حينما تحاول دفع صخرة ما ملقاة في الخلاء، ستجد أنها تقاوم رغبتك في تحريكها وتفرض عليك نفسها، وتَتَشَبّث بموقعها ضدا على إرادتك. والسبب في ذلك لا يرجع إلى الجاذبية أو الاحتكاك، بل يتعلق الأمر بظاهرة تلقائية تنطلق من الصخرة ذاتها ويُطلق عليها في الفيزياء اسم مبدأ القصور الذاتي Principe d'inertie. إن ما ينطبق على الصخرة ينطبق أيضا على الإنسان. هذا الأخير يملك وجودا معنويا اجتماعيا لا يَتَبدى إلا من خلال رفض ومقاومة إرادة الآخرين. ولو أن المرء صار طيعا منساقا وراء رغبات الآخرين، يميل معهم حيث مالوا وكيف شاءوا، لصار وجوده شفافا لاغيا. لا يُحسب له حساب ولا يقام له وزن أو اعتبار. فالعبرة أن ممارسة الرفض وقول كلمة "لا" تُعد ضرورية في هذا الشأن. فالرفض يعد بمثابة سد منيع، يقف حائلا في وجه كل محاولات الإلغاء التي يمكن أن تطالنا أو تنال منا، وذلك على عدة مستويات:
فيمكن للإلغاء مثلا أن يستهدف إرادتنا من خلال فرض الآخرين رغباتهم علينا، إما تحت مسمى الحب والمودة، فيدفعوننا للشعور بالحرج خوفا من تخييب توقعاتهم وانتظاراتهم منا. وإما خوفا من ردة فعلهم السلبية ومن غضبهم. فنُحْجِم بذلك عن معاكستهم، ونكتم في أنفسنا رغبتنا، ونعدم من أجلهم إرادتنا. أو ربما قد نتراجع حتى عن التعبير عن آراءنا وقناعاتنا المختلفة تفاديا للمصادمة، فنقع بذلك فريسة استيلاب الإرادة والوعي.
وقد يستهدف الإلغاء تجريدنا من امتدادنا المادي أو المعنوي، مثل أن تتخلى زوجة عن مالها أو أجرها أو بيتها لصالح زوجها، أو تتنازل عن حقيبتها -حرجا- لصديقتها، أو عن أسبقيتها في العطلة لزميلتها الموظفة، أو عن دورها في الصف في السوق لفائدة شخص "مستعجل"، أو يمكن حتى أن يسلب زوجها منها صديقاتها ويمنعها عنهن...إلخ.
وقد يستهدف الإلغاء وجودنا المعنوي من خلال التنقيص من قيمتنا الشخصية. والقيمة نوعان: قيمة أصيلة متعلقة بكل فرد من حيث كونه إنسان، بغض النظر عن أي شيء آخر. سواء أكان جاهلا أو فقيرا أو مريضا أو حتى مجرما زنديقا...إلخ. فكل إنسان يستحق الاحترام من حيث كونه إنسان. مع وجوب فصل كيان الإنسان عن أفعاله السلبية والتي تستوجب العقوبة. والنبي مثلا أمر برجم امرأة زانية ولم يسمح لأحد بأن يشتمها أو يلعنها. (وأمَرَ الناسَ أنْ يَرْموا، وأقبَلَ خالدُ بنُ الوليدِ فرمَى رأسَها، فتنَضَّحَ الدَّمُ على وَجهِه، فسبَّها، فسمِعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سبَّه إيِّاها، فقال: مهْلًا يا خالدُ، فوالذي نَفْسي بيَدِه لقد تابتْ تَوبةً لو تابَها صاحبُ مَكْسٍ لغفَرَ اللهُ له. ثمَّ أمَرَ بها فصلَّى عليها، ودُفِنتْ.)
