رصاص الأمن يوقف مروج مخدرات هاجم شرطيًا بسلاح أبيض    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    وزير الداخلية يبدأ مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة؟    القرار ‬2797 ‬لمجلس ‬الأمن ‬الدولي ‬يعلو ‬فوق ‬كل ‬تفسير ‬ولا ‬يعلى ‬عليه    الخطوط الملكية المغربية تطلق أول خط جوي يربط بين الدار البيضاء والسمارة    احجيرة: نتائج برنامج التجارة الخارجية لا تُعجب.. 40% من طلبات الدعم من الدار البيضاء.. أين المجتهدون؟    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    المنتخب المغربي يخوض أول حصة تدريبية بالمعمورة تأهبا لمواجهتي الموزمبيق وأوغندا    350 يورو مقابل التقاط صورة ومقعد على مائدة والدة النجم يامال    تحيين الحكم الذاتي إنتقال من التفاوض إلى مشروع سيادي مغربي نمودجي مكتمل الأركان    تارودانت.. إصابة 17 عاملاً زراعياً في انقلاب سيارة "بيكوب" بأولوز    الحسيمة: مرضى مستشفى أجدير ينتظرون منذ أيام تقارير السكانير... والجهات المسؤولة في صمت!    حموشي يتباحث مع سفيرة الصين بالمغرب سبل تعزيز التعاون الأمني بين البلدين    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    أتالانتا الإيطالي ينفصل عن مدربه يوريتش بعد سلسلة النتائج السلبية    كيوسك الثلاثاء | المغرب يعزز سيادته المائية بإطلاق صناعة وطنية لتحلية المياه    مع تعثّر انتقال خطة ترامب للمرحلة التالية.. تقسيم قطاع غزة بات مرجحاً بحكم الأمر الواقع    أجواء غائمة مع ارتفاع طفيف لدرجات الحرارة في توقعات طقس الثلاثاء    الدبلوماسي الأمريكي السابق كريستوفر روس: قرار مجلس الأمن بشأن الصحراء "تراجع إلى الوراء"    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    الفاعل المدني خالد مصلوحي ينال شهادة الدكتوراه في موضوع "السلطة التنظيمية لرئيس الحكومة في ضوء دستور 2011"    فضيحة في وزارة الصحة: تراخيص لمراكز الأشعة تُمنح في ظل شكاوى نصب واحتيال    تغير المناخ أدى لنزوح ملايين الأشخاص حول العالم وفقا لتقرير أممي    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    "أسود الأطلس" يتمرنون في المعمورة    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    "الكاف" يكشف عن الكرة الرسمية لبطولة كأس أمم إفريقيا بالمغرب    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة و الشعر
قراءة في ديوان " إنجيل الثورة وقرآنها" لشاعر الثورة المصرية حسن طِلِب
نشر في العلم يوم 25 - 07 - 2012


الثورة والثورة المضادة
في الأصل اللغوي، تدل " الثورة" على الغضب والهيجان. ففي معجم " لسان العرب " : ثار الشيءُ ثوراً وثوراناً: هاج؛ والثائر: الغضبان؛ وثار ثائره وفار فائره: إذا غضب وهاج غضبه. ولكن " الثورة" في المصطلح السياسي الحديث، كما تعرّفها كتب الفلسفة وعلم الاجتماع، تدلُّ على غضب وهيجان وأعمال عنف يقوم بها شعب من الشعوب وتؤدّي إلى إسقاط السلطة السياسية القائمة، أو طرد المستعمِر من البلاد. ويدلُّنا التاريخ على أن الشعوب غالبا ما تثور من أجل حريتها المهضومة، فتستعيدها بالقوة من الطاغية الذي صادرها أو من المستعمِر الذي ألغاها. فالحرية هي منطلق الثورات وهدفها الأسمى، لأن إنسانية الإنسان تكمن في حريته.
