تحت قبة البرلمان، تبث الجلسات العامة مباشرة، حيث تطرح الأسئلة الشفوية، وتناقش مشاريع ومقترحات القوانين، وتعرض تقارير المهام الاستطلاعية والمؤسسات الدستورية. لكن خلف هذا المشهد المنقول مباشرة، ينبض فضاء آخر لا تلتقطه عدسات البث الحي، ولا تصله أنظار المواطنين، إنه عالم اللجان الدائمة بالبرلمان، حيث يعاد تشكيل النصوص التشريعية مادة بمادة، وتفكك المقتضيات القانونية فقرة فقرة، وتصاغ التعديلات في اجتماعات ماراطونية تنطلق بهدوء، لتتحول في كثير من الأحيان إلى نقاشات محتدمة ومشادات لا تخلو من التوتر. هنا، بعيدا عن الأضواء، يبنى جوهر التشريع، في معركة الصياغة والدقة، حيث يصنع مستقبل القوانين التي تنظم شؤون البلاد والعباد. خلف أبواب "القاعة المغربية" في واحدة من أبرز اللحظات التشريعية، أسدل الستار، خلال جلسة عمومية، عقدت يوم 20 ماي الجاري، على مشروع القانون رقم 03.23 القاضي بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، وذلك بالتصويت عليه بالأغلبية، حيث حظي بموافقة 130 نائبا، مقابل معارضة 40 آخرين. وقد وصف وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، هذا النص التشريعي ب"الدستور الحقيقي للعدالة الجنائية"، لما يحمله من تحولات عميقة في منظومة التقاضي. الجلسة التشريعية، التي نقلت مباشرة على الموقع الرسمي لقناة مجلس النواب على "اليوتيوب"، بدت منسجمة ومحكمة، وزير يتحدث بثقة، ونواب يناقشون التعديلات باهتمام، وعدسات الكاميرات توثق كل لحظة، لكن خلف هذا المشهد المنقول، كانت هناك دينامية تشريعية حقيقية جرت في الظل، داخل لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات، التي عقدت عشرة اجتماعات ماراطونية، بلغ مجموع زمنها 57 ساعة من العمل المتواصل. توزعت هذه الاجتماعات بين تقديم المشروع، ومناقشته العامة والتفصيلية، وصولا إلى مرحلة الحسم في التعديلات. وقد شكل اجتماع 11 مارس 2025 إحدى أبرز محطات هذا المسار، لما شهده من نقاش تفصيلي دقيق حول عدد من المقتضيات المثيرة للجدل. في "القاعة المغربية"، إحدى أعرق فضاءات مجلس النواب، بهندستها التقليدية وأثاثها المصنوع على الطراز المغربي الأصيل، بدأ النواب في الالتحاق تباعا بطاولة الاجتماع. بينما توزع أطر المجلس، ومرافقو الوزير، وممثلو الفرق النيابية، والصحافيون، على المقاعد المحيطة، استعدادا لانطلاق واحدة من أهم جلسات اