كشف تقرير تحليلي صادر عن المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة أن مشروع قانون المالية المغربي لسنة 2026 يمثل تحوّلاً نوعياً في فلسفة تدبير المالية العمومية، منتقلاً من منطق ضبط التوازنات الماكرو-اقتصادية الذي طبع قانون مالية 2025، إلى منطق الهندسة التنموية والترابية المتكاملة التي تجعل من العدالة المجالية امتداداً طبيعياً للعدالة الاجتماعية. نمو اقتصادي وارتفاع في حجم الإنفاق العمومي
يتوقع مشروع قانون مالية 2026 تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 4.6 في المائة مع تقليص عجز الميزانية إلى 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام، مقابل 4.5 في المائة في السنة السابقة. كما يرتفع إجمالي نفقات الدولة إلى نحو 761 مليار درهم بزيادة قدرها 5.5 في المائة مقارنة ب2025، منها 421 مليار درهم موجهة للاستثمار العمومي، ما يجعل هذا الأخير الأعلى خلال العقد الأخير. أما الموارد العمومية فتُقدّر بحوالي 713 مليار درهم، بزيادة 8.3 في المائة، مدفوعة بتحسن الأداء الجبائي والإصلاحات الضريبية الجديدة. إصلاح ضريبي شامل وتشجيع للاستثمار يتضمن المشروع إصلاحات جبائية عميقة تهدف إلى تحقيق العدالة الضريبية وتوسيع الوعاء الجبائي عبر دمج القطاع غير المهيكل، وتبسيط الاقتطاع من المنبع، وتوحيد الضريبة على الشركات والدخل. كما يمدد العمل بالمساهمة الاجتماعية للتضامن حتى عام 2028، لتمويل برامج الحماية الاجتماعية. ويعزز المشروع تحفيز الاستثمار المنتج من خلال إعفاءات ضريبية للقطاعات الرياضية والابتكارية، وتوسيع الشراكات العمومية-الخصوصية، وتفعيل صندوق محمد السادس للاستثمار كأداة استراتيجية لتعبئة التمويلات المبتكرة. تمنح ميزانية 2026 أولوية واضحة لقطاعات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، إذ تم رفع الاعتمادات المخصصة لهما بنسبة تفوق 8 في المائة مقارنة ب2025، في إطار رؤية تروم تعميم التغطية الصحية الإجبارية على 88 في المائة من السكان، وتوسيع التعويض عن فقدان الشغل، ودعم الأسر عبر السجل الاجتماعي الموحد. كما تواصل الدولة دعم أسعار المواد الأساسية ومواجهة آثار الأزمات المناخية. من "الدولة الممولة" إلى "الدولة المحفزة" يبرز التقرير تحول دور الدولة من ممول مباشر إلى فاعل محفز للنمو، عبر تشجيع المبادرة الخاصة وتبني سياسة استثمارية تعتمد على التمويل المبتكر. ففي حين خصص قانون مالية 2025 نحو 340 مليار درهم للاستثمار العمومي، يرفع مشروع 2026 الرقم إلى 380 مليار درهم مع توجيه ثلثي الاستثمارات إلى القطاع الخاص في أفق 2035. أبرز ما يميز مشروع 2026 هو تركيزه على العدالة الترابية والتنمية المحلية، من خلال إطلاق برامج موجهة للمناطق الجبلية والواحاتية والساحلية والمراكز القروية الناشئة، في انسجام مع ورش الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري. ويهدف هذا التوجه إلى ردم الفوارق المجالية وتحويل الميزانية إلى أداة لإعادة توزيع التنمية بين الجهات. تقييم شامل: بين مكاسب التحول وتحديات التنفيذ يرى محللون أن مقارنة مشروعي قانون المالية لسنتي 2025 و2026 تكشف عن مسار إصلاحي متدرّج يحمل في طيّاته إيجابيات ملموسة وتحديات قائمة. فعلى الجانب الإيجابي، يُسجَّل تحسن في مؤشرات النمو والاستقرار المالي، مع انتقال واضح نحو ميزانية اجتماعية وتنموية تُعطي الأولوية للصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. كما يبرز ارتفاع حجم الاستثمار العمومي والخاص، وتفعيل صندوق محمد السادس للاستثمار، إلى جانب إصلاحات جبائية ترسخ العدالة وتوسع الوعاء الضريبي. لكن في المقابل، تواجه الحكومة تحديات ترتبط بفعالية تنفيذ المشاريع الاستثمارية، وبطء إصلاح المؤسسات العمومية، واستمرار الضغط على المالية العامة بفعل ارتفاع النفقات الجارية مقارنة بالموارد. كما أن تفاوت استفادة الجهات من برامج التنمية المجالية يطرح تساؤلات حول قدرة الدولة على ترجمة هذا التوجه إلى نتائج ملموسة على المدى القصير. ويخلص التقرير إلى أن مشروع قانون مالية 2026، رغم طابعه الطموح، يظل رهيناً بمدى نجاعة التنفيذ وحسن التنسيق الترابي، حتى يتحول من وثيقة مالية إلى أداة فعلية لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة في المغرب.