وحينما تنتصر الثورة، يعدُّ قادتُها أنفسَهم ممثلي الشعب، ويتّخذون إجراءات عنيفة لتقويض أركان الحكم القائم، وتغيير الواقع البائس، وإلغاء القوانين المعمول بها، وإقصاء القادة والحكّام والقضاة الذين اصطفاهم النظام السابق. وتأتي الثورة بنظامٍ سياسي واجتماعي واقتصادي جديد قائمٍ على إيديولوجية جديدة، يدعمه الشعب ويصونه، لأنه هو المبرِّر الأسمى لقيام الثورة ووجودها، وبغيابه تفقد الثورة معناها، وتمسي ظاهرةً اجتماعيةً عنيفة مثلها مثل الإرهاب، أو العصيان، أو الحرب الأهلية.
وعندما تنجح ثورةٌ شعبية، فإن القوى المضادّة التي تضرَّرت مصالحها تعمل على محاربتها بشتى الوسائل لإسقاطها، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه.
أما إذا قامت أقليّة تمتلك قوةً ما بأعمال عنف تؤدي إلى هدم السلطة القائمة وتصفية رموزها، واحتلال مراكزهم السلطوية من غير مشاركة الشعب، فهذه العملية تُسمى بالانقلاب، وليس بالثورة. بيدَ أن جميع الانقلابات العسكرية التي وقعت في البلدان العربية، نتيجة تنافس الدول الكبرى على ثرواتها، زعم قادتها أنها ثورات شعبية، وهي ليست منها(1).
هل الثورة المصرية ثورة؟
اندلعت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011 بُعيد نجاح الثورة التونسية وفرار الطاغية الرئيس بن علي. اندلعت الثورة المصرية نتيجةً لاستئثار الطغمة العسكرية بالحكم في مصر طوال عشرات السنين، وفرضها على الشعب أحكام الطوارئ العسكرية الخانقة، ومصادرة حرياته، وزجّ أحراره ومفكريه في السجون والمعتقلات وسراديب التعذيب، وإذلال مصر الشامخة وجعلها ذيلاً للسياسة الأمريكية والإسرائيلية في العالم العربي، لقاء حفنة من الدولارات ينفق معظمها على مئاتٍ من "خبراء المعونة الأمريكية" الذين يهيمنون على رسم سياسة مرافق الدولة، بما فيها الإشراف على وضع المناهج المدرسية لأبناء مصر. واستمرَّ آخر رئيس عسكري، حسني مبارك، اثنين وثلاثين عاماً في سدَّة الحكم، وازداد فساد الإدارة بالرشوة والاختلاسات، وتكرر تزوير الانتخابات، بحيث إن مجلس الشعب الأخير يخلو من أي معارض، تمهيداً لتوريث الحكم، وأُلهي الشعب بخلافات وهمية مصطنعة بين المسلمين والأقباط طبقا لسياسة " فرّق تسُد"، وبناء الجدران الفولاذية تحت الأرض إمعاناً في حصار الشعب الفلسطيني في غزة وتجويعه، واستأثرت نخبة صغيرة من الأقارب والأصدقاء والأعوان وزعماء الحزب الحاكم وقادة العسكر بأموال الشعب المصري وخيراته، فأدقعت الجماهير العريضة وأملقت، وتفاقمت الفروق الطبقية الاجتماعية.
إذن، لكل هذه الأسباب تصاعد الشعور بالغضب والإحباط واندلعت هذه الثورة التي كان شبابها يصرخ في ميدان التحرير، من أجل: " العيش (أي الخبز)، والحرية، والعدالة الاجتماعية".
بيدَ أن هذه الثورة لم تتوافر لها مقوّمات الثورة التي عرّفها الفلاسفة وعلماء الاجتماع، لأنها، أولاً، كانت ثورة سلمية، فقد كان الشباب يصرخون " سلمية سلمية" وهم يتساقطون صرعى بالعشرات حتى فاق عددهم الألف، ويتولّى الآخرون كنس الميدان وتنظيفه في المساء؛ ولأنها، ثانياً بدون قيادة معروفة. فالشباب الذين أداروا عملية التجمع والتظاهر باستخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة غير معروفين للجماهير الغاضبة التي استجابت لهم رغبة في التغيير، وقيادات الأحزاب التي التحقت بالثورة متأخرة كان همها الأساس الوصول إلى الحكم؛ ولأنها، ثالثا، لم تستند إلى إيدولوجية معينة ذات أهداف محددة، ولم تنتج عنها سلطة جديدة، ولا قوانين جديدة، ولا مفاهيم جديدة، ولا قيم جديدة؛ وبعبارة وجيزة لم تغيّر النظام الحاكم. كلُّ ما حقَّقته هو " تنحّي الرئيس، والله الموفَّق" على حد الإعلان الذي قرأه نائب الرئيس وزير الاستخبارات.
