة ترددها «امي فاطنة» كلما سألها أحد عن عائلتها، وعن عدم تواجد زوار بجانبها غير بعض جاراتها القلائل، عبارة تحملها المرأة المسنة كل مشاعر الحسرة والألم على زمن ولى، وضاع دون أن تستفيد منه وتوفر شيئا «لدواير الزمان». قضت امي فاطنة سنوات طويلة من عمرها العمل، وكانت تعيش حياة متوسطة، بفضل راتبها الشهري والحوافز التي كانت تحصل عليها من عملها، وكانت تغدق على كل المحيطين بها، من أقارب بعيدين وبعض أبناء إخوتها من والدها، وصديقاتها، ولم تكن تضع في حسبانها تقلب الزمن عليها. كانت امي فاطنة تظن أن الدنيا ستضحك لها دائما، ولم تقم بتوفير المال أو شراء شقة تعيش فيها، تحسبا لدورة الزمن، وعندما كانت في شبابها كانت الدنيا مملوءة حولها بالطامعين في كرمها وسخائها، إلا أنها بعد ذلك عندما فقدت كل شيء حتى عملها، وصحتها وجدت نفسها وحيدة. اصبحت امي فاطنة تكتري غرفة صغيرة بعين السبع بعد أن كانت تقطن بشقة، وتعيش على ما يجود به عليها جيرانها، الذين يدركون جيدا أنفتها وعزة نفسها التي تمنعها من طلب المعونة من أي شخص مهما كان، وحتي وهي مريضة رفضت التنقل معهم إلى المستشفى للعلاج على نفقتهم الخاصة، مفضلة المرض حتى الموت على مد يدها. ما يحز في نفس امي فاطنة بعد مرور هذه السنوات هو أنها ضيعت الكثير من الفرص للزواج والاستقرار وتكوين أسرة، «ملي كان عقلها طايش» ولم تدرك هذا الخطأ إلا بعد أن بلغت هذه السن وشعرت بالوحدة، خاصة مع ظروف مرضها، وهي في أمس الحاجة لمن يساندها في محنتها المرضية، ويقوم بالعناية والاهتمام بها، بالإضافة إلى تخلي أقاربها الذين كانو يعيشون من خيرها عنها وهي في عز أزمتها. أبناء الحي لم ينسوها ألمها لعدم الإنجاب »خليك رادة ليا البال أبنتى راه مكاين اللي يعاوني إلى بغيت نوض» عبارة ترددها بصوتها المرتجف من الخوف على كل ممرضة أو ممرض يدخل الصالة التي ترقد فيها بالمستشفى، خوفا من الوقوع من السرير ليلا، أو إصابتها بتطورات صحية قد لا تتمكن بعدها من الاستنجاد بأحدهم. كانت تتفرج على أفواج من عائلة امرأة ترقد بجانبها تقوم بزيارتها في كل أوقات الزيارة، والحسرة تأكل قلبها وهي التي تجلس وحيدة لا يزورها إلا بعض الشباب من أبناء الحي الذي تقطن به، والذين حملوها على وجه السرعة إلى المستشفى لتلقي العلاج بعد أزمة صحية كادت تكون سببا في وفاتها. ملامح الأسى والحزن كانت بادية على محيا المرأة التي وهن جسدها، ولم تعد قادرة على الحركة، مما يجعلها تستنجد بأي شخص بالقرب منها لمساعدتها على تغيير وضعية نومها أو النهوض من سريرها، حتى وإن لم تكن تعرفه. اغرورقت عينا المرأة المسنة وهي ترى جارتها في المستشفى ترقد وحول سريرها يلتف أبناؤها، وتوجهت بالقول إليها «كون ولدت كون راه ولادي نفعوني دابا» عبارة محملة بالحسرة والألم على زمن تعتبر أنها ضيعته دون أن تجني شيئا، لتجد نفسها وحيدة في خيرف العمر بعد أن تنكر لها إخوتها وأبناؤهم، الذين طالما وعدوها بالعناية بها. وجدت المرأة نفسها وحيدة، إلا من بعض الجيران الذين جاد بهم القدر وسخرهم لخدمتها ورعايتها في آخر أيام حياتها، والذين يعتبرونها بركة الحي والأم الكبرى لجميع سكانه، وهم الذين يؤمنون مصاريفها ويلبون كل طلباتها، كما يدفعون لها ثمن إيجار الغرفة التي تقطن بها. «الحمد لله اللي سخر ليا هاد الوليدات مكلفين بيا» تضيف المرأة المسنة، التي بالرغم من كونها وجدت في أبناء الحي الذي تقطنه عوضا عن أبنائها الذين لم تلدهم بطنها إلا أن حرقة الأمومة التي لم تعشها بمشاعرها وأحاسيسها تبقى كبيرة في خاطرها، وتجد نفسها نادمة على أنها لم تتمسك باستمرارها في زواجها أو حتى إنجابها قبل أن يصل زواجها إلى الطريق المسدود، لتجد نفسها وحيدة في آخر العمر. مجيدة أبوالخيرات