كان ولا يزال تقيّا ورِعاً؛ وكل مظاهر هندامه وسلوكه تترجم ذلك. وبقدر ما كان ذلك يولد لديه اعتزازا شخصيا واطمئنانا ضميريا، كان يولّد لديه كذلك قلقا دائما: إنه الخوف من غواية الشيطان الذي أقسم قائلا “بعزتك لأغوينَّهمُ أجمعين إلا عبادَك المخلصين” أمام الخالق الذي يقول “واللهُ خلقكم وما تفعلون”. ولذلك فإن لعنَ الشيطان الرجيم، والتعوذَ بالله منه، لا تفارق شفتيه سرا أو جهرا، حتى إن بعض من يؤمّهم يعزون ذلك منه إلى الوسواس، ويتندرون من كثرة تكراره لآية “خُلق الإنسان ضعيفا” بمناسبة وبغير مناسبة. تأكد الآن من صواب هوَسِ توجّساته بعد أن أقفل عليه حارسُ السجن بابَ الزنزانة الحديدي قائلا في سخرية: “تفْضّْلْ ا-لفْقيه!”، وذلك على إثر محاكمة في قضية تلبّسٍ أخلاقية. ليس وحيدا في حالته؛ فالصحف تورد عشراتِ النوادر المماثلة مما تسرّب إلى حيّز العلن؛ الجامع بينها هو تورطُ فئة ممن يتقلدون وظيفة تقويم الأخلاق في فضائح أخلاقية. هؤلاء ليسوا جميعا بالضرورة دجالين. إلا أن الجامع بين غير الدجالين منهم هو ثقافة تصورهم للمسؤولية. إنها ثقافة تستمد جذورها من أعماق فكر الوثنية والشرك رغمَ كل مظاهر ولفظيات المرجعيات المردَّدة. ثقافةٌ تُجرّد من قُوى المُركّبِ النفسي للإنسان قوةً واحدة، هي “النفس الأمارة بالسوء” حسب تعبير ابن باجة، أو “الهو” (الليبيدو والنرجسية) حسب تصور فرويد، فتؤلّهُها خارج الذات في الغيب بإعطائها القدرةَ المطلقةَ في احتواء الزمان والمكان والنفوس، وفي احتكار إخراج الشر من سلبية العدم إلى الوجود عن طريق تسخيرها للفرد البشري، الذي يصبح بذلك التصور مجرد أداة جريمة. هذه القوة المؤلَّهة هي “الشيطانُ” بمفهومه العامّي، صنيعُ المانوية االهند-إيرانية القديمة، حيث يقوم إلاهَا الشرِ والخير نِدّين. أما ذوو الألباب، ومنهم “الإمام المخفي”، صاحب “الرسالة الجامعة”، فيردون تلك القوة إلى مقرها، أي إلى قرارة شخصية الفرد، الذي يشتمل مُركّبُه النفسي كذلك على قوى أخرى، ومنها قوة “النفس الزكية”، أو “الأنا الأعلى” مستبطِن المعايير حسب تصور فرويد، والذي تتمثل إرادته المؤسِّسة لحريته ومسؤوليته (“الأنا”) في التوفيق بين قواه النفسية الداخلية والقوى الأخلاقية الخارجية،. هذا التوفيق الإرادي عبْرَ تحالفِ العقل الموضوعي والنفس الزكية هو الذي يؤسس أخلاقا داخلية حرة ومسؤولة، يختار الفاعلُ بمقتضاها الفعلَ الممكن وهو متحمل تبعاتِه عن وعي مسبق كما فعلتْ شخصية “فاوست” في مسرحية “جوته”. أما الأخلاق الخارجية فهي أخلاق العبد الآبِق؛ إنها مؤسسة على مجرد خوف وطمع إزاء المجتمع القائم في الحضور، أو إزاء جزائية غيبية كيفما كان تصورها. والخوف والطمع العاجلان إزاء الهيئة الأولى مقدَّمان في الممارسة على نظيريهما إزاء الثانية. فالأولى لا تقبل إلقاء المسؤولية على مشجب الشيطان مهما كان حضورُه في ثقافتها الجمعية، ولا تقبل عبارات التعوّذ والاستغفار كتكفير عن الخطايا، لأنها هيئةٌ تدبّر فِعليات عالَم قائمٍ في الحضور. فالفقيه محمد بن علي الهوزالي، الذي كان قد فر منفيا من مسقط رأسه بإنداوزال، فاحتمى بالزاوية الناصرية على إثر اقترافه جريمة قتل، عاد إلى أهله بعد سنوات متصوفا بعد أن جاهد لسنين في نفسه الأمارة بالسوء إلى أن أحرز النصر عليها وليس على قوة خارجية، فألف كتابه “بحر الدموع” بالأمازيغية لينقل إلى المؤهلين من بني لسانه تجربته التي خبر فيها قوى النفس الشهوانية والأمارة بالسوء، يقول مثلا بالأمازيغية ما معناه: “إن عدوّك الداخلي يا ابن آدم هو نفسك التي بين جنبيك”.