وإذا كان نائب الرئيس قد أخطأ في وضع الفتحة على الفاء في كلمة " الله الموفَّق"، فإنه أصاب عين الصواب في كلمة " تنحّي"، لأن الرئيس سلّم السلطة إلى المجلس العسكري، وليس إلى الثوار أو حكومة مدنية تمثّلهم. وبقي جميع محافظي المحافظات من العسكر، وظلَّ كبار المسؤولين في السلطات الإدارية والقضائية هم أنفسهم. أما إغلاق مجلس الشعب السابق من قِبَل الثوار فليس بذي أهمية، لأن دوره الأساس كان في تدبيج القوانين والمشاريع التي تخدم الرئيس والنظام، وسرعان ما استعاض عنه المجلس العسكري الذي يمسك بالسلطات التشريعية والتنفيذية ويقود ثورة مضادة ناعمة، بمجلسٍ استشاري من المدنيين.
وإذا كانت كل ثورة تواجه قوى ثورة مضادة، فإن قوى الثورة المضادة في الحالة المصرية هي النظام الحاكم نفسه الذي استمر في الحكم بسلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية بعد الثورة. فالقضاة الذي حكموا ببراءة جميع قادة الشرطة المسؤولين عن قتل الثوار، والذين حكموا ببراءة ابني مبارك، والذين حكموا ببطلان انتخابات مجلس الشعب الجديد بعد أن أُنفق عليها قرابة ملياري جنيه من أموال الشعب المصري، هؤلاء القضاة جميعاً هم من أعوان النظام السابق الذين اصطفاهم لهذه المناصب، واستمروا في الحكم أداة بيد المجلس العسكري.
لكل هذه الأسباب، قد يتساءل المرء ما إذا كانت الثورة المصرية ثورة كالتي عرّفها الفلاسفة وعلماء الاجتماع، أم أنها نوع من الثورة لم يعرفها التاريخ من قبل وستحقق أهدافها بالنقاط لا بالضربة القاضية، إذا كان لنا أن نستعير مصطلحات الملاكمة؟
في ضوء هذه المقدمة المبتسرة سنحاول قراءة ديوان " إنجيل الثورة وقرآنها".
الثورة والشعر
الفنُّ شبيه بالثورة إن لم يكن صنوها وتوأمها. فالفنُّ، بطبيعته، يرفض الواقع ويتغيّا إعادة صياغته برموز وعلامات جديدة، وبمعان جديدة، وبقيم جديدة، تماماً كالثورة. فالأدب والشعر لن يكونا فناً أصيلاً ما لا يتركا الواقع ويحلّقا في أجواء الخيال، لخلق عالم مختلف عن العالم الراهن. إنّ الفن يرمي إلى تغيير الواقع، وبناء عالم جديد وفق نظرة الفنان وإيديولوجيته ورسالته. ولا يتدفق إلهام الفنان فعلاً فنياً إلا عندما يبلغ الفنان - أديباً أو شاعراً أو رساماً - درجة عالية من القلق والتوتُّر، إن لم نقل الهيجان النفسي والجنون. وينبئُنا التاريخ أن الأدب عموماً - والشعر خصوصاً - كان دوماً محرّضاً على الثورات، وممهِّداً ومؤجِّجاً لها، ومتغنياً بها، وممجِّداً لفكرها وشهدائها(2).
ولهذا فإن جميع شعراء مصر المخلصين كتبوا للثورة ومجّدوا شهداءها، وتغنوا بأهدافها: أحمد عبد المعطي حجازي، أحمد درويش، حسن طلب، شعبان يوسف، فاروق شوشة، فؤاد طمان، محمد إبراهيم أبو سنة، محمود نسيم، هشام الجخ، وغيرهم كثير.
