الجديدة.. تأجيل محاكمة شبكة 'السمسرة والتلاعب بالمزادات العقارية' إلى 4 نونبر المقبل    آفاق واعدة تنتظر طلبة ماستر "المهن القانونية والقضائية والتحولات الاقتصادية والرقمية" بطنجة    قاض يعلق على الأحكام الصادرة في حق المتورطين في أحداث "جيل زد"    النيابة العامة تؤكد ضمان المحاكمة العادلة في "جرائم التجمهرات" بالمغرب    الطالبي العلمي يستقبل رازا في الرباط    "حماس" تؤجل موعد تسليم جثة رهينة    "لبؤات U17" يغادرن مونديال الفتيات    واشنطن تُسرّع خطوات فتح قنصليتها في الداخلة قبل تصويت مجلس الأمن    وزير النقل واللوجيستيك يترأس أشغال تقديم/تجريب نموذج السيارة الذكية    الملك يتمنى التوفيق لرئيس الكاميرون    صدمة في طنجة.. قاصر تُنهي حياة رضيعة داخل حضانة غير مرخصة    مسرح رياض السلطان يطلق برنامج نوفمبر 2025: شهر من التنوع الفني والثقافي بطنجة    اغتصاب وسرقة بالعنف يقودان إلى اعتقال أربعيني بسيدي البرنوصي    هل نأكل الورق بدل القمح؟ التويزي يكشف اختلالات خطيرة في منظومة الدعم بالمغرب    بمشاركة مغربية.. "مجلة الإيسيسكو" تحتفي بالهوية والسرد والذكاء الاصطناعي في عددها الرابع    فرق المعارضة بمجلس النواب .. مشروع قانون المالية يفتقد إلى الجرأة ولا يستجيب لتطلعات المواطنين    الأمن الوطني يحصي 32 وفاة و3157 إصابة وغرامات ب8.9 مليون درهم خلال أسبوع    الحكومة البريطانية تجدد التأكيد على دعمها لمخطط الحكم الذاتي    شهيد يرد على الأحرار: "تُشيطنون" المعارضة وتجهلون التاريخ وحقوق الإنسان والممارسة السياسية (فيديو)    بورصة الدار البيضاء تغلق على ارتفاع    ندوة فكرية بمراكش حول "مجموعة اليواقيت العصرية"، للمؤرخ والعلامة محمد ابن الموقت المراكشي    الصحراء المغربية على أعتاب لحظة الحسم الأممية... معركة دبلوماسية أخيرة تُكرّس تفوق المغرب وعزلة الجزائر    توقيع اتفاقية برنامج "تدرج" بالدار البيضاء    الفريق الاستقلالي: المناطق الجبلية تعاني التهميش.. والمؤشر الاجتماعي يعرقل تنزيل الورش الملكي    "الديربي البيضاوي".. الإثارة والتنافس يلتقيان في مركب محمد الخامس    لقاء أدبي بالرباط يحتفي برواية «أثر الطير» لثريا ماجدولين    سعيد بوكرامي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ابن خلدون سنغور للترجمة    لقاء أدبي مع لطيفة لبصير بتطوان احتفاء ب«طيف سبيبة»    العصبة الاحترافية تعلن تغيير موعد مباراة الوداد واتحاد طنجة    "أمازون" تستغني عن خدمات 14 ألف موظف وتتجه إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي    ريال مدريد يعلن خضوع كارفخال لعملية جراحية ناجحة    إغلاق نهائي لسجن عين برجة بسبب تدهور بنيانه وخطورته على النزلاء    11 قتيلا في تحطم طائرة صغيرة بكينيا    الاتحاد الإفريقي يدين "فظائع الفاشر"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مندوبية السجون تعلن الإغلاق النهائي لسجن عين برجة    مايكروسوفت: المغرب ثالث أكثر الدول الإفريقية تعرضا للهجمات السيبرانية    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية:أضواء على صفحات منسية من تاريخ الحركة الأدبية بالمغرب، من خلال سيرة الشاعر أحمد الزعيمي وديوانه المحقق..    صورٌ ومشاهد من غزة بعد إعلان انتهاء العدوان (8)    عبد الإله المجدوبي.. العرائشي الذي أعاد للذاكرة دفئها وللمكان روحه    فضيحة تحكيمية تهز كرة القدم التركية    قيوح: نعمل على اقتناء 168 قطارا جديدا بينها 18 قطارًا فائق السرعة    ميسي يتطلع للمشاركة في كأس العالم 2026 رغم مخاوف العمر واللياقة    صلاح وحكيمي ضمن ترشيحات "فيفبرو"    بدوان تحمل العلم الوطني في المرحلة 11 "سباق التناوب الرمزي المسيرة الخضراء"    تعديل الكربون.. آلية أوروبية تضع الشراكة مع المغرب في اختبار صعب    النمل يمارس التباعد الاجتماعي عند التعرض للأمراض والأوبئة    دراسة حديثة تحذر من مغبة القيادة في حالة الشعور بالإرهاق    إقبال متزايد على برنامج دعم السكن..    المغرب يتوفر على إمكانات "مهمة" للنهوض بفلاحة مستدامة (ممثل الفاو)    تقرير أممي يتهم أكثر من 60 دولة بينها المغرب بالمشاركة أو التواطؤ في إبادة غزة    مواد سامة وخطيرة تهدد سلامة مستعملي السجائر الإلكترونية    اكتشاف خطر جديد في السجائر الإلكترونية يهدد صحة الرئة    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أثر العقيدة في علاج مشكلة الانتحار
نشر في أخبارنا يوم 03 - 12 - 2014

