الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، يحتاج قبل الغذاء أن يَرْتَوِي بالمشاعر، من حب وحنان وعطف منذ نعومة أظفاره. والحاجة للمشاعر هي من صميم طبيعته، إذ مهما تكبر الإنسان أو استقوى، فهو حتما سيمر من لحظات يحتاج فيها للآخر. عندما تخور إرادته وتنهار عزيمته في تطويع العراقيل، وتفشل خططه وتحليلاته وذكاؤه، وينهار كل ما آمن أنه مصدر قوته وثباته، فيتحلل ويتفكك إلى اللاشيء، فيأتي الحب من الآخر كمصدر قوة خارجية يجمعه ويلملم أشلاءه. يحتاج الإنسان أيضا للاهتمام، فأي شيء نفعله في حياتنا، نسعى من خلاله لجذب اهتمام الآخرين وإثارة إعجابهم، أو على أقل تقدير نسعى لتحصيل إقرارهم بأفكارنا وقبولهم سلوكنا. وإلا فإن الحقيقة نفسها إذا لم تَسْطَع من خلال قبول الآخرين بها تصبح ذاتية لاغية بلا معنى، وكما قال الفيلسوف بيركلي berkley : لا يوجد الشيء إلا إذا تم إدراكه Être, c'est être perçu، حينما لا يرانا الناس نفقد وجودنا. أكثر من ذلك. حتى انسحابنا وعزلتنا عن الناس، ما هي في جوهرها سوى مرحلة استراحة وتنفيس عن الضغوطات قبل العودة وسط الناس بطاقة إيجابية تسمح لنا بامتصاص سلبياتهم لنحظى باهتمامهم، أو قد تكون أحيانا بمثابة مغامرة لتجميع ما يكفي من القصص حتى نجد ما نتحاكى به ونفتخر به حالما نعود لدفيء الجماعة، فما كان لزرادشت أن ينعزل عن الناس في منفاه فوق أعالي الجبال الوعرة إلا وهو يفكر بعودته زافا إليهم حكمته.
الإنسان يحتاج أيضا للكلام، والكلام لم يخترعه أول إنسان للتعبير عن أفكاره المجردة وعن فلسفته، إنما الكلام جاء أول ما جاء للتواصل، فحتى الثرثرة الفارغة تتضمن الكثير من المعنى، تماما كثرثرة الأم التي تبصم على حضورها وتملأ فراغ وجود طفلها طمأنينة وسكينة. إن الكلام في حد ذاته متعة، وأنت إذْ تتكلم تذوب في تغريدك لدرجة أنك تنسى نفسك ومشاغلك ومشاكلك ولا ترى إلا أعين مخاطبيك الجاحظة تركيزا عليك، وكلها شوق ورغبة في مزيد من كلامك العذب الحلو، بله رغبة فيك. فتحقق حلم الانصهار في الآخر والذوبان فيه للحظات. لحظات تداوي كل الجروح التي أنشأها انفصالنا عن الآخر نفورا أو تنقيصا أو تحقيرا...إلخ.
للأسف، كل تلك السعادة نضبت حتى شحت وكادت تغيب. فالإنسان المعاصر وفي خضم بحثه المستميت عن تحقيق حلم السعادة، اختار أن يسلك درب الفردانية التي جعلته ينغلق يوما بعد يوم على نفسه، مضيعا بذلك أحد أهم سبل السعادة وأسبابها.
ما هي العوامل التي حكمت على الإنسان المعاصر بالوحدة؟ تظافرت عدة عوامل: منها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمادية، لتنحو نحو تفكك وصال المجتمع، ودفع أبنائه للعزلة بعيدا عن بعضهم البعض.
فبسبب نمط الاقتصاد واللامركزية، وبسبب تطور وسائل النقل، لم يعد المجتمع متجذرا في بعده المكاني الجغرافي متمركزا حول العائلة والدوار والفخذ والقبيلة، بل صرنا نرى هجرة قروية نحو المدينة، وهجرة من مدينة إلى أخرى بحثا عن فرص العمل من تجارة أو توظيف في وظيفة حكومية...إلخ. ما أدى إلى تفرق شمل العائلات، ثم سعى كل فرد منهم لتكوين أسرته الصغيرة الخاصة به. فتعددت الزيجات من هنا وهناك بدون مصاهرات عائلية حقيقية، وظل الزوجين مقطوعين عن محيطهما العائلي. كل ذلك أنتج مجتمع كوسموبوليتي cosmopolite مختلط، بدون جذور تربطه بالمكان أو بالأشخاص (بدون حنين sans nostalgie)، وصارت المدن والأحياء والعمارات ملئ بالغرباء، لا أحد يعرف ماضي أحد أو شخصيته أو طبيعته أو ميوله. نعيش في عالم بدون هويات، وجوه ترحل وأخرى تحل مكانها. مجرد أشكال فارغة من أي المعنى...نملأها برواسب أنفسنا، فنسقط عليها تمثلاتنا الدفينة من مخاوف وهواجس، فيتحول بذلك الآخر من وسيلة للانعتاق من الذات والخروج من متاهات أنفسنا نحو الواقع. إلى مجرد انعكاس آخر لنفس المتاهات الذاتية اللامتناهية، حتى يفقد الواقع واقعيته.