الشاعر حسن طِلِب
ولد حسن طلب في أسرةٍ دينية في محافظة سوهاج وهي من محافظات الصعيد جنوبي القاهرة. فكان لتربيته الدينية أثر واضح في شعره، إذ نلمس فيه بعض ألفاظ القرآن وتعبيراته وأوزانه. وقد عرف أهالي هذه المحافظة بوطنيتهم المصرية العريقة. فقد تصدى أهلها، في مدينة جهينة، للحملة الفرنسية، كما أيدوا أحمد عرابي في ثورته ومقاومته للمستعمِرين الإنجليز. وأنجبت هذه المحافظة عدداً من الشعراء البارزين مثل سماح عبد الله، وعصمت رضوان. وينتسب إلى مدينة طهطا في هذه المحافظة رائد التعليم الحديث رفاعة الطهطاوي.
التحق حسن طلب بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة، وحصل على الليسانس (1968)، والماجستير(1984)، والدكتوراه (1992)، وأصبح عضواً في هيئة التدريس في جامعة حلوان، إحدى ضواحي القاهرة. ونشر أكثر من أثني عشر ديواناً ومجموعة شعرية، هي: وشمٌ على نهدي فتاة (1972)، سيرة البنفسج (1986)، أزل النار في أبد النور (1988)، زمان الزبرجد (1989)، آية جيم (1992)، لا نيل إلا النيل (1993)، مواقف أبي علي وديوان رسائله وبعض أغانيه (2002)، هذه كربلاء وأنا لستُ الحسين (2005) - بعد احتلال الأمريكان للعراق - ، حجر الفلاسفة (2006)، عاش النشيد (2006)، متتالية مصرية (2007)، يكتب الباء يقرأ الجسد (2009). وله دراسات فلسفية مثل : المقدس والجميل (2001)، أصل الفلسفة (2003). ويعمل حالياً نائب رئيس تحرير مجلة " إبداع " الفصلية التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب.
عُرِف عن الشاعر حسن طلب الوطنية والإخلاص والنبل، وتتجلّى فيه طيبة أهل الصعيد وصفاء سريرتهم. لم يمالئ أحداً، ولم يتزلّف السلطة، ولم يتكسّب بشعره؛ بل على العكس كان من القلائل الذين هاجموا الحكم الديكتاتوري. ولم يجرؤ أحدٌ على البوح بفساد ذمة حسني مبارك مباشرة باسمه الصريح إلا الروائي المصري علاء الأسواني في روايته " عمارة يعقوبيان" (2002) والشاعر حسن طلب، وعدد قليل من الأدباء الأحرار. فعندما ترشّح حسني مبارك مرة أخرى للانتخابات الرئاسية سنة 2005، كتب حسن طلب قصيدته الساخرة الشهيرة " مبروك مبارك" التي نشرها في ديوانه " عاش النشيد " (القاهرة 2006)، والتي يقول فيها:
" مبروك مباركْ/ أنتَ ستنجح لا شكْ/ ستبقى لسنواتٍ ستٍّ قادمةٍ/ إن شاء اللهُ تباركْ...
لا رَيبَ ستنجحُ/ فليفرحْ نجلاكَ وسيّدةُ القصرِ/ وليسَ يهمُّ إذا حزِنتْ مصرُ/ فمبروك مباركْ...
هنيئاً لك، للغلمان وللصبيانِ/ هنيئاً للشيخِ وللمطرانِ/هنيئاً للأمريكانِ/ فسوفَ تظلُّ كما كنتَ لهم:/تصدع إن أمروكْ/ وتزدَجرُ إذا زجروكْ/ مبروك، مبارك، مبروكْ...
أنتَ ومن حولك.../ يعيثون فساداً في البلدِ/ فكم نهبوا منه وكم سلبوا/ (أنا لا أذكر ملياراتِ ذويكَ وقنطاركْ)".
