المغرب والصين: تعاون استراتيجي يثمر في التصنيع والطاقة الخضراء    واشنطن تشير إلى إحراز "تقدم جوهري" في المحادثات التجارية مع الصين    توقعات الأرصاد الجوية لطقس اليوم الإثنين    تشكيل "ليغ 1" المثالي يضم حكيمي    تعاون إسباني برتغالي يُحبط تهريب 3.7 طن من الحشيش انطلقت من شمال المغرب    ترامب يصف الحرب على غزة بالوحشية.. ويعتبر إطلاق سراح أسير أمريكي لدى "حماس" "بادرة حسن نية"    بهذا السيناريو ودعت المغرب التطواني البطولة الاحترافية بعد هزيمة قاسية أمام شباب السوالم … !    أميركا والصين تتوصلان لاتفاق بشأن النزاع حول الرسوم الجمركية    (ملخص).. برشلونة يقترب من لقب الدوري الإسباني بتغلبه على ريال مدريد في الكلاسيكو    الدعوة من العيون لتأسيس نهضة فكرية وتنموية في إفريقيا    لكوس القصر الكبير يتوج بلقب البطولة الوطنية لكرة القدم داخل القاعة    رسمياً.. المغرب التطواني إلى القسم الوطني الثاني    اختتام فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم بالحسيمة(فيديو)    لتخفيف الضغط.. برلماني يطالب ببناء مجمع سكني للعاملين بميناء طنجة المتوسط    موانئ المغرب تحظى بإشادة إسبانية    "منتخب U20" يجهز للقاء سيراليون    الدرك يُطيح بمروجَين للمخدرات الصلبة بضواحي العرائش    إيغامان يساهم في فوز عريض لرينجرز    بوصوف: رؤية الملك محمد السادس للسياسة الإفريقية تنشد التكامل والتنمية    عيدي يوثق الحضور المغربي بأمريكا    مجلس ‬المنافسة ‬يكشف ‬تلاعبا ‬في ‬أسعار ‬السردين ‬الصناعي ‬    الحكومة الفرنسية: العلاقات مع الجزائر "مجمدة تماما" وقد نجري عقوبات جديدة    تاراغونا- كتالونيا مهرجان المغرب جسر لتعزيز الروابط الثقافية بين المملكتين بحضور السفيرة السيدة كريمة بنيعيش    الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو في الأقاليم الجنوبية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الوساطة السعودية تنجح في وقف التصعيد الباكستاني الهندي    خطأ غامض يُفعّل زلاجات طائرة لارام.. وتكلفة إعادتها لوضعها الطبيعي قد تتجاوز 30 مليون سنتيم    جمعية الشعلة تنظم ورشات تفاعلية للاستعداد للامتحانات    البابا ليون الرابع عشر يحث على وقف الحرب في غزة ويدعو إلى "سلام عادل ودائم" بأوكرانيا    مراكش تحتضن أول مؤتمر وطني للحوامض بالمغرب من 13 إلى 15 ماي 2025    المحامي أشكور يعانق السياسة مجددا من بوابة حزب الاستقلال ويخلط الأوراق الانتخابية بمرتيل    نجم هوليوود غاري دوردان يقع في حب المغرب خلال تصوير فيلمه الجديد    مشروع النفق البحري بين المغرب وإسبانيا يعود إلى الواجهة بميزانية أقل    الحزب الشعبي في مليلية يهاجم مشروع محطة تحلية المياه في المغرب للتستر على فشله    سعر الدرهم يرتفع أمام الأورو والدولار.. واحتياطيات المغرب تقفز إلى أزيد من 400 مليار درهم    شراكات استراتيجية مغربية صينية لتعزيز التعاون الصناعي والمالي    انهيار "عمارة فاس".. مطالب برلمانية لوزير الداخلية بإحصائيات وإجراءات عاجلة بشأن المباني الآيلة للسقوط    إسرائيل تستعيد رفات جندي من سوريا    الصحراء المغربية تلهم مصممي "أسبوع القفطان 2025" في نسخته الفضية    "سكرات" تتوّج بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب    ميسي يتلقى أسوأ هزيمة له في مسيرته الأميركية    "الاتحاد" يتمسك بتلاوة ملتمس الرقابة لسحب الثقة من الحكومة    مزور: الكفاءات المغربية عماد السيادة الصناعية ومستقبل واعد للصناعة الوطنية    زيلينسكي: روسيا تدرس إنهاء الحرب    الصحراء المغربية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    سلا تحتضن الدورة الأولى من مهرجان فن الشارع " حيطان"    في بهاء الوطن… الأمن يزهر    موريتانيا ترغب في الاستفادة من تجربة المغرب في التكوين المهني (وزير)    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحلة إلى بلاد الله
