يَحقُّ لحَمَلة القلم بالمغرب، الذين يهرقون مدرارا من عرق الحبر في التفكير والإبداع، أن يشاطروا كل عمال العالم، قيامة فاتح ماي؛ أليس يعتبر الاشتغال في الثقافة، صنفاً من الكدح اليومي، في غياب كل الحقوق الإعتبارية للمبدعين؛ مادياً ورمزياً؟؛ كان الأجدر بأضرحة المؤسسات الثقافية التي تغط في رخام النسيان البارد، أن لا تُفوِّت تسجيل حضور قوي بكل نخبها الفكرية في شارع فاتح ماي، للمناداة ولو على مسامع الريح، بتحقيق كل المطالب الإنسانية للمثقف المغربي الذي هُضمت حقوقه حتى غدت إسهالا لا تحتويه أوسع المجاري! لن أستعرض كل الحاجات الأقرب في حيويتها من الهواء، التي تُعوز المثقف المغربي ليكون معْتَبَراً في المجتمع، لأني أخجل من عضلاتها الضامرة التي حولت هذا الإنسان الذي يعيش أو يموت بمنتوجه الفكري، جلداً على عظم، في الوقت الذي يسمن آخرون بهذا المنتوج المعصور من دماغ؛ فلا هو يستخلص من الناشرين أتعابه المادية نظير ما يُسوِّده في كتب تتحول مع الأيام إلى محرقة كبرى للأعصاب؛ ولا هو يحظى بجائزة تقديرية رفيعة وفاخرة تكرم فيه التجربة في أرذل العمر؛ ولا هو يحمل بطاقة اعتراف بمهنة الكاتب تقيه صروف الدهر من عوز ومرض؛ فكيف لهذا الضمير الحيوي الذي توليه المجتمعات المتقدمة مراتب النبوة، أن يُعبِّر عن الأمة وذاكرتها، بحرية وقوة وتنقشع من رأسه الأنوار، إذا لم يكن مرتاحاً غير مقموع، محفوفاً بكرامة العيش، وليس بالكدح الثقافي الذي لا ينتج خبزاً فبالأحرى أن يبدع فكرا أو شعراً! ولا أعجب إلا للانقلاب الذي شهدته الكثير من القيم الإنسانية في الإتجاه المطأطئ للرؤوس، ليصبح المثقف أحوج لمن ينادي بحقوقه الفكرية المغموطة، بينما هو الذي كان يتبوأ الصفوف قُدماً، منادياً بتحويل عرق الناس الذي استبخسه الجشع الرأسمالي المتوحش، إلى ذهب في جيوب الفقراء؛ أليس هذا المثقف بدوره الطلائعي الذي يتجسد في الطالب والفيلسوف والكاتب واليساري وكل قوى التحرر الإنسانية في العالم، هو الذي جعل من ماي الشهير في عام 1968، مناسبة عالمية لترجمة كل الأفكار التنويرية بالصوت العالي، في شارع أحوج إلى من يرفع عنه الخرس والضيم والقهر والإستبداد الرأسمالي بقوة المعرفة؟؛ أيننا من مفكرين كبار أمثال؛ سارتر وميشيل فوكو وجيل دولوز، الذين جسدوا فصيحا بالنزول إلى الشارع، نموذج المثقف العضوي في حركة ماي 1968، ولم يتخذوا من جماجمهم أبراجا عاجية للتفرج من شقوقها على المِحَن اليومية للمجتمع المسحوق، بنظريات ستبقى نبوءاتها راكبة معرجا متعاليا، دون أن تعرف يوما موطئا على أرض الواقع، وكأن الممارسة لا تكون إلا في السرير!. أيها المثقف، لقد احتشدت الحنجرة بالصراخ، وما عاد في حيزها المخنوق، مُتَّسع لنَفَس أو غناء، وإذا أردت أن تقول شيئا، يكفيك تضميدا لجراح الكلمات في الأوراق؛ قل كل شيء فهذا فاتح ماي وليس عزفا على الناي..!