وبعد أربعة أشهر فقط، نشر قصيدته الشهيرة " نشيد الحريّة" وفيها دعوة صارخة للثورة وتحريض عليها:
" لا مبروكٌ بعدَ اليومِ، وليسَ مباركْ...
فتشجّعْ ، واستجمعْ جأشكَ/ وأقِمْ - أنتَ بنفسكَ -/ في وجه الفئة الفاسدةِ المفسدةِ/ جداركْ/ لا تتركْ منهم فسلاً يتسلَّقُ أسواركْ/ وستُصبحُ ما أفرطتَ ولا فرَّطتَ/ إذا سلَّطتَ عليهم إعصاركْ..."
وحتى إذا افترضنا أنَّ السلطة الحاكمة آنذاك أخذت تتبع مبدأ " خليهم يقولوا اللي عاوزين، واحنا نعمل اللي عاوزين"، فإن كتابة مثل هذه القصائد الملتهبة تحتاج إلى جرأة نادرة وشجاعة خارقة مثل جرأة وشجاعة هذا الصعيدي الأسمر الطويل الضامر الجسم مثل أسد هصور.
ديوان " إنجيل الثورة وقرآنها"
هذا الديوان ثلاثية شعرية يتألَّف من ثلاث مجموعات شعرية هي: 1- آية الميدان، التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2011، 2- إصحاح الثورة 3-سورة الشهداء. والمجموعتان الأخيرتان تحت الطبع.
تقع مجموعة آية الميدان في 168 صفحة من الحجم المتوسط، وتتألَّف من ثلاث وثلاثين قصيدة كُتبت في المدَّة ما بين شهر يناير ومايو 2011. ولا نشكُّ في أن معظم القصائد قد كُتِبت في ميدان التحرير نفسه، وأن بعضها أُلقيَ على الثوار.
وكما هو متوقع، جاء إهداء هذا الديوان " إلى أرواح الشهداء، أبطال ثورة الخامس والعشرين من يناير الذين قدموا انتماءهم إلى وطنهم مصر على أي انتماء ديني أو طائفي ففاضت أرواحهم وهم يهتفون باسم مصر، قبل كل ملة أو نحلة، ح. ط."
ويظهر من عنوان الديوان وإهدائه، حرص الشاعر على التآخي بين المسلمين والأقباط في مصر. وهذا يحتاج إلى بيان وجيز. فعندما أظهرت الدول العربية نوعاً من التضامن في حرب رمضان 1973 من أجل استعادة الأراضي المحتلة من إسرائيل، وقامت بإيقاف تصدير البترول إلى الغرب، وضعت الولايات المتحدة آنذاك خطة لاحتلال منابع البترول، ويتطلب تنفيذ تلك الخطة ضرب التضامن العربي، وإثارة الحروب الأهلية في كل دولة، ثم تقسيمها بعد ذلك. وهكذا اشتعلت في السبعينيات حروب أهلية بين المسلمين والمسيحين في لبنان، وبين الأكراد والعرب في العراق، وبين الشماليِّين والجنوبيِّين في السودان؛ كما افتُعِلت خلافات بين الأقباط والمسلمين في مصر، وبين الأمازيغ والعرب في بلدان المغرب العربي(مع ضرورة التنبيه إلى مسؤولية الأنظمة العربية غير الديمقراطية في ذلك). وقد تفاقمت الخلافات المفتعلة بين الأقباط والمسلمين في مصر التي كان يستغلها النظام المصري الحاكم، فحُرقت كنائس قبطية واختطف بعض الأفراد لانتمائهم الديني. ولهذا فإن الشاعر حرص كلَّ الحرص، في ديوانه، على التأكيد على وحدة المصريين على اختلاف طوائفهم الدينية. فالعنوان، " إنجيل الثورة وقرآنها"، لا يعني فقط أن هذا الديوان هو أهم عمل شعري عن الثورة المصرية، (كما نقول مثلاً أن كتاب "أصل الأنواع" هو إنجيل أصحاب نظرية التطوّر)، بل يلمّح كذلك إلى التآخي بين الدينين المسيحي والإسلامي في مصر وثورتها.
بيد أن هذا لا يعني أن الشاعر يزكّي رجال الدين الذين استخدم النظام السابق بعضهم في خدمة أغراضه وعملوا على خنق حرية التعبير باسم الدين، فالشاعر يعلن في قصيدة " الشيخ والمطران":
" الدين للديّان/ والميدان كلّه لنا/ لا الشيخ قد شاركنا فيه/ ولا المطرانْ!
كلا/ فنحن ما رأينا من كليهما/ سوى الجحودِ والنكرانْ!
الفضلُ للسلطانِ/ في الذي أفادا منه/ أو حازا/ فلا غروَ إذا انحازا إلى السلطانْ!"
يصف الشاعر هجوم قوات الأمن على شباب ميدان التحرير بدقّة كما لو كان يرسم لوحة بالكلمات أو يصوّر شريطاً سينمائياً بالألوان:
"سقطَ الشهداءُ/ على أرصفةِ الميدانِ/ فلم يطرِف للطاغيةٍ الفاسدِ رمشْ!/
ظلَّتْ قواتُ الأمنِ تطاردنا/ ساعاتٍ/ بخراطيم مياهٍ وهراوى/ وقنابلَ غازاتٍ/قلنا سنواجهُ هذا الوحش.
لكنّا فوجئنا برصاصٍ حيٍّ/ وبنادق رش/
فحملنا الشهداء/ وأسعفنا الجرحى..."
ويتواصل هذا الرسم بالكلمات في قصائد عديدة :
" ... عندما تساقط الشهيدُ/ من بعدِ الشهيدِ/ فوق أرضِ الساحةِ المضطربهْ/
إصابةٌ في القلبِ هذهِ/ وتلكَ طلقةٌ في الرأسِ/ أو في الرقَبهْ/
وتلك أشلاءُ شهيدٍ/ دهستهُ العربهُ/
وروحهُ ترفرف الآنَ علينا/ من علٍ/ سافرةً محتَجِبهْ/"
ويلاحظُ في عدد من القصائد أن الشاعر يتحدَّث بضمير المتكلِّم الجمع، دلالةً على مشاركته الفعلية في الثورة. كما يلاحظ استخدام الشاعر القوافي النادرة الاستعمال، كالشين، والضاد، والحاء، والهاء؛ فالثورة، هي الأخرى، نادرة الوقوع.
وعندما يتبين للشاعر والثوار أن المجلس العسكري يتلكأ في تلبية مطالب الجماهير في محاسبة أقطاب النظام، وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، يعود إلى التحريض لتستمرَّ الثورة:
" لا تصبروا يوماً على طغاتكم/ لا تصمتوا من أدبٍ/ فالصمتُ ما كان/ - كما قيل لكم -/
من ذهَبٍ/ كلا/ وليسَ الصبرُ/ مفتاحَ الفرَجْ." (3)
وإذا كان الشاعر يوصي الشباب بعدم الصبر، فإنه يتعامل مع اللغة بصبرٍ كبير، من أجل تطويع قوالبها، وترويض عباراتها، وانتقاء ألفاظها. ففي بيتيْن وجيزيْن، استطاع بكل براعة أن ينسف مقولتيْن ثابتتيْن صامدتيْن منذ عشرات القرون، ويهدم قيمتيْن شاهقتيْن في صرح ثقافتنا: أعني " الصبر" و " السكوت". ألم نقْل إن الشعر كالثورة يروم هدم الواقع القديم وتأسيس عالم جديد بمفاهيمَ جديدة وقيمٍ جديدة؟
الهوامش:
* كاتب عراقي مقيم في المغرب.
(1) أدونيس العكرة، " الثورة" في: الموسوعة الفلسفية العربية (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986) ص 313 316، وكذلك : مجلة الحياة التونسية، العدد 220 (2011) عدد خاص بالثورة التونسية.
(2) سعيد توفيق، "ثورية الشعر وشعر الثورة" في: كتاب الثورة، مجلة " إبداع" المصرية، العدد 17 (2011)، وكذلك: علي القاسمي، الحب والإبداع والجنون ( الدار البيضاء: دار الثقافة، 2006) ص 96- 116.
(3) حسن طلب، إنجيل الثورة وقرآنها ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.