يخرج التصور الملكي للوثيقة الدستورية الجديدة من مجرد اعتبارها وثيقة تنظم السلطة والعلاقات من بين المؤسسات إلى فضاء أوسع وأرحب، لتكون أساسا متينا لتعاقد سياسي جديد. وبداية هذه التعاقد السياسي الجديد تبدأ من الدور الجديد للمؤسسة الملكية في مرحلة ما بعد الدستور الجديد، فالمؤسسة الملكية تتولى التحكيم بين المؤسسات، أما التفاصيل فمتروكة للتنافس ما بين مختلف الفاعلين. وينهي هذا التصور الملكي لجوهو الوثيقة الدستورية والرهانات المعقودة عليها، النقاش الذي جعلها مجرد وثيقة تنظم السلطات، وتدشن الانتقال الديموقراطي المغربي بالانتخابات المقبلة، فالوثيقة الدستورية الجديدة كما يراها خطاب العرش تتعدى هذا التصور التبسيطي إلى أن تكون أساسا لتعاقد سياسي بنيانه «ترسيخ دولة القانون وحقوق الإنسان، والحكامة الجيدة والتنمية، وذلك بإرساء مؤسسات ناجعة وذات مصداقية». يعني ذلك أن الخطاب الملكي حمل مقاربة توفيقية مثلما تجيب على سؤال المرحلة المرتبط بتنظيم الانتخابات، لا تنسى أن ترسم ملامح المستقبل، وما يتطلبه من العمل، من كافة الفاعلين، المؤسسة الملكية بدورها التحكيمي، والأحزاب والمجتمع المدني، والمواطنين. فكانت إعادة ترتيب الأولويات، تقضي أن الوضع يفرض إخراج هذه المؤسسات في أقرب الآجال، وتعطي على ذلك ضمانات، مثل عدم خرق الدستور، فكل ممارسة أو تأويل «مناف لجوهره الديمقراطي يعد خرقا مرفوضا مخالفا لإرادتنا، ملكا وشعبا»، والعمل على إيجاد مناخ سياسي سليم تسوده الثقة المتبادلة بين الفاعلين السياسيين، خاصة وأن هنا مسارا انتخابيا يبدأ من مجلس النواب، ويتواصل خلال السنة المقبلة، لانتخاب مجلس المستشارين في حلته الجديدة، والتوافق حول القوانين المنظمة للمؤسسات الضرورية والمتناسبة مع الدستور الجديد، خاصة المجلس الأعلى للسلطة القضائية. الحرص على التأويل الديموقراطي للدستور الجديد، وخلق مناخ الثقة، إذا أضيف إليه التوافق حول القوانين الانتخابية بين الداخلية والأحزاب السياسية، يكون التعاقد السياسي قد حافظ على جوهره، لينتقل بعد ذلك إلى تأمين المرور إلى المرحلة الموالية وهي إخراج المؤسسات المنصوص عليها في الدستور الجديد، وأبرزها مجلس النواب، الذي على أساس نتائجه سيعين رئيس الحكومة، على أن يتفرغ بعد ذلك إلى التصويت على القوانين ذات الأولوية ، في انتظار تنصيب مجلس المستشارين لمواصلة إخراج القوانين التنظيمية التي ينص عليها الدستور الجديد. وتحافظ المؤسسة الملكية على دور التحكيم المنوط بها طبق الدستور في هذه المرحلة، وهذا التزام طرف أساسي في التعاقد السياسي، وهو التزام تدفع من خلاله المؤسسة الملكية باقي الأطراف الأخرى إلى تنفيذ بنود التعاقد. هنا تكون مسؤولية الأحزاب والمجتمع، في جعل هذا التعاقد السياسي حقيقة ماثلة أمام المواطن، تنمية سياسية واجتماعية، فيكون الهدف من التوافق حول النصوص القانونية المؤطرة للانتخابات، خطوة في مسار تجاوز أعطاب المشهد السياسي، وقضية ذات أولوية لا يمكن التباطؤ فيها، ويكون القضية الأساس على المدى البعيد، تأهيل وتعبئة كل الفاعلين، ودمقرطة الدولة والمجتمع معا، وحل مشاكل التنمية. ولا يؤمن التصور الملكي بأن الطريق إلى التعاقد السياسي الجديد ستكون سهلة، بل يعترف بأن هناك صعوبات قد تعترضها ناتجة عن حداثة هذا الدستور وما يتطلبه، هنا يقضي منطق التحكيم الملكي، دعوة باقي أطراف التعاقد السياسي إلى القيام بما يلزم القيام به. وفق ذلك يكون على الأحزاب مصالحة المواطنين مع السياسة خاصة الشباب، وعلى المواطن المشاركة المواطنة وتحمل المسؤولية في كل المراحل القادمة، وإيجاد البرامج الانتخابية التي تسهل على المواطنين الاختيار السياسي لمن يمثل إرادتهم في المؤسسات التشريعية والتنفيذية. هنا يكون مفهوم التعاقد السياسي الجديد، قاعدة سياسية تساعد على فهم وتتبع أداء كل طرف من أطراف العملية السياسية في المغرب، بدءا من المؤسسة الملكية بدورها التحكيمي، وانتقال إلى الأحزاب والحكومة وانتهاء بالمجتمع المدني والمواطن الذي وفق هذا التعاقد يؤول إليه الأمر في الإبتداء والانتهاء. سعيد جادلي