أدركت السينما منذ بدايتها ضرورة تلبية الحاجيات المعرفية والسيكولوجية للمتلقين، فاحتوت الإبداعات السابقة عنها، واستقطبت الإبداعات المجاورة لها مثل الأدب والرقص والموسيقى، دون أن تهمل الحفاظ على الذاكرة الجماعية والموروث الحضاري من خلال إعادة إحياء الماضي بصريًا عبر أفلام تنبش في الوقائع التاريخية، سواء كوقائع أو كسير ذاتية لشخصيات أثرت في التاريخ. يكفي أن نذكر أشرطة مثل الملك لير لسنة 1910 لمخرجه جيرولامو سافيو، أو شريط كليوباترا سنة 1912. أما عربيًا، فيمكن الإشارة إلى محاولة يوسف وهبي بالتعاون مع وداد عرفي لإنتاج شريط عن الرسول، ورغم فشل المحاولة، لم يلبث التاريخ أن تسلل إلى الفيلم العربي عبر أعمال مثل شجرة الدر وكليوباترا وغيرها. لقد ظلت علاقة السينما بالتاريخ ملتبسة لأنها تأسست منذ البداية على النفعية، أي علاقة براغماتية مرتبطة بمنطق الرهان على الإثارة. فالتاريخ في السينما لا يحضر إلا كتصوّر مرتبط بالفرجة والمتعة، وداخل المتخيل السردي لا يهم السينما الصدق حيال الوقائع التاريخية بقدر ما يهمها «تفنين» تلك الوقائع وإضفاء الجمالية البصرية عليها. بمعنى أن السينما لا يعنيها التأريخ لذاته بقدر ما يعنيها الإبهار البصري الذي تمنحه المواضيع التاريخية. وهذا ما بدا جليًا منذ سنة 1915 مع شريط مولد أمة للمخرج د. و. غريفيث، إذ استغل المخرج الموضوع التاريخي لإحداث تغييرات في شكل السينما ووظيفتها الأيديولوجية، إلى درجة أن بعض النقاد عنونه ب«مولد سينما» بدل «مولد أمة». حين تحكي السينما ما حكاه المؤرخ، أي حين تمارس ما اصطلح عليه الراحل نور الدين الصايل ب«الحكي المكعّب»، فإنها تكون مقيدة بالمؤسسة الإنتاجية مالًا وفكرًا، مما يجعل الحوار بين السينما والتاريخ حوارًا موجَّهًا. لذلك يصعب اعتماد الفيلم التاريخي كوثيقة تاريخية على غرار الخطب والمعاهدات وغيرها، بقدر ما يمكن اعتباره «قراءة ثانية أو ثالثة» للتاريخ حين يعتمد صناع الفيلم على الروايات التاريخية كمصدر. وقد تساءل نور الدين الصايل: «كيف لمولودٍ أن يعيد تشكيل الأب؟»، معلنًا ضرورة الابتعاد عن البحث في «صدق السينما» تجاه التاريخ، والاقتراب من فهم نمط التصورات وطريقة إعادة إنتاج الماضي في الحاضر. فالمتخيل التاريخي في السينما غير مستقل عن أسلوب إظهاره بصريًا، وغير منفصل عن التمثلات الذهنية والمرجعيات الفكرية والأيديولوجية لصناع هذه الأفلام، حتى وإن اعتمدت مصادر تاريخية. ومع ذلك، لا يمكن نزع صفة «القراءة غير الرسمية للتاريخ» عن السينما، بدليل قدرتها على كتابة «التاريخ المضاد»، كما في أفلام الأقليات، أو أفلام ما بعد حرب الفيتنام، أو أفلام هوليوود بعد أحداث 11 شتنبر 2001، أو بعض الأفلام العربية التي تناولت التاريخ الإسلامي بالتركيز على نمذجة فترة ظهور الإسلام. وقد أشار محمد العبادي إلى هذا الأمر حين قال عن فيلم الرسالة للعقاد: «إنه ليس فيلمًا تاريخيًا بالمعنى الوصفي للكلمة، بل فيلم يجسد الشعور التاريخي الموجود عند المسلمين اليوم عن ماضيهم». وتدفعني هذه المعطيات إلى إبراز أهم العوامل الفنية والفكرية المؤثرة على نقاوة الفيلم التاريخي ونصاعته: 1. الفاصل المنهجي بين الوثائقي والروائي الحديث عن الوثيقة البصرية يستدعي فصلًا منهجيًا بين الوثائقي والروائي. فالوثائقي يقدم قراءة موجّهة للتاريخ، ليس فقط لأن الصوت يقمع الصورة ويوجه تأويلها، بل لأن إعادة ترتيب الصور الواقعية ضمن إطار سردي هو في حد ذاته موقف فكري وأيديولوجي. أما الروائي التاريخي، ولأسباب تسويقية وفنية، فلا يمكن أن يتحقق دون الالتحاف بأنواع فرعية أخرى. فليست الملابس والديكور والإكسسوارات وحدها ما يمنح الفيلم هويته التاريخية، بل أيضًا سياقات السرد. لذلك نجد الفيلم التاريخي الحربي أو الدرامي أو التشويقي… وتزداد الأمور تعقيدًا حين يتعامل المخرج مع التاريخ خارج أي وساطة تاريخية. نموذج ذلك فيلم عطش لسعد الشرايبي، الذي أخذ بالفرع – الرواية – ونفى الأصل، للحديث عن فترة الاستعمار، مما يجعله أقرب إلى فيلم درامي عاطفي داخل حقبة تاريخية، وليس فيلما تاريخيا خالصا. 