نشر في العلم يوم 21 - 11 - 2013


حول العنوان(1)
يتأرجح العنوان بين ثنائيتين: التخصيص والتعميم. التخصيص يتجسد في كون (بلاد الله) ترادف الأرض الحرام بدون منازع. والتعميم يتمثل في أن الصياغة ذاتها( بلاد الله) تعادل أرض الله الواسعة، فكل البلاد هي بلاد الله. فأينما وليت وجهك ،فثمة وجه الله.وتعكس هذه الثنائية ? من ناحية أخرى- إشكالية التجنيس ذاته الذي حسمه الكاتب/الرحالة باختياره للقالب الرحلي، دون تنميط،مما يقتضي طرح التساؤلات التالية:
أ-هل تندرج الرحلة أعلاه-موضوعا وشكلا- في سياق الرحلة الحجية/ الحجازية من حيث كونها نمطا رحليا من بين الأنماط الرحلية المتداولة.
أ-هل تندرج الرحلة ، أعلاه، في باب الرحلة الدينية عامة بحكم أن طبيعة الإرتحال نحو(بلاد الله) قد ينسحب على المزار المقدس عامة(الرحلة الزيارية) من زوايا وتكايا وأضرحة وعتبات مقدسة.. ومن ثم يصبح المزار
المقدس منسحبا على فضاء الولاية والزهد والمشيخةوالزيارة.. وكل ما هو ( مقرون بالمقدس).ص.25.
ج- ألا يمكن اعتبار الرحلة إلى بلاد الله رحلة زيارية للبلد الحرام- والزيارة من مرادفات الطريق وأهلها يسيحون في أرض الله الواسعة- تقوم على الإستكشاف والجولان والمعرفة والتعرف والإهتداء بالشيخ..(قل سيروا في الأرض). فالرحلة في بلاد الله وسيلة للتعرف على صنعة الصانع، فضلا عن أغراض عديدة،من خلال التعاليم والوصايا وطرق الهدي المختلفة.
د- ولما كان خطاب الرحلة مبنيا على التصريح، دون التلميح، الذي يعلن صاحبه عن نية الحج(العنوان الفرعي:موسم حج سنة1430ه الموافق ل 2009م)، فإن ذلك يجعل من المتن رحلة حجية/ حجازية تترسم خطوات الأوائل، وتؤسس، في الوقت ذاته، خطابها المميز تبعا لتجربة المرتحل.
و لايقتصر الإشكال الأجناسي على الرحلة، بل يمتد ، أيضا، إلى الرحالة ، سواء قبل الحج،أو أثناءه،أو بعده. ولعل هذا ما يفسر علاقة الرحالة بالرحلة، فعلا ونصا وموقفا من الذات والآخر المشارك في فعل الإرتحال.والرحالة،بالإضافة إلى هذا وذاك، لعب دورا مركزيا في خلخلة البناء الرحلي، من خلال أسئلة الذات،من جهة، وأسئلة النص ، من جهة ثانية.
نحن الآن أمام رحالة، من نوع خاص، يتأهب لتأدية فريضةالحج بما له وبما عليه، وهو بذلك يختلف عن حاج الرحلة التقليدية الذي يسير على هدي من سبقوه،الحافر على الحافر، وهو يراكم النوافل، لايخرج عن فقه المناسك، مستسلما ،مسالما، قانعا،إلى حين الإنتهاء من الشعيرة.الحاج في هذه الرحلة نسيج محدد يرى في الحج تطهيرا للجسد والروح، ومحفزا على المكاشفة ? أمام الذات والآخر- والجهر بالحق ،والحفاظ على أطهر مكان من ممارسات لاتمت إلى الإسلام بصلة. ولما كان مكون الرحالة ثلاثي الأقانيم: أقنوم المؤلف(الرحالة)، أقنوم السارد،فأقنوم الشخصية المتوزعة بين الورق(سردا وفعلا حكائيا)، وبين اللحم والدم(شخص بالإسم والصفة والهوية)، أقول، لما كان الأمر كذلك ،فالرحلة تستمد الكثير ، أو القليل، من شخصية/ شخص الرحالة الذي (التي) يخلع على الرحالة خصائص نوعية- سيأتي الحديث عنها لاحقا- في الرؤية والتشكيل.