حقاً، إن الإنسانيّة كلّها مدينةٌ للإسلام بمنهجه وعقيدته، وآدابه وقيمه، واسأل أي مُنصفٍ من الباحثين، سيُخبرك كيف كانت العقيدة الإسلاميّة شمساً تسطع على الكون فتُبدِّدَ ظلام الجاهليّة، وتزيل أقنعة الوهم والخرافة، على نحوٍ لا يملك من كان عادلاً في أحكامه إلا أن يعترف بالعظمة والرفعة لها، دون غيرها من المناهج الأرضيّة.

وإن دائرة الدلائل على هذه الرفعةِ والكمال العقديّ واسعةٌ للغاية باتساع متعلّقاتها ومسائلها وأحكامها، ونريد ها هنا أن نسلّط الضوء على مسألةٍ خاصّةٍ طالما اكتوتْ الحضارة المعاصرة بنارها، واشتكتْ من آثارها وأخطارها، لا سيما وقد دخلتْ تلك المسألة مُعترك المعتقدات –كما هو عند الشعوب اليابانيّة، إنها مسألةُ الانتحار وإشكاليّته، وسنرى في الأسطر القادمة حجم هذه الأفعال المشينة التي يعجز القلم عن تصوير بشاعتها، ليقودنا ذلك إلى إدراك كيف نجحت العقيدة الإسلاميّة بصفائها ونورها، وقوّتها وصلابتها، أن تحمي أتباعها من الوقوع في حبائلها.

الانتحار والواقع المأساوي

لم يكن الحديث عن الانتحار كمشكلةٍ حضاريّة إلا حديثاً عن حوادث متفرّقة مبثوثةٍ على مسار التاريخ الإنساني، ولا تكاد ترقى أن تكون مشكلةً مستمرّة تُرى آثارها في الواقع الملموس.