وقيمة اجتماعية إضافية هي محصلة النجاح الذي حققه الفرد في حياته. فالعالم ليس كالجاهل. وصاحب السلطة كالقاضي والوزير ليس كالعوام. واللاعب المحترف المتميز ليس كاللاعب الهاوي. والمهندس الكفؤ المبدع ليس كالمهندس المتواضع. والمحسن الذي يساعد الناس ليس كغيره، والمناضل أو المحارب في سبيل وطنه ليس كالإنسان العادي. بل وأحيانا يعتبر السن في حد ذاته عامل لاعتبار وتوقير إضافي في حد ذاته. والإلغاء أو التنقيص في هذه الحالة قد يمس إنسانيتنا في حد ذاتها، أو قد يطال قيمتنا الاجتماعية الإضافية من خلال معاملتنا كجميع الناس على قدم المساواة.
لكن وجب لفت الانتباه إلى أن التنقيص ليس هو دائما ذلك الحدث الفض الفج الذي قد نتعرض له ويُسيئنا، بل إن كثير منه طفيف شفاف نعايشه يوميا ويمارسه البعض لفرض قوة شخصيته على الآخرين. وتجلياته في واقعنا اليومي أكثر من أن تعد...فقد تجد أحدهم يجعلك تنتظره طويلا في كل موعد. وحين قدومه تُسلم عليه بحرارة وتشرق في وجهه ابتسامتك، بينما تجده بالكاد يمد إليك يده ووجهه فاتر يرمقك بابتسامة صفراء، وحينما يتحدث تصغي إليه بكل جوارحك بينما حينما تخاطبه تجده قد انشغل عنك بكلام غيرك. وتجده دائما يضخم أخطاءك ويوجه الانتباه إلى عيوبك ويقنعك أن الاعتذار ليس عيبا، بينما يتغاضى عن أخطائه ويردع من يتجرأ على عيوبه حتى تكاد تُنسى وتختفي ليبدو كاملا غير منقوص. كثير من الناس إذن تُدير هذه اللعبة السيكولوجية، ونحن مجبرون على خوضها ضد من يمارسها علينا، لفرض أنفسنا، شئنا أم أبينا، فهذا هو مبدأ التدافع والذي يُفضي إلى التنظيم الاجتماعي hiérarchie sociale من خلال تقسيمه المجتمع إلى مُسيطِرين ومُسيطَر عليهم، قواد وتابعين (تماما مثل مجتمع الذئاب)، وذلك لتسهيل تسيير شؤون المجتمع، فلا يمكن للجميع أن يكون قائدا وإلا أدى ذلك لفوضى عارمة داخل المجتمع (المركب التي لها قائدين تغرق).
إن دورنا في الحياة إذن هو الثبات والوقوف في وجه كل محاولات الإلغاء، تماما كما تصمد الصخرة في وجه رغبات الآخرين. يقول الإمام الشافعي في هذا الصدد: وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا وَلَستُ بِهَيّابٍ لِمَن لا يَهابُني وَلَستُ أَرى لِلمَرءِ ما لا يَرى لِيا فَإِن تَدنُ مِنّي تَدنُ مِنكَ مَوَدَّتي وَإِن تَنأَ عَنّي تَلقَني عَنكَ نائِيا كِلانا غَنيٌّ عَن أَخيهِ حَياتَهُ وَنَحنُ إِذا مِتنا أَشَدُّ تَغانِيا
الثبات هو إثبات للذات وفرض للاحترام. لكن للأسف هناك من لا يفلحون فيه. فبعض الناس يتعرضون لقضم مستمر لوجودهم المعنوي، مرة بعد مرة على امتداد سنوات العمر. تجده طفلا يتعرض للإهانة والتنقيص من قبل والديه، حتى قبل أن يملك القدرة على الرفض. في المدرسة تُغتال إرادته وتُسحل كرامته ولا يجرأ على الرفض خوفا من العقاب. في الحي الشعبي يسخر منه المتشردون والمجرمون ولا يُبدي رفضا خوفا على حياته. في العمل يقهره رئيسه إذلالا واحتقارًا ويضطر للصمت خوفا على لقمة عيشه. الشرطي في الشارع يمسح بكرامته الأرض ولا يستطيع الرفض خوفا من السجن. ثم أخيرا تهينه زوجه في البيت وتحتقره حينما تراه أقل شأنا ومرتبة من باقي الرجال، مجرد ريشة في مهب الريح.
كل هذا له نتيجتين:
- الأولى هي فقدان المَعْنِي بالأمر ثقته بنفسه: فكل إنسان منا يملك فكرة عن نفسه، وتقديرا معينا لها مثل معيار أو ميزان يزن به الأمور، فهناك من يرى أنه يساوي مثلا +10 وهناك من يرى أنه يساوي +20 ...إلخ. وهي قيم يُقدر المرء أنه يستحقها من باب الثقة بنفسه وبمؤهلاته النفسية والعقلية والأخلاقية، ومنها ينطلق لبناء علاقاته الاجتماعية مع الآخرين. فمثلا لو أن شخصا يُقدر أن قيمته هي +40 وتمت استضافته في مَجمع ما، وفرح الناس بقدومه لكن دون أن يفسحوا له المجال ليتوسط الجلسة ووجد نفسه مضطرا للجلوس على الهامش. سيشعر بالغبن ويغادر المكان في الحال، لأنه يقدر أنه يستحق أكثر مما حضي به. بالمقابل ستجد شخصا آخر فاقد للثقة بنفسه بالكاد يعتبر أن قيمته هي +5 يفرح كثيرا فقط لأن بعض الأشخاص في نفس المجمع انتبهوا لوجوده وردوا عليه بالسلام.
- النتيجة الثانية هي استشعار الآخرين لغياب المقاومة أو أي ردة فعل من جانبه، مما يجعلهم يتجرؤون عليه أكثر فأكثر كل يوم، حتى تصير حياته جحيما لا يطاق، وصدق عبد الله القصيمي حين قال "إن احتمال ثورة المغامر ضد الحاكم الفاضل أقوى من احتمالات ثورته ضد الحاكم الشرير. إننا نجرؤ على اصطياد الحيوان الفاضل أكثر من جرأتنا على اصطياد الحيوان المفترس". وهذا التجرؤ ليس دائما فعل واعي إرادي، بل في كثير من الحالات هو رد فعل طبيعي. فالشخص مرعب دائما تميل نفسنا بطريقة انتقائية لتذكيرنا بنقاط قوته ومقابلها نقاط ضعفنا أمامه، مما يدفعنا لمهابته. بينما أمام الشخص الضعيف دائما تذكرنا نفسنا بهوانه وضعفه وإن كان يملك نقاط قوة كثيرة. وتجعلنا نميل للاعتقاد أنه لا ينجرح وأنه تعود على مكانته الواطية.
إذن وكما أن هناك أشخاصا واثقون من أنفسهم، هناك أناس قليلو الثقة بالنفس. أكثر من ذلك هناك أنس بدون أي ثقة بالنفس مهدوري الكرامة. ليس للواحد منهم أي اعتبار أو تقدير للذات. ولا يملك أي مرجعية لتقييم علاقاته أو ميزان يزن به تعامل الآخرين معه. كل شيء مقبول لديه، فهو يجهل مقدار الاحترام والتقدير أو اللاتقدير الذي يستحق، فيمكن أن يُهان، أو أن يتم التحرش بزوجته، أو أن يتم شتمه...إلخ. في كل الحالات لا تجد لديه فورة غضب تدفعه للرد. حتى تلك الفطرة والفورة الطبيعية التي توجد عند أي طفل وتجعله يثور حينما يجد أحدا يسخر منه ويستهزأ به. تتلوث ويعلوها الصدأ أو ربما تموت مع الزمن. وحتى لو أنها بُعثت من جديد، وجعلته يشعر بالإهانة والعار، ستجده يراوغ ذاته، ويقنع نفسه أن الأمر لا يستحق عناء الصراع والاقتتال من أجل تفاهات، فالمصلحة والربح المادي هما الأهم، أما الباقي فمجرد اعتبارات ميتافيزيقية وجدانية لا تسمن ولا تغني من جوع.
في المحصلة الإنسان المهدور مجرد ضحية. قتلت الأيام روحه ذرة بعد ذرة، يوما بعد يوما...