الحج، إذن، للحاج،بعث لكيان جديد(كمن ولدته أمه)، وهذا يقتضي سمو الحاج في ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، و،بذلك، يصبح ? في الرحلة-وسيلة للآتي:
أ-لممارسة نوع من النقد الذاتي عن طريق الإعتراف والبوح والمكاشفة والتصريح والتلميح. وفي الرحلة القليل ،أو الكثير منى ذلك، سواء قبل الحج،أو أثناءه، أو بعده. الأمثلة التالية توضح ذلك:
-( في حالتي ، وعلى معرفتي بنفسي، لم أكن لاشيخا وقورا ولامعصوما من الخطأ، ولاأعتبر شغفي بالدنيا انتهى)ص.15.
-(ولا وقت سمعت دعوة الإستضافة إلى الحج وجدت منتهى طموحي في هذه البغية.)ص،15.
-(.. فلا يجوز لك أن تتعامل مع ما يتصل بالديني، ما هو في حكم السماوي، تعاملك التعاقدي أو الإعتباطي مع الدنيوي ، شتان!9ص،20.
-( جعلت عملتي منذ وصلت، أن الأعمال بالنيات هي الكامنة في الصدور...لكن لامناص من أن تكون مخلصة).76/77
-(كان هناك فعلا قوم نشيطون في تخير الصحون....وهم في غاية البشر.لاأخفي تعجبي منهم، فهم بسرعة حققوا الهبوط من العلياء إلى البسيطة، وأغبطهم، ليتني منهم، ولن أكون من أحد.إلا ماجبلت عليه، وكل لما يسر له.)ص,92. وهناك أمثلة عديدة.
اختلاف الرحالة عن الكثير من المرافقين له ، في هذه الرحلة، كان وراء نص مختلف بدوره عن الرحلة الحجية/ الحجازية ، خاصة ، والدينية عامة. والعزف ظل مستمرا، طوال الرحلة، من قبل رحالة مختلف عن الآخرين ، أو أغلبهم على الأقل، في إيمانه العقلاني، بعيدا عن الأوهام والتبعيةالعمياء. وهو مختلف ، أيضا، في علاقته بالمكان الذي لايعد استثمارا زائفا حوله لكثيرون إلى نياشين وألقاب وأصل تجاري، فالمكان( بلاد الله) التي لاتفرق بين القادمين إليها من كل فج عميق .وهو مختلف، مرة ثالثة،في أن الحج طهارةوتطهيرتفصل بين مرحلتين: ما قبل الحج وما بعده.
هذه الحالات الثلاث تعود إلى خصيصة القلق، قلق السؤال، بأبعاده المتعلقة بسؤال الهوية في عمقه الأنطولوجي الذي لم يمنع الرحالة/ الحاج من التساؤل في آخر سطر من سطور الرحلة.( وهل أنالذي عاد هو أنا؟من أنا؟ من أكون؟) ص,97. وقلق السؤال لدى الرحالة ، كان وراء بناء الرحلة، وهو لايمل من طرح السؤال تلو السؤال على الذات و الآخر، في كل المراحل التي واكبت الحج-قبل الحج- أو أثناءه، وبعده أيضا.
قبل الحج
ولايتردد الرحالة في الكشف عن لحظات القلق التي انتابته، قبل الذهاب إلى الحج، موزعا بين الذهاب أو عدم الذهاب إلى المكان الأقدس، بين تلبية الدعوة ،أو عدم تلبيتها مخافة سوء التأويل من قبل المتذاكين، بين حمله لصفة الحاج ،وبين رفضه لها بعد ابتذالها(ص.16)،بين حبه للحياة والشغف بمفاتنها،وبين السلوك الجديد الذي تفرضه مرحلة ما بعد الحج.