أما اليوم فتبرز أمامنا إشكاليّة الانتحار في المجتمعات المتحضّرة والهرب من جحيم تلك الحضارة وويلاتها، فقد بلغت حداً من الانتشار، أصبحت فيه –كما يرى علماء النفس والاجتماع- صرعةً غربية!، فالواقع السريع للتطور التكنولوجي المتلاحق، والاتجاه الشرس نحو الماديّة المفرطة، وتفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية والأسرية، كلّ ذلك أوجد إحساساً بالضياع، وأوجد أزمة هويّةٍ لدى الشباب والمراهقين في بلاد الغرب، بما يُهدّد بحدوث انهيار نفسي وجماهيري.

ونقول: إن مشكلة التخلّص من الحياة على وجه العمد لأسبابٍ اجتماعيّةٍ أو أسريّة أو عاطفيّةٍ هي من بلايا العصر الحديث التي استفحلت في الآونة الأخيرة، وباتت تشكّل ظاهرةً تسترعي الانتباه، ولا شكّ أنها تصرّفٌ سلبيّ وخاطيء بكل المقاييس، ناهيك عن منافاتها للقيم الإيجابيّة والفاعليّة المطلوبة، والتي دعا إليها الإسلام وحضّ عليها، ثم إن الضرر الحاصل من إنهاء الإنسان لحياته لهو أكبر من مجرّد فقدان حياةٍ كان يُمكن أن تكون لبنةً صالحةً في المجتمع، ولكنّ الخشية في تأثير هذه الروح المنهزمة إلى الغير فتتفشّى في الوسط المحيط ويُنظر لهذه الفعلة القبيحة بنظرةٍ التقبّل لدوافعها، ومن ثمّ يقلّ النكير أو الاستهجان لها، وفي ظلّ الماديّة الجوفاء يزداد حجم هذه المشكلة فقد يتطوّر الأمر إلى السماح بممارستها وقانونيّة الدعوة إليها، كما هو حاصلٌ في بعض المجتمعات الغربيّة.

إن هذا الإحساس بالضياع الذي يعيشه مراهقوا الغرب أوجد نزعةً نحو التخلص من مشاكل الحياة المادية باللجوء إلى الانتحار، فقد أجرت (مجلة المراهق) الأمريكية مسحاً بين عيّنةٍ من الصبية والفتيات في فئة السن بين 15 و 19 عاماً لاستطلاع مشاعرهم تجاه ظاهرة الانتحار المتزايد في المجتمع الأمريكي، وقد شارك في المسح أكثر من (500) صبي وفتاة، وجاءت نتيجة المسح المفزعة لتقول: إن الثلث ممن وجِّهت إليهم الأسئلة حاولوا فعلاً التخلص من حياتهم بعد أن استسلموا لليأس والقنوط، ولقد رُوعي في تكوين واختيار تلك العينة أن تكون مُمثلةً لواقع المجتمع الأمريكي بجميع أطيافه، وينتهي المسح أيضاً إلى أن 73% من الشباب والمراهقين فكَّروا في الإقدام على الانتحار مرة على الأقلّ خلال حياتهم.

ويشير الاستطلاع إلى ظاهرة خطيرة أخرى، وهي أن غالبية من حاولوا الانتحار هم من الفتيات، في أخطر مراحل العمر وأحوجها إلى الجو النفسي الأسري، وذلك عند رفضها أو عجزها عن دفع تكاليف سكنها ومعيشتها! .
وما هذه الإحصائيّة التي قامت بها المجلّة المذكورة إلا عيّنة مختارة تكشف لنا بجلاء طبيعة مشكلة الانتحار وأثرها وتداعياتها، والعيّنة كما يُقال: بيّنة.

والناظر إلى هذه الظاهرة يجد أن الإحساس بالوحدة يدفع إلى التفكير في الانتحار، وكذلك الانزعاج والاستياء من المظهر الشخصي للمرء يُزَهِّده في حياته، ويدفعه إلى اليأس والقنوط ، ومما يزيد الطين بِلَّةً أن الشخصية الانتحاريّة لا تجد من تفضي إليه بمكنوناتها وإحباطاتها إلى حين زوال الغُمة وانفراج الأسارير، وفي ذلك تقول نتائج المسح: أن ربع من فكروا أو أقدموا على الانتحار فعلوا ذلك بعد أن خاب أملهم في وجود من يُسرّون إليه بمعاناتهم.