2. السينما بين التوثيق والتمثيل المؤثر الثاني لا يتعلق بأسلوب الفيلم فحسب، بل بطبيعة السينما المؤرخة رغمًا عنها. فهي، من جهة، قادرة على حفظ العلامات المعمارية وطبيعة العلاقات السائدة لحظة الإنتاج؛ لذلك كانت «صورة اليوم هي ذاكرة الغد» كما قال برهان علوية. وهي حقيقة تظهر في أفلام فلسطينية مثل عرس الجليل والذاكرة الخصبة، التي تمنحنا اليوم قراءة تاريخية-تحليلية أعمق مما تمنحه بعض الأفلام الوثائقية الدعائية. ويمنحنا فيلم المومياء لشادي عبد السلام نموذجًا آخر يعكس علاقة الإنسان العربي بتاريخه. وهنا نستحضر ردّ مارك فيرو على ناقد قال إن كل أحداث فيلم المدرعة بوتمكين خاطئة: «كيف يمكن لفيلم خاطئ معلوماتيًا أن يكون أكثر حقيقة مما صنعه المؤرخون؟». كما تمنح السينما، من جهة أخرى، إمكانية لدراسة «تاريخ العقليات» التي أنتجت الأفلام، وهو ما وضحه الراحل مصطفى المسناوي حين قال: «إن الفيلم في إحالته على وقائع تاريخية لا يحيل في الحقيقة إلا إلى نفسه بالذات». فالحاضر حين يقرأ الماضي لا ينفصل عن زاوية رؤية صناع الفيلم. ويظهر ذلك مثلاً في الأفلام الإسلامية التي تناولت ظهور الإسلام فبالغت في تقديس المرحلة، أو في لجوء بعض المخرجين إلى التاريخ للتحايل على الرقابة، كما فعل يوسف شاهين بين المهاجر والمصير. 3. أثر الزمن في بناء التخييل التاريخي من المعلوم أن السينما تعدّل الزمن الواقعي بزمن إبداعي جديد. وإحساسنا بالزمن فطري، لكن طريقة عرضه سينمائيًا هي التي تؤثر فينا. للسينما ثلاثة أزمنة: – الزمن الذي نحكي عنه (زمن القصة)، – الزمن الذي نحكي بواسطته (الزمن السردي)، – الزمن الذي نحكي داخله (زمن الإنتاج والعرض). والاستحالة القطعية للتطابق بين هذه الأزمنة تجعل السينما مجبرة على تعديل الزمن الحقيقي للحدث التاريخي، عبر الانتقاء والقفز الزمني والمونطاج، مما ينفي عنها الحقيقة التاريخية الصرفة. ومع ذلك، تنجح في إيهام المتلقي بأنها عكَست سنوات أو عقودًا في ساعتين. ولزمن الإنتاج أثر بالغ: ففيلم الناصر صلاح الدين (1963) جاء في سياق المد القومي، بينما جاء مملكة الجنة (2005) في سياق فوبيا الغرب من الإسلام، مقدمًا خطابًا مغايرًا يقوم على التسامح. هكذا يتبين أن زمن الإنتاج هو أحد أهم المؤثرات على التخييل التاريخي. 4. التكنولوجيات الحديثة وتاريخانية السينما يتعلق المؤثر الرابع بالتطور التكنولوجي الذي غير شكل الفيلم التاريخي؛ فالكلفة الإنتاجية الباهظة كانت دائمًا عائقًا، لكن الحاسوب اليوم ألغى الكثير من القيود. مشهد شق البحر في الوصايا العشر (1956) كان لحظتها إعجازًا بصريًا، بينما لم يحقق إكسودوس (2004) نفس الانبهار رغم التطور التقني، لأن أثر الخيال الإنساني يظل أقوى من أثر الصورة الافتراضية البحتة. كما أن سكوت لم يكن يسعى لقراءة جديدة لقصة موسى، بل لإحياء الفيلم القديم بلغة سينمائية جديدة، قوامها هيمنة الصورة والمونطاج. لا ينبغي فهم ما سبق على أنه نفي لمشروعية التخييل التاريخي في السينما، بل هو تأمل في علاقة التجاذب بين السينما والتاريخ، بما يسمح بإمكانية توظيف السينما في البحث التاريخي، خصوصًا في دراسة «تاريخ العقليات» التي صنعت هذه الأفلام. وهو ما يكفي، كما يرى البعض، لإغناء السينما والتاريخ معًا، ما دامت السينما «الأكثر اجتماعية في التاريخ» كما قال الناقد إبراهيم العريس. وهنا أستعيد السؤال الذي طرحه الراحل نور الدين الصايل، وما زالت راهنيته قائمة: هل يمكن أن نصل إلى مستوى يجعل من التاريخ فنًا معطاءً للسينما، ومن السينما فنًا مؤرخًا للتاريخ؟