وجعل الرحالة لكل محطة من المحطات السابقة على الحج، عنوانا دالا مقتبسا من قصيدة الخيام الشهيرة(سمعت صوتا هاتفا في السحر/ الرباعيات)بظلاله الموحية بلحظات محددة تتوزع بين الظلمة والنور، النوم واليقظة، الموت
والحياة، الوصف و السردا،لمقدس والمدنس، المونولوج المنقول عبر مواقف محددة، والحوار غير المباشر الذي يقوم على التفسير و الدحض والتفنيد والتأويل.فالمحطات الرحلية المجسدة في عناوين محددة(سمعت صوتا هاتفا/الطريق إلى الله/ حجاج للبيع)تعكس وضعيةالقلق المستشرية في ذات الرحالة التي جبلت على التمرد وحب الحياة ورفض تعاليم القطيع. فالحج شعيرة دينية تقوم- كما سبقت الإشارة- على التطهر من أدران الذات ، ومن أدران"
الآخر"، أيضا، المتسربة إلى هذه الذات بالكلام والنظرة والحكم المسبق ورواسب التخلف والبدع المستشرية.
أثناء الحج
لاتفارق النزعة النقدية الرحالة عبر ملاحظات عديدة انسحبت على ركاب الطائرة ذكورا( الجار الجزائري في الطائرة)، وإناثا( ونساء مليحات من وجوههن المكشوفة يخطرن بين صفوف الدرجة الأولى بعباءاتهن الحريرية السوداء، كما لو أنهن في صالون لعرض الأزياء، وعطر فاغم منهن يضوع في ارجاء المكان، كن يشددننا علىى الدنيا، والحال أن السحاب الذي نخترق، والبقاع التي نشد إليها الرحال مقصدها ثواب الآخرة،أو عذابها الأليم.)ص.24.
في هذا المقطع ترتفع حدة النبرة النقدية ، سواء تعلق الأمر بالداخل( الذات) أو بالخارج( العالم)، الدنيا أو الآخرة،الظاهر أو الباطن،المرئي او المسموع، الراي والرأي المضاد.
والرحالة يعلن على الملأ قناعاته ، دون لف أو دوران، مركزا على مختلف المظاهر التي تتوزع بين السلب والإيجاب، فالحج مطهر للروح والجسد،كما سبقت الإشارة، في حين يصر الكثيرون على ممارسة مسلكيات عديدة لاتمت إلى الحج بصلة. منهم ( حجاج الخمسة نجوم ص,50) وهم طراز استثنائي( من الحجيج رأيت بأم العين ما يذهب إليهم من طعام..)ص،53،ويخصص لهم( حيز مستقل لهم يؤدون فيه المناسك، لايختلطون بخلق الله العظيم9ص،53،ومنهم تلك السيدة القادمة- رفقة زوجها- من الولايات المتحدة الأمريكية التي (أمضت نصف حجها ، أو يزيد خلف هاتفها المتنقل ، بينما زوجها المصون أصبعه على زر كاميرا التصوير لا تتزحزح، لم يترك وجها ولامعلما متاحا إلا صوره، فلله ضره)ص،55 ومنها تحول بلاد الله( التي حلت فيها ضيوفا-أولايسمى هؤلاء ضيوف الرحمان؟إلى مزابل متنقلة، تعشش وسطها القاذورات، رغم كل جهود عمال النظافة)ص،50.
بعد الحج
في هذا القسم يعود الرحالة إلى الدنيا ( عائدا إلى الفندق في جدة، طويت الألبسة التقليدية ، وارتديت كسوة عصرية، ونزلت البهو، ارتشفت قهوة إكسبريس،أتصفح معها جريدة " الشرق الأوسط" أعادتني إلى الحروب والصراعات وحركة البورصة...)ص.93.
وينهي الرحالة هذاالقسم بتوصيف للذات هو أقرب إلى البوح الممتزج ب( مونولوج) خاص يستمد قوته من نزهة اعترافية يسترجع فيها الرحالة ما مر به والذي أصبح يلازمه في الحل والترحال، بل إن منامه( لم يعد مناما، ومثله صحوي الذي ليس هو الصحو) ص،96.