وبسبب الأوضاع النفسية السيئة، والخوف الدائم من الموت، فإن معدلات الانتحار بين الشباب الأمريكي أكثر من معدلات الانتحار في أوروبا الغربية بنحو 20 ضعفاً، وأكثر منها في اليابان بأربعين ضعفاً.

نجاح العقيدة الإسلاميّة في حل هذه المشكلة

إن الحديث عن الحل لمشكلة الانتحار والذي قدّمته العقيدة الإسلاميّة يتجاوز العلاج الظاهري لها، ويقودنا إلى جذورها ومنطلقاتها، فالأمر يتجاوز الممارسة الخاطئة، وبدايات الخلل تكمن عند نظر المقدمين على الانتحار إلى عبثيّة الحياة وعدم فهم سرّ الوجود وغايته، وهذه المسألة تلقي بظلالها النفسيّة السلبية على صاحبها فتقوده إلى الانتحار، والحق أن الإسلام قد كوّن التصوّر الصحيح لأسباب وجود الإنسان في الحياة، وبيّن أنها انتقالٌ من دار مؤقّتة إلى دارٍ توصف بالحياة الكاملة الدائمة، ولذا جاء وصفها في القرآن بالحيوان، قال سبحانه وتعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:64) ، فالآخرة هي الحياة الدائمة التي لا زوال لها، ولا انقطاع ولا موت معها.

وإذا كانت الحياة الدنيا ليست سوى مجرّد محطّة مؤقّتة يوشك المرء أن يُغادرها، كان من الطبيعي أن يكون ما بين الدارين ذلك التباين الهائل والفرق الشاسع، فإذا كانت الحياة الدنيا زهرةٌ نضرة، وليس للزهرة دوام بل مصيرها إلى الذبول، فالآخرة وما أعدّه الله للمتقين هي الحياة التي تستحقّ أن يُقلق لأجلها، وأن تكون مقصداً لكل عاقل، ولا أسف على الدنيا ولا حُزن على ما فات منها، فعند الله عز وجل العِوَض الوافي.

والدار الآخرة –كما يقول أهل التفسير- هي دار {الحيوان}، أي: الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقواهم في غاية الشدّة، لأنها أبدانٌ وقوى خلقت للحياة، وأن يكون موجوداً فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات، من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله، ما أطلعتم عليه) ثم قرأ: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (السجدة: 17) رواه البخاري، فإذا تفكّر من أراد الانتحار بهذه الحقيقة، علم أن الدنيا أصغر وأحقر من أن يُزهق روحه لأجلها، أو أن يُفسد حياته ويُنهي وجوده ويقطع باب العمل للآخرة بسببها.

لقد أحال الإسلام قضية الموت التي صورتها الآداب الجاهلية منذ زمن الإغريق والرومان وحتى حضارة الغرب المعاصرة بشكلٍ مأساوي رهيب، إلى مجرّد انتقال وتحول إلى حياةٍ من نوع جديد تتميّز بالراحة والسعادة، والخلود للمؤمنين، وفيها تحقيقٌ لأحلامهم التي لم يجدوا سبيلاً لتحقيقها في الحياة الدنيا، وليس في الإسلام مكانٌ لفكرة العبث الوجودي والتي جعلت الكثيرين ينهون حياتهم بالانتحار؛ لعدم اقتناعهم بجدوى الحياة ومكابدة صراعاتها، ولانتقاء الغاية منها في عقولهم وضمائرهم، فالإسلام حدد الغاية ونفى العبثية، وطرد الضياع، فحل مشكلةً وجدانيّةً وعقليةً خطيرة أقلقت الناس الذين عاشوا ويعيشون في الأطر الجاهلية، قال الله سبحانه وتعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون* فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (المؤمنون:115-116).

