قدور في بداية خمسينيات عمره. أب لأربعة أبناء، وقد يصاب أحدهم بالعدوى ويصير علافا كأبيه. ربما يكون مراد وريثه الشرعي في الحرفة الموسمية. تظهر من حركات الفتى اليافع مهارة في التعامل مع الأكباش. بارع في القبض على الخروف، ثم فحص أسنانه للتأكد من عمره. لا غرابة فقد راكم خبرة محترمة وهو يقدم يد العون للسيد الوالد، ولا خوف على «البلية» من الانقراض. ينصت باهتمام وابن شقيقه يقدم شهادته في حق عمه غير المتطفل على تربية الماشية، وينصفه بنبرة الفخر «ورث التعلاف على جدي.. كبر حدا الكوارا». أبوه فلاح كبير، كان يحرث الأرض، و يخصص الزرائب الثلاث للأغنام والأبقار. حظائر تجر خلفها قرنا من الزمان، وعاشت أمجادا يفتخر بها وهو يسردها على محدثيه. ولى الزمان الذي كان والده يشغل «الخماسا»، وصار الإبن يشمر على ساعديه، ويستعين بأبنائه وزوجته في الإشراف على الزريبة أثناء موسم العلف. أجرتهم «حولي العيد» بالصفات التي يتمنونها. لا يتنكر للمتعة التي يتذوق حلاوتها كلما اقترب رمضان، وانطلق في الانتقال بين الأسواق بحثا عن الخرفان التي سيغذيها حد التخمة، وتختزل في خمسة أشهر ما تعجز عنه خرفان «السرحا» ولو رعت العشب لسنوات. يراقب كل صباح التحول المنشود في هيئة كل خروف، وتغمر أرجاء روحه الفرحة وقد تشكل وصار كبشا يملأ عين الرائي، «هادا إلا ما ربيتيش عليه الكبدا»! بل ووصل به الارتباط بالكبش إلى الحد الامتناع عن الاستمتاع بما طاب من «الزنان» و«الشوا» وباقي وجبات العيد الكبير! يعيش لحظة استثنائية حين يسحب الزبناء آخر الأكباش من الزريبة ليلة العيد أو في الصباح الباكر. يلخصها في عبارة «تيخوى عليا الكوري»، ويضيف بنبرة لا تخلو من انفعال «تنولفهم.. والله العظيم إلا تيبقاو فيا.. كانو معمرين عليا»! يستيقظ كل صباح على الساعة السادسة صباحا. يهيء لأكباشه وجبة فطور من شعير وذرة وفول وشمندر، معززة بالنخالة. يقدم العلف ويشرف على استفادة الجميع من حقه في الشبع حد التخمة. يملأ تلك الأواني الخاصة بالماء، والتي يصر على أن تكون خارج الزريبة حتى تبقى أرضيتها جافة ولا تتسخ صوف الخرفان. ترد الخراف في الساحة المقابلة لتحافظ على نظافتها ومنظرها الجذاب. هذا ما علمه إياه الوالد أيام العز والخير. يتخلص من «التوني الخاص بالكوري»، يستحم بسرعة ويرتدي ملابسه العادية، ثم يغادر في اتجاه الشركة التي يعمل بها. يعود في المساء، فيرتدي مباشرة ملابس العمل، ويتوجه إلى الكوري ليطمئن على أحوال القطيع، ثم يبدأ في إعداد وجبة المساء... في انتظار توزيع «الفوراج» و«الخرطام المحصود خضر»، لتقضي به الأكباش ما تبقى من ساعات الليل في انتظار الفطور. تغيرت معالم منطقة ولاد حدو، وصار من المستحيل تقريبا خروج القطعان في اتجاه المراعي بعد أن مر الطريق السيار من هناك، وقسم أرض الأجداد إلى أرضين منفصلتين. وضع جديد جعل قدور يقنع بممارسة «بلية التعلاف» باعتبارها الحد الأدنى مما ورثه عن والده المتوفى أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ينصت وعلامات الحسرة والأسف على محياه لابن شقيقه وهو يحكي عن ذلك «العلاف» الذي يخصص مستودعا كبيرا، يستقبل فيه كل موسم أكثر من ألف كبش. توفى الوالد وتآكل قطيع الغنم وتقلص عدده، إلى أن فرغت الزرائب من قاطنيها. استمرت «الكوريات» فارغة كأنها تناديه وترجوه أن يشغلها، ولم يدرك اللحظة التي قرر فيها تجريب حظه في «تعلاف حولي العيد». لا تنقصه الخبرة فقد ورثها عن والده، كل ما يحتاجه هو الرأسمال والاستعداد لقضاء خمسة أشهر استثنائية. يستخلص المستمع من كلامه نوعا من النوستالجيا ومحاولة في استعادة الزمان المفتقد. لا يتنكر للبلية ويعلق ضاحكا على الاتهام بالإدمان «مبلي وخاصني كل عام على الأقل عشرين راس نعلفها ونسمنها للكليان». يقرر بعد كل عيد أضحى ألا يعود إلى المغامرة، لكنه يتراجع كلما حل شعبان، وينطلق في الإعداد لاستقبال الزريبة للخرفان والإعلان عن بداية موسم «تعلاف» جديد. جمال زايد