عود على بدء
حافظ الرحالة ، في رحلته الحجية، على مراحل أداء فريضة الحج كما هو وارد في الأثر. وكان كل عنوان من عناوين الرحلة يشكل محطة من محطات أداء الشعيرة ، أو المناسك،بمختلف مراحلها ، وجزئياتها. يبدأ النزول ب (جدة)، و يتخذ الرحالةقراره للقيام بحج التمتع، أي أداء العمرة ، قبل أداء الحج، والوصول إلى مكة، والقيام بطواف الإفاضة ? سبعة أشواط-حول الكعبة المشرفة ، متبوعا بالسعي بين الصفا والمروة سبعا...الخ. ثم يبدأ الحج الرسمي بالدخول إلى منى" كل الحج جله في منى"، والصلاة بها- ظهرا وعصرا ومغربا وعشاء- والمبيت بها ، وأداء صلاة الفجر، ثم رمي الجمرات،و وصولا إلى" عرفات الله يا خير زائر)- وهو ركن من أركان الحج لايصح الحج إلا به- والوقوف بها، ثم ممارسة الهدى، أو الأضحية، لترمى الجمرات ، من جديد، ثم قراره ترك " طواف الإفاضة" وجمعه مع "طوافالوداع"-أيام التشريق- وأدائه للمنسك السابق عليها، رغبة في ممارسة معاناة حقيقية في هذا المكان الأطهر بهدف كسر ( قوقعةالرفاه الذي أنا فيه)ص,64، وهو يتجه نحو البيت الحرام، ثم الكعبة المشرفة، ليتمكن من الطواف بمشقة شديدة،ةثم العودة أخيرا إلى "منى"، وانتظار منتصف الليل، للدخول في اليوم الثالث من التشريق، وإنجاز ماىتبقى من المناسك الأخيرة،خاصة طواف الوداع بالبيت العتيق، ليكون هذا الطواف آخر عهد بالبيت الحرام امتثالا لقوله عليه السلام (لاينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت).
التزام الرحالة-عن طريق السرد الخطي- بالمراحل الحجية، كما جاءت في الأثر، لم يمنعه من حفر خط مواز للرحلة الحجية، تجسد في الرحلة الحكائية المتوازية ، والمتقاطعة، مع الرحلة الأولى. واستطاعت هذه الرحلة الموازية أن تخلخل البناء النصي مخترقة المسار الخطي للرحلة الذي أصبح خطا ? عموديا وأفقيا- يمتلئ بالبؤر الحكائية،أحيانا، أو، أحيانا أخرى،بالأوضاع المختلفة(بورتريهات/استرجاعات/وقائع محددة،د/ توصيفات..) التي تجسدت في الأساليب التالية:
1-أسلوب الإعتراف الذي غلف ? شعرا ونثرا-مقاطع عديدة من الرحلة كشفت عن هاجس إيماني متين( ها أنت تركب طائرة خدام الحرمين... لايعرف أنه ينقل إنسانا ابتلى عمرا كاملا بالصبوات
، متبتلا في محراب عشق تذوب لتهجيته حروف الكلمات، كلما أوغل في سبيل الدنيا آوته شغاف صلوات صوفية،وأذكار هامسة تتلوها أطياف مائسة...) الرحلة.22.وساهم أسلوب البوح في ممارسة تعرية مزدوجة ان
انصبت على الذات والآخر في آن واحد. فتعرية الذات تسمح بخلق كائن "جديد"يستعد للقاء ربه بما له وبما عليه. وتعرية الآخر تمكن السارد من الإلمام بمظاهر الحج وملابساته المختلفة.
2- الأسلوب النقدي الذي لاتكاد تخلو منه صفحة من صفحات الرحلة. والرحالةيمارس نقده من موقع محاربة المنكر( ولو باللسان)بدءا بالإستعدادات الغريبة المصاحبة للحج(ص،21) مرورا بمظاهر عديدة انسحبت على أداء المناسك وعلى الأكل والشرب والملبس،( ص37،24، 38)وصولا إلى اللحظات الأخيرة من الممارسة الحجية.(ص،93).