يقول صاحب الظلال: "فحكمة البعث من حكمة الخلق. محسوب حسابها، ومقدر وقوعها، ومدبّر غايتها، وما البعث إلا حلقة في سلسلة النشأة، تبلغ بها كمالها، ويتم فيها تمامها، ولا يغفل عن ذلك إلا المحجوبون المطموسون، الذين لا يتدبرون حكمة الله الكبرى وهي متجلّية في صفحات الكون، مبثوثة في أطواء الوجود".

وعندما يتوصّل الناس إلى هذه الفكرة وتتضّح لديهم، فإن نظرتهم إلى الحياة ومعناها ستختلف بالتأكيد، لنستمع إلى تجربة الفيلسوف تولستوي Tolstoyإذ يقول: "لما قضيت الخمسين من عمري سألت الحكماء الذين عرفتهم عن كوني الخاص وعن معنى حياتي، فكان الجواب أنني عبارة عن ذرات اجتمعت ببعضها، وأن حياتي خلو من المعنى، بل إنها رديئة، فداخلني اليأس من هذا الجواب، وكاد يحملني على الانتحار، ولكنني ذكرت حالتي في عهد الطفولية حينما كان الإيمان راسخًا في قلبي، وكان للحياة معنى عندي، ثم نظرت فرأيت جمهور الناس حولي راضين بالإيمان، ولم يبطرهم المال فيجرّهم إلى الفساد؛ فلذلك يعيشون عيشة حقيقية مملوءةً بالمعاني".

فانظر كيف قادت العبثيّة هذا الفيلسوف إلى الشعور بالضياع وعدم الجدوى من الحياة، ثم كيف تبدّلت حياته حينما استصحب الإيمان، مع إيماننا بأن نظرته إلى الإيمان هنا كانت نظرةً نسبيّة وقاصرةً، لم تقده إلى الإيمان الكليّ، ولكنها قاربته من حقيقة الإيمان والغائيّة في الخلق، فانفرجت أساريره بمقدار هذا النزوع اليسير إلى الإيمان الصحيح.

وثمّة جانبٌ آخر من دوافع الإقدام على الانتحار، وهو نابعٌ من تصوّر أن الإنسان له الحق في إنهاء حياته بيده، وأن روحه التي بين جنبيه هي ملكٌ خالصٌ له، وهذا النظرة القاصرة هي التي جعلت الكثيرين من أصحاب المذاهب الماديّة يُدخلون مسألة الانتحار في إطار الحريّة الشخصيّة، والحقّ أن الروح هي ملك لله، وهو الذي هيّأها وخلقها لمقصدٍ معيّن، فأيّ تصرّف في النفس بغير إذن مالكها سبحانه وتعالى هو تعدٍ على حقّ الخالق وتصرّفٌ غير مأذونٍ به، ويمكن استلهام هذا المعنى من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:(كان برجل جراح، فقتل نفسه، فقال الله سبحانه وتعالى: بدرني عبدي بنفسه؛ حرّمت عليه الجنة) رواه البخاري، أي: استعجل الموت ولم يصبر حتى أقبِضَ روحه من غير سبب منه.

إن الأمل بالله عز وجل والرجاء بفضله ورحمته، وحسن التوكل عليه والإنابة عليه، نابع من الإيمان بالله الذي يمنع اليأس والقنوط، وإن الإحساس بالكآبة والضياع، أو التمرّد والعبث، أو الانقلاب عن عبادة الله عز وجل إلى عبادة سواه هو نتيجة لعدم الإيمان؛ قال تعالى: {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} (هود:123)؛ لذلك كان اليأس من صفات الكافرين: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف:87).

