في الليلة الماضية، اجتاح المغرب شعور جماعيّ من البهجة العارمة، تدفّق إلى الشوارع في موجات من الصوت والحركة والضوء. أبواق السيارات صدحت، والألعاب النارية اخترقت السماء، وبدا الوطن كلّه وكأنه ينبض بإيقاعٍ واحد من النشوة. لم يكن انتصار المغرب على الأرجنتين مجرّد تفوّقٍ رياضيّ، بل كان في جوهره حدثاً رمزياً عميق الدلالة؛ إذ أيقظ في النفوس يقيناً غائباً بأن الهامش قادر على زحزحة المركز، وأن الجنوب العالمي يستطيع، ولو للحظة، أن ينظر إلى الشمال في عينيه من دون وجل. كانت تلك الليلة احتفالاً يتجاوز الرياضة ليصبح إعلاناً عن قوّة رمزية: تذكيراً بأن الفخر والانتماء يمكن أن ينفجرا في وجه التراتبيات العالمية، لا خضوعاً لها. لم يكن الاحتفال المغربيّ، في حقيقته، احتفالاً بكرة القدم فحسب، بل كان احتفالاً بالسردية ذاتها. فعقودٌ طويلة من الخطاب الرياضيّ والثقافيّ العالميّ كرّست دولاً بعينها بوصفها حارسةً للتميّز والجمال الكروي. أن ينتصر المغرب على الأرجنتين – الدولة التي تُجسّد في المخيال الكونيّ الأناقة والعبقرية اللاتينية – هو بمثابة خرق للأسطورة. لقد حملت فرحة المغاربة ثقل انقلابٍ رمزيّ على الموروث الاستعماريّ؛ إذ شعر الناس، للمرة الأولى منذ زمن طويل، أن التاريخ التفت نحوهم لا بوصفهم متفرّجين أو آخرين غرباء أمام الكبار، بل بوصفهم أبطال السرد الكونيّ أنفسهم. في جوهر هذه النشوة يكمن تداخلٌ عميق بين الأداء والهوية. فالرياضة، في لحظات كهذه، تتحوّل إلى فعلٍ أدائيّ للانتماء الوطنيّ. لم تكن السيارات المزيّنة بالأعلام والأهازيج العفوية مجرّد انفجاراتٍ آنية، بل طقوساً دلاليّة تُعيد كتابة معنى الانتماء في الفضاء العام. كان المغاربة، عبر احتفالهم الجماعيّ، يعيدون صياغة معنى الفخر الوطنيّ في عالمٍ معولمٍ طالما اختزلهم في هوامش التمثيل. تحوّلت الشوارع إلى مسارح يُعلن فيها الجسد الجمعيّ: "نحن هنا، نحن جزء من الحاضر التاريخيّ." ومع ذلك، تكشف المفارقة الأعمق عن ذات الجيل الذي حمل المنتخب إلى النصر. فهؤلاء اللاعبون أنفسهم ينتمون إلى جيل "الزي" – شبابٍ طالما صُوّروا داخل الوطن بوصفهم متمرّدين أو حتى خطرين، حين يخرجون إلى الشوارع لا بأعلامٍ بل بشعاراتٍ تطالب بالتعليم الجيد، والمستشفيات اللائقة، والكرامة، وفرص العمل. المفارقة المؤلمة أنّ الجيل الذي يَمنح البلاد مجدها الرمزيّ في الملاعب هو نفسه الذي يُساء الظنّ به في الساحات، ويُتَّهم بأن تحرّكاته "مدفوعة بأجنداتٍ خارجية". بين البهجة الكروية والقمع الاجتماعيّ تنكشف هشاشة العلاقة بين الدولة وشبابها: علاقةٌ تحبّهم حين يرفعون الراية، وتخشى صوتهم حين يرفعون سؤال الكرامة، والعدالة الاجتماعية، وربط المسؤولية بالمحاسبة. لكنّ هذه النشوة تكشف في الوقت نفسه مفارقة الهوية الحديثة: الحاجة إلى الاعتراف الخارجيّ لتثبيت التماسك الداخليّ. فحين وجّهت عدسات العالم أنظارها نحو المغرب، تحوّل الفعل الوجدانيّ إلى صورة؛ صورةٍ تُستهلك، وتُتداول، وربّما تُنسى سريعاً. ما يبقى هو أثر العاطفة، ذلك الإحساس بأن الانتصارات الرمزية ما زالت تُستدعى لتعويض اختلالاتٍ بنيويةٍ أعمق. كانت الألعاب النارية تضيء السماء لا احتفاءً بالنصر فحسب، بل أيضاً تعبيراً عن توقٍ دفين إلى أن يُرى المغرب ويُحترم ويُفهم خارج حدود الفرجة العابرة. في النهاية، كانت ليلة المغرب لحظة تحرّرٍ وتأمّلٍ في آنٍ واحد. لقد جسّدت قدرة الشعور الجماعيّ على تجاوز الإحباط واستعادة الوجود الرمزيّ. لكنها في الوقت ذاته طرحت سؤالاً جوهرياً: هل يمكن لمثل هذه اللحظات من الوحدة النشوانة أن تتحوّل إلى فاعلية ثقافيةٍ مستدامة؟ بعد أن يخفت صدى الهتافات، يظلّ الأمل أن لا تذوب تلك الليلة في سطحية المشهد، بل أن تُلهِم المغاربة إلى إعادة تخيّل معنى الحداثة الوطنية – حداثةٍ ما بعد كولونيالية، تعدّدية، وفخورة بذاتها، تروي حكايتها بلسانها هي. أستاذ التعليم العالي بالولايات المتحدة الأمريكية