3- يغلب على سرد الرحلة ضمير المتكلم من الصفحة الأولى( قضيت يومين من شهر نونبر..) إلى آخر صفحة
من صفحاتها(ها أنت عدت بجسدي القليل..) في سياق تقديم تجربة خاصة عاشها السارد طوال ففترة الحج. غير أن ضمير المتكلم المفرد يظل ? طوال الرحلة- في حوار لايفتر مع ضمير المتكلم الجمع تحقيقا للآتي:
?الجمع بين الشخص والشخصية، بين الشاهد والحاكي . وما يراه الشخص قد لاتراه الشخصية، كما أن الشاهد المشارك للآخرين، يتحين الفرصة الملائمة للتعبير عن موقفه من المرئي(أما حين تركنا عرفة ، فقد رأيت أكوام الأزبال عالية ربما غطت على الدعوات المرفوعة إلى السماء من قبل هؤلاء المسلمين الغرباء،أبوا إلا تدنيس هذا المقام بنفاياتهم..) ص،61.
ب-الإصرار على التميز الذاتي من خلال منظاره الشخصي الذي لايخلو من نسبية ، لكنه في الوقت ذاته يظل السبيل الأمثل لتقديم هذه التجربة التي توزعت بين الشعر والنثر.ف( كل ما أستطيع هوما رصدته من منظاري، يبقى منظاري الشخصي، المقترن بمعتقدي وإحساسي)ص،45. والمنظور ذاته يبرز شعرا في لحظات شفافة يتسنم فيها الرحالة مراقي الملكوت: كنت ظمآنا، ما أزال، أنا الآن هنا، مسراي من منى
ومعراجي(إلى أين؟) عطشي نار، يا ماءه اعتقني، يا الماء!
4- الأسلوب التعليمي الذي يلازم الخطاب الرحلي، عادة، بحكم ارتباطه بمتلق يجهل المروي، أو يمتلك معرفة محدودة عنه تقتضي الشرح والتأويل،أو،من جهة ثالثة، الرغبة في تصحيح ما يجب تصحيحه من مواقف وأحكام سائدة. في الرحلة لايتردد الرحالة في السير على خطوات الأوائل( فقرات من وثيقة الإرشادإفادة لغير
العارف،ص.42)/كتاب الشيخ الفزان/" شرح مناسك الحج والعمرة على ضوء الكتاب والسنة: للشيخ صالح بن فوزان الفوزان..ص.29/30.
عبر تقديم المراحل الحجية( فقه المناسك)، غير أن ذلك لم يمنعه من تحوله إلى دليل لايتردد في وصف طوبوغرافية المكان الذي خضع للعديد من المتغيرات،مما دفع بالرحالة إلى استعمال ضمير المخاطب وهو ينتقل بين مكان وآخر:(إذا جئت مكة، وقبل أن تنزل تحت أول نفق يفضي إلى مركزها، در من أول منحرف صاعد إلى اليمين، أعلاه ستصب سيارتك في شارع يقودإلى حي العزيزية الجديد..)ص،42.
والتعليمية ،أيضا، دعمت الحس النقدي الذي استفاد من التراكم المعرفي للرحالة، تصحيحا وتوضيحاوتثمينا.
5-لم تخل الرحلة من الموقف الطريف سردا ووصفا. فالروح الساخرة تتخلل الرحلة في مواقع عديدة، دون أن تتحول إلى قدح أو قذف أو هجاء، بل تظل مرابطة داخل دائرة المتعة والترويح عن النفس خلال مواقف محددة.فهي أحيانا تقوم على المفارقة( كانت أفواج القادمين لرمي الجمار لاتتوقف، من موقعي أراها تتوالى كالسيل العرم الذي جرف قسما من جدة، فيما خلفي حجاج نهمون لايكفون يملؤون الصحون)ص.51.
وهي أحيانا أخرى تستند إلى المبالغة بهدف الإثارة وشد الإهتمام(هالني حجم أطباق بعض الضيوف،وأصناف ما تجلبه النسوة من طعام كأنهن يستعددن لغزوة بدر)ص.38.
وقد تتحول،احيانا أخرى،إلى أداة نقدية تنصب على ما تراه خارجا عن المألوف(... فيما تأخر غدونا نحن، جراء من سيسببون لنا مغصا منتظما طيلة مراحل اللقاء اختلط عليهم الحج برحلة سياخية مرفهة، فغبقوا يبطؤوننا كل مرة في تهافتهم بيم موائد الطعام، وأي بضاعة في الطريق،واحيانا في تعبد مفتعل)ص,40.
6- ابتعدت الرحلة عن الأسلوب الوظيفية( اللغةالعارية) التي تعد حجر الزاوية فيى المتن والرحلي المراهن على التواصل بين السارد والمتلقي غير العارف بالمرئي.في (الرحلةإلى بلاد الله) مستويات من الأدبية تتوزع بين السرد القصصي والصياغة الشعرية، بين المشهدية والطابع الساخر،بين السجالية والإستبطان، بين الحكي الخطي لمراحل السفر واللحظة التبئيرية للموقف او الصورة أو النموذج الدال، بين اللغة المعيارية والمعجم الخاص للرحالة.وفي كثير من الأحيان، كان الرحالة ينتصر لشخصية السارد معلنا، تصريحا وتلميحا، عن هويته السردية، منوعا في الأساليب والصيغ والمواقف.
بعودتنا إلى المتن الرحلي ، يضع القارئ يده على على نص يطرح إشكالية مزدوجة:إشكالية الرحلة وإشكالية الرحالة.في المستوى الأول يتمردالنص على جنسه من حيث كونه رحلة حجية/ حجازية مفارقة للرحلة التقليدية
التي اهتمت بتقديم بتقديم المناسك بالدرجة الأولى، في حين اهتمت الرحلة الحالية بتقديم التجربة الإنسانية، في قوتها وضعفها،أثناءإنجاز المشاعر الحجية. ومن ثم لم يتردد الرحالة ? وهذا هو المستوى الثاني- في الجهر بقناعاته، دون زيف أو بهتان.ولعل هذا ما يفسر طبيعة اختيار العنوان الدال على طبيعة الإرتحال ذاته.إنها رحلة اكتشاف الله في الذات الإنسانية، قبل أن تكون رحلة إنجاز النوافل،أو الركن الخامس من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلا. والمكان ذاته-أرض الأنبياءص84- معلق ( بين الأعلى والأسفل، الممتد خارج الأزمنةص.85.) وهويخترق الذات المشرعة على " المابين"، بين الحقيقةوالمجاز على حد تعبير الكاتب.(ص.85.) واستطاعت الصياغة الشعرية أن تفي بالمطلوب من خلال صدى صوت الأنا الهائمة في الملكوت:
"كنت منهم، ذبت فيهم، تحللت بلا ذنب من كل الآثام
لم أعد أحتاج إلى صوتي،
شعاع الأبيض، غلالته، الهديل وريش اليمام،
ناب عن حبي، لما استوى على العرش، خرس الكلام.
كنت ظمآنا، ما أزال،أنا الآن هنا، مسراي من منى،
ومعراجي(إلى أين؟) عطشي نار، يا ماءه اعتقني، يا الماء!"ص.46.
إن المكان، في الرحلة، ليس مجرد موضوع للإدراك، بل هو الإدراك ذاته، حينما يتحول إلى ذات وهوية وتاريخ. ( وأي مكان آخر في بلاد الله هذه يهفو إليه الفؤاد، فليعلموا أنها له، لكل من تطلع لرب الكعبة، وعشق نبيه الكريم، لهم بها حق مذ انطلقت منها دعوة الدين الحنيف)ص.86.
الرحالة،إذن، يتقرى المكان بروحه ،قبل أن يتقراه بحواسه، منتهيا إلى صورة ثابتة لازمته في اليقظة والمنام. تلك هي صورة البياض الذي اتخذ دلالات عديدة جمعت بين الموت والحياة،البعث والفناء،المحدود والمطلق،الكفن والشهادة، المحسوس واللامحسوس(صورة بيضاء مطلقة، هي للقيامة، والموت والزوال، هي للإنتقال في حالة من الرهبة البيضاء، انتقال إلى عالم مطلق، تلجه بلا مخيط، والمخيط رمز الدنيوي، خيط الإرتباط بالمادي)ص.97
1-أحمد المديني:الرحلة إلى بلاد الله.من المعارف الجديدة.منشورات فكر.الرباط.2010.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.