كرست الدورة السابعة عشرة لمنتدى "ميدايز" مدينة طنجة كقطب جيوسياسي بديل لصناعة القرار العالمي، متجاوزة دورها التقليدي كبوابة للعبور لتفرض نفسها هذا الأسبوع كعاصمة فعلية ل"الجنوب العالمي". وبحضور أكثر من 200 شخصية دولية صانعة للقرار، لم يعد وصف المدينة ب"دافوس الجنوب" مجرد شعار تسويقي، بل واقع يترجم تحول في موازين القوى الدبلوماسية، حيث تُصاغ هنا رؤى استراتيجية جديدة تتحدى الهيمنة الأحادية وتؤسس لنظام عالمي متعدد الأقطاب. ولم يعد الحدث الذي ينظمه معهد "أماديوس" موعد سنوي روتيني، بل تحول في نسخته لعام 2025 إلى مرآة تعكس التحولات العميقة في النظام الدولي. فوسط حضور رؤساء حكومات ووزراء وخبراء استراتيجيين من القارات الخمس لمناقشة قضايا "السيادة والأزمات"، تقدم طنجة -التي تحتضن أكبر مجمع مينائي في أفريقيا والمتوسط- نموذج حي للقدرة على التنمية المستقلة والاندماج في الاقتصاد المعولم من موقع القوة والشراكة، لا من موقع التبعية.
صوت موحد في مواجهة "نظام عالمي مأزوم" ويشكل المنتدى في عمقه محاولة جادة لبلورة "سردية جديدة" ودقيقة خاصة بدول الجنوب. حيث يرى مراقبون أن "ميدايز" نجح حيث تعثرت تكتلات أخرى، وذلك عبر توفير فضاء حر للنقاش بعيد عن "الوصفات الجاهزة" والمشروطة التي تقدمها المؤسسات المالية الغربية عادة. النقاشات في أروقة المنتدى هذا العام تجاوزت التشخيص البكائي لمشاكل القارة السمراء، لتنتقل ببراغماتية إلى طرح بدائل عملية تتعلق بالسيادة الغذائية، والأمن الطاقي، والاستقلال المالي. وفي القاعات المكتظة، تبرز نبرة دبلوماسية جديدة أكثر ثقة وجرأة من ممثلي الدول الأفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية. ففي ظل تراجع نفوذ القوى التقليدية وانشغال الغرب بأزماته الداخلية وحروبه، يرى المشاركون في طنجة فرصة تاريخية لملء الفراغ وإعادة هندسة العلاقات الدولية على أسس أكثر توازن. ويشير محللون يشاركون في الحدث إلى أن "روح طنجة" تتمثل في رفض لعب دور "المتفرج" في مسرح الأحداث الدولية، والدفع نحو تكتل "جنوب-جنوب" قادر على التفاوض ككتلة اقتصادية وسياسية وازنة أمام الشمال. ويبرز هذا التوجه بوضوح في الجلسات المغلقة واللقاءات الثنائية التي تجري على هامش المنتدى، حيث يتم التركيز على الشراكات الاقتصادية البينية. فالرسالة التي يبعثها المنتدى هي أن الحلول لمشاكل الجنوب لن تأتي من واشنطن أو بروكسل، بل يجب ابتكارها محلي عبر تكامل الموارد الأفريقية والخبرات الآسيوية والتمويلات العربية، وهو ما يجعل من "ميدايز" مختبر حقيقي لسياسات المستقبل. الدبلوماسية المغربية.. توظيف القوة الناعمة وعلى مستوى آخر، يمثل نجاح منتدى "ميدايز" انتصار للدبلوماسية المغربية التي تراهن على "القوة الناعمة" لتعزيز نفوذها القاري والدولي. فالمغرب لا يستضيف الحدث كمنظم لوجستي فحسب، بل يوظفه كأداة استراتيجية لتسويق رؤيته للعلاقات الدولية القائمة على "التنويع والشراكة الرابحة". فطنجة، بتحولاتها العمرانية والاقتصادية الهائلة، تقدم للوفود المشاركة "دليل ملموس" على نجاعة النموذج التنموي المغربي وقابلية استنساخه. ويرى خبراء العلاقات الدولية أن الرباط نجحت في تحويل هذا الموعد السنوي إلى أداة نفوذ دبلوماسي فعالة. فمن خلال جمع الفرقاء السياسيين وممثلي الدول التي قد لا تلتقي في محافل أخرى، يؤكد المغرب دوره ك"وسيط موثوق" وكجسر رابط ليس فقط بين أوروبا وأفريقيا، بل بين مختلف مكونات الجنوب العالمي. كما أن التركيز على الواجهة الأطلسية في نقاشات المنتدى يخدم بشكل مباشر المبادرة الملكية الأطلسية، التي تهدف لفك العزلة عن دول الساحل وربطها بالتجارة العالمية عبر الموانئ المغربية. إن تحول طنجة إلى "دافوس الجنوب" ليس مجرد توصيف إعلامي، بل هو انعكاس لواقع جيوسياسي جديد يتبلور، حيث تنتقل مراكز الثقل تدريجي. ومع اختتام كل دورة، وإصدار "إعلان طنجة"، يترسخ الاقتناع بأن القرارات التي تهم مستقبل شعوب الجنوب باتت تناقش وتطبخ في مدن الجنوب نفسها، وطنجة تقف اليوم في طليعة هذه المدن، مقدمة للعالم وجه جديد لأفريقيا: قارة لا تستجدي المساعدات، بل تصنع الشراكات وتشارك في صياغة القرار الدولي.