لم يعلن حتى الآن عن نتائج الزيارة السريعة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أول أمس الأحد، إلى المملكة العربية السعودية. ولم يُكشف عما دار من مباحثات بينه وبين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. وقد صدر في أعقاب الزيارة بيان من الديوان الملكي السعودي مختصرًا ومركزا ً وبلغة دبلوماسية تقليدية، في حين صدر بيان عن وزارة الخارجية المصرية مفصلا ً ومطولا ً يستعرض موضوعات لم ترد في البيان السعودي. ولم يصدر بيان مشترك في ختام تلك الزيارة على غرار البيانات المشتركة التي تصدر في أعقاب مثل هذه الزيارة. وكان الرئيس السيسي قد مهد لزيارته للرياض بمقابلات صحافية، إحداها أجرتها معه صحيفة (الشرق الأوسط)، كان من أبرز ما جاء فيها الاقتراح الذي طرحه بإنشاء جيش عربي مشترك لمواجهة الإرهاب. وتزامنت زيارة الرئيس المصري للرياض، مع الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للمدينة المنورة، ثم للرياض حيث استقبله الملك سلمان بن عبد العزيز. ولم تنشر معلومات وافية عن فحوى تلك الزيارة وعما دار فيها من مباحثات بين رئيسَيْ الدولتين. ولقد ترددت أثناء تلك الزيارتين، أخبار كثيرة عن دور سعودي لإصلاح ذات البين بين القاهرةوأنقرة. ولكن الرئيس أردوغان نفى أن تكون هناك أية وساطة لهذا الغرض، وذلك في لقائه مع الصحفيين في مطار أنقرة قبل مغادرته إلى السعودية، موضحًا أنه يجب أن تتم إجراءات عملية ملموسة على الأرض قبل التفكير في مثل هذا الموضوع. وتبيَّن أنه يقصد إحداث تغييرات مفصلية في السياسة المصرية، والعدول عن سياسات تعتمدها القاهرة وتعارضها أنقرة وتقف حيالها موقف الرفض المطلق. ولكن من الواضح أن القاهرة ماضية في تنفيذ خطة العمل التي تضمنتها خريطة المستقبل التي أعلنها الجيش المصري في الثالث من شهر يوليو سنة 2013. وقد قطعت مراحل في هذا الاتجاه، ولم تبق إلا المرحلة الأخيرة التي يبدو أنها ستتأخر عن الموعد الذي أعلن لتنفيذها بإجراء الانتخابات التشريعية في آخر الشهر الجاري، بعد أن طعن القضاء المصري في قانون الانتخابات، مما يتطلب إعداد قانون جديد، أو تعديل القانون الحالي المطعون فيه والذي أصبح لاغيًا. وهو الأمر الذي يطول إنجازه، على الرغم من أن الرئيس السيسي حدد مدة شهر واحد لاستكمال إدخال التعديل المطلوب. وفي الجملة فإن مصر بدون برلمان، لن تكون في وضع مريح. أضف إلى ذلك اضطراب الوضع الأمني في سيناء وفي بعض المحافظات، وارتفاع أصوات المعارضة في وجه السياسات التي تنهجها الحكومة الحالية لمعالجة المشاكل الاقتصادية المزمنة والمعقدة، وضد تغوّل الأجهزة الأمنية التي يقول المعارضون إنها عادت إلى ما كانت تمارسه من انتهاكات للقانون قبل ثورة 25 يناير سنة 2011. ولعل مما يؤكد هذا، عودة رموز عهد حسني مبارك إلى الظهور، والهجوم الذي تشنه وسائل الإعلام على شباب ثورة يناير معتبرة ً إيّاهم عملاء لقوى أجنبية، ومدعية ً أن ما تمَّ في 25 يناير 2011 كان مؤامرة ضد مصر. والواقع أن الإعلام المصري، الذي بات يمارس أدوارًا ليست من اختصاص الإعلام ولا من وظائفه في كل الأحوال، يزيد الوضع العام تأزمًا، ويساهم في اضطراب الأحوال، ويفسد الحياة السياسية في البلاد، ويسيء إلى العلاقات المصرية مع الدول الشقيقة. وهو الأمر الذي يضاعف من المعاناة التي تقصم ظهر الشعب المصري. وإذا كان الوضع المستجد في مصر الناتج عن التحوّل الدراماتيكي العاصف الذي وقع في الثالث من يوليو 2013، هو الذي دفع بتركيا إلى اتخاذ الموقف المعارض للنظام المصري، وإلى استقبالها لرموز المعارضة، خصوصًا من جماعة الإخوان المسلمين، فإن ما اشترطه الرئيس أردوغان لعودة المياه إلى مجاريها في علاقة بلاده بمصر، ينصرف تلقائيًا إلى أصل الخلاف قبل أن يعود إلى فرع واحد من فروعه المتعددة. وفي هذه الحالة