وقد صوّر القرآن الكريم حالات اليأس المستبد بالإنسان عندما يقطع صلته بالله ويفقد إيمانه برحمته، فكأنه لا يجد بعد ذلك ما يفعله إلا أن يمدّ حبلاً إلى الأعلى فيشنق به نفسه ليذهب غيظه، ولكن روحه تزهق ولا يذهب غضبه ويأسه، قال الله سبحانه وتعالى: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ } (الحج: 15).

وإذا كان المقدم على الانتحار شخصٌ قُتل الطموحُ في نفسه، ففقد الأمل في علاج المشكلات التي يواجهها في حياته، فإن صاحب العقيدة الإسلاميّة لا ييأس من روح الله، يوقن بأن الله سبحانه وتعالى الذي ما أنزل داءً إلا وجعل له دواء، يؤمن كذلك بأن للمصائب والنوازل مفاتيح فَرَجٍ لأبوابها المغلقة، لا يستفتحها إلا من اتقى ربّه جلّ جلاله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} (الطلاق:2-3) فبالله سبحانه وتعالى يندفع المحذور، ويحصل المأمول، وتُحلّ العقد، وتنكشف الغمّة.

وإلى اليائسين من روْح الله، الذين تفصّمت لديهم عُرى الصبر الجميل، ولم يروا لهم مخرجاً ومنجاةٍ من عذابات الدنيا إلا بإزهاق الروح وإنهاء الارتباط بالدنيا انتحاراً وهروباً من المواجهة، تبرزُ آيةٌ كريمةً لتبدّد هذه المشاعر القاتمةِ وتُحيلها هباءً منثوراً: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما* ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا} (النساء:29-30) ؟

فالله جلّ جلاله أرحم بعبده المؤمن من نفسه؛ فينبغي له الرضا عن الله سبحانه وتعالى في مرضه وصحته، وألا يتّهمَ قدَرَه، ولا يسأله الوفاة عند ضيق نفسه بمرضه، أو تعذّر أمور دنياه عليه.

إن اعتداء الإنسان على نفسه ومباشرته لإزهاق روحه ليست حريّةً شخصيّة كما يزعم المنظّرون للحضارة الغربيّة المعاصرة، ولكنّها جريمةٌ كبرى، واعتداءٌ صارخ، وتصرّفٌ فيما لا يملكه الإنسان بغير وجه حقّ، والحقّ أن الحياة ملكُ الله وكذا الروح والنفس، إنما هي وديعةٌ إلهيّةٍ حُدّد لنا أوجه التصرّف فيها، ولذلك كان الانتحار جريمةُ شنعاء بل هي من كبائر الذنوب،كما هو واضحٌ من النصوص الشرعيّة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: ( من تردّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن تحسّى سمّاً فقتل نفسه، فسّمه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأُ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلّداً فيها أبداً) متفق عليه، والوجأ: ضرب البطن بآلةٍ حادة كالسكّين.

ولمّا كانت الأقدار مخبّأة، والمرء لا يدري كيف تؤول الأمور، ويخشى على نفسه الجزع وعدم الصبر، يأتي التوجيه النبويّ بتفويض أمر الموت والحياة إلى الله سبحانه وتعالى في الاختيار بما هو الأصلح للعبد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( لا يتمنّينّ أحدكم الموت من ضرٍّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي) متفق عليه.
يقول الإمام النووي معلّقاً: " فيه التصريح بكراهة تمنّي الموت لضرٍّ نزل به من مرضٍ، أو فاقةٍ، أو محنةٍ من عدو، أو نحو ذلك من مشاق الدنيا".

وبهذا التناغم بين مُفردات العقيدة الإسلاميّة الصافية، بما تدعو إليه من التوكّل على الله والاستعانة به، والإيمان بحكمته الشاملة، واليقين بأقداره وصلاحها للعباد، ، تبرز الحكمة الرائعة، والرؤية الثاقبة، والمنطق الرزين، للعقيدة الإسلاميّة، ونجاحها في القضاء على هذه الظاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.