ونستمر في تغيير الأمكنة وننتقل من عمل لآخر ومن مدينة لأخرى دون استقرار. ونتمادى في تغيير الأوجه والمعارف (غير المعروفة) حتى تمتد الغربة إلى دواخلنا. فالآخر جزء منا لأنه يؤثث فضاء ذاكرتنا، وطالما هو متغير باستمرار متبدد كالشبح يظهر فينة ثم يختفي ليظهر آخر ثم آخر، فإن ذاكرتنا -والتي من المفترض أن تمدنا بالمرجعية والاستقرار- تصير هي نفسها كوسموبوليتية تؤثثها أشباح لا تنتمي إلى واقعنا اليومي، فنصبح غرباء حتى عن أنفسنا.
كيف يتعايش الغريب مع الغريب
ثم إن الإنسان حينما يحط رحاله في حي ما ولأجل مسمى، تجده في الغالب لا يخالط جيرانه، إذ لا وقت لديه لمُجالسة ومنادمة غرباء الحي، فبعد عناء يوم طويل، يحل المساء، ليَجري إلى أسرته ويتفقد أحوال أبناءه ويراجع معهم بعض دروسهم ويحل ما تيسر من مشاكلهم ويسكن لزوجته، فهم أولى بوقته من الغريب. وإذا حدث وجالس جاره الغريب على سطح مقهى ما، فإنه قلما يبوح له بأسراره الدفينة خوفا من المحاكمة الشكلية المعيارية الصارمة، لأنه يدرك في قرارة نفسه أنه لن يتم تقبله كما هو في حقيقة، فالتقبل يحتاج التدرج لسنوات من التعايش تسمح بتقبل الاختلاف، أما الإفصاح الفجائي فهو صادم مُنفر وقد ينتهي فوق ذلك بتسريب الأسرار وإفشاءها. لهذا يحتفظ الإنسان بذاته دفينة بين جناحيه فاقدا معها عفويته، ويكتفي بعرض واجهة سطحية طبيعية نمطية normale et standard تكون مقبولة اجتماعيا من طرف الجميع، لكنها في نفس الوقت مُكلِفة من حيث الطاقة والجهد، لكونها متكلفة متصَنَّعة تعتمد أرطال من المساحيق التي تثقل كاهل أصحابها، فتتحول الحياة مع الوقت إلى تمثيلية رديئة مُجْهِدة، لا يرتاح من عناءها الإنسان إلا وهو في قلب بيته وبابه مُغلق عليه، فيمد رجليه ثم يضغط على الريموت ليشاهد برامجه المفضلة دون تصنع أو تكلف، ويغيب وعيه عن واقعه أكثر فأكثر. ويُدمن على لذة سهل تزيد من صعوبة التصنع لاحقا. وهكذا تظل العلاقات مجرد مُسامرة بين الفينة والأخرى حول أحوال الطقس والأخبار السياسية والرياضية، والكل يدرك في صميمه أن تلك العلاقات لا تتعدى تمضية بعض الوقت، ولا يمكنها أن ترقى يوما لتكون ذرعا آمنا في وجه نوائب الأيام. لن تشفع لك تلك اللحظات المشتركة لتجد يدا تمتد لك حين المرض أو الإفلاس والفاقة. وحتى لو قررت أن تكون مخلصا صادقا مع أحدهم. فإنك ستجد منه الصد والجفاء متى ما أسأت أو نسيت أو أخطأت. فبسبب الفردانية تضخمت الأنا بنرجسيتها وصارت تتخفى تحت رداء الكرامة، حتى ما عاد أحد قادر على التجاوز عن غيره، وصرنا نرى صراعات يومية تشق وصال المجتمع، غالبيتها تندلع لأسباب تافهة، فالكل يدقق في تصرفات الكل معتبرا أي تجاوز في حقه مهما صغر شأنه بمثابة انتقاص وتقليل من قدره، وتم استبدال قيم التجاوز والتراحم والتساهل والتسامح بقيم الأنفة والكبرياء والتنافس، الكل يريد أن يكون الأحسن والأعلى شئنا بين الجميع، الموهوب وغير الموهوب الذكي والأقل ذكاء الماهر وغير الماهر...إلخ. وإذا فشل فهو يسعى لتعويض أحلامه المجهضة من خلال أبناءه، فيسجنهم ويخنقهم وراء قضبان أحلامه الميتة، ولا ينثني عن تتبعهم ومقارنتهم باستمرار بغيرهم حتى يولد فيهم مشاعر الغيرة والحسد اتجاه الآخرين.
ثم لا يكتفي لأبنائه بذلك السجن، فيسجنهم وراء حيطان بيوتهم، ولا يسمح لهم بمخالطة أبناء الغريب، خوفا من تأثيراته السلبية عليهم، أو خوفا من الجرائم المنتشرة من حولهم، فيتحولون بدورهم إلى غرباء منعزلين عن الواقع، مرتبطين داخل منازلهم بعوالمهم الافتراضية (الشبكة العنكبوتية) تسلية ودراسة، وهي عوالم لا زمانية بدون ذاكرة، جدرانها لا تتشقق، أشجارها لا تذبل وتموت، وكراساتها لا تتسخ أو تصفر. قابلة للعدم بضغطة زر. فتُمحى وتمحي معها كل وجودهم ووجدانهم وذاكرتهم التي ارتبطت بها. وتحولهم معها إلى كائنات افتراضية لازمانية، بدون ماض أو مستقبل أو حتى حاضر.