فإن الأمر يبدو متعذرًا إن لم يكن مستحيلا ً، اللهم إلا ًّ في حالة واحدة، هي نجاح الدور الوسيط الذي يمكن أن تقوم به المملكة العربية السعودية في عهدها الجديد الذي ظهرت مؤشرات معبرة ذات مغزى تدل على أن قدرًا من التغيير قد وقع في سياستها الخارجية، لعل من ملامحه الدَّالة زيارة كل من الرئيسين المصري والتركي إلى الرياض في وقت واحد، حتى وإن لم يعلن عن لقاء جمعهما بالملك سلمان بن عبد العزيز. فالدور السعودي في هذه المرحلة الحرجة، هو من الأهمية بمكان على جميع المستويات. فالملك سلمان بن عبد العزيز يملك من الوسائل العملية ما يستطيع بها إحداث اختراق في العلاقات المصرية التركية، بالنظر إلى الثقل السياسي للمملكة العربية السعودية، وبما لها من أيادِ بيضاء على كل من الدولتين المتخاصمتين، ومن كلمة مسموعة لدى قيادتَيهما. وبحسب ما يظهر في العلن من تباعد وتباين بل تصادم في العلاقات بين القاهرةوأنقرة، ومع بقاء الوضع الراهن بكل تعقيداته على ما هو عليه، سواء في مصر أو في تركيا، فإن الوصول إلى مصالحة شاملة بين الدولتين يبدو مستبعدًا جدًا، لأن الخلافات العميقة بين الدولتين وصلت إل الدرجة القصوى، التي تزيدها تفاقمًا واشتعالا ً الحرب الإعلامية الشرسة التي يشنها الإعلام المصري ضد تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، على النحو الذي يبتعد كثيرًا عن الممارسة المهنية السليمة المعمول بها في وسائل الإعلام العالمية، التي تحترم المتلقي وتلتزم بأخلاقيات المهنة. وبخلاف ما يفهم ويتداول في الصحافة وعلى الفضائيات، فإن الأصل في هذه الخلافات الحادّة بين القاهرةوأنقرة، ليس هو الموقف المؤيد لجماعة الإخوان المسلمين الذي تتخذه تركيا وتلتزم به، ولكنه الموقف من الحدث المدوي الذي جرى يوم ثالث يوليو سنة 2013، والذي ترى أنقرة أنه انقلاب عسكري كامل الأركان، على الديمقراطية الفتية، وضد إرادة الشعب المصري الذي انتخب الرئيس محمد مرسي في انتخابات شهد الجميع بأنها كانت شفافة ونزيهة. وهذا الموقف التركي يقابل بهجوم شديد الضراوة من مصر، بما لا يقارن بأي هجوم تشنه القاهرة ضد طرف آخر، باستثناء الموقف الرسمي من جماعة الإخوان المسلمين التي أصبحت في نظر النظام ووسائل الإعلام، جزءًا من تنظيم الدولة الإسلامية داعش الإرهابي. وهذا الربط بين الإخوان المسلمين وداعش، تراه أنقرة إفراطًا في المبالغة، وتزييفًا للحقائق، وافتراءًا باطلا ً، وادعاءًا لا أساس له من الصحة. المملكة العربية السعودية هي وحدها التي تملك أن تطفئ شعلة الخلافات العميقة والحادّة القائمة بين هاتين الدولتين الشقيقتين العضوين في منظمة التعاون الإسلامي، واللتين يجمع بينهما تاريخ مشترك عريق يمتد لستة قرون، مما لا يمكن نكرانه، حتى وإن أنكره بعضهم ممن يسعون إلى قطع الوشائج الثقافية والحضارية والروابط الروحية المتينة بين الشعبين المصري والتركي. أما كيف يمكن الوصول إلى المصالحة بين الدولتين، فهذا متروك للسياسة الحكيمة التي تنهجها السعودية على الصعيد الإقليمي، في ظل الأخطار المحدقة بالمنطقة، والتي لا تفرق بين دولة أو أخرى، أي بين السعودية ومصر وتركيا ودول الخليج ودول شمال أفريقيا عمومًا، وفي مواجهة التحديات الإرهابية التي تستدعي مزيدًا من اليقظة وتقوية الصفوف وتنسيق المواقف والاجتماع على كلمة سواء، ألا وهي محاربة الإرهاب الحقيقي، لا الإرهاب المتوهم الافتراضي الذي هو ليس إرهابًا. فليست المسألة هي تذويب الخلاف، وتجاوز القطيعة، وإنهاء الخصومة. إنها أكبر من ذلك وأثقل وزنًا. ولكن مما لا شك فيه أن خادم الحرمين الشريفين يستطيع، بحكمته وحنكته، أن يحقق اختراقًا يترقبه الجميع في العلاقات المصرية التركية، لمواجهة الإرهاب الداعشي والطائفي بموقف موحد، هو مصدر القوة والمناعة في هذه المعركة المفروضة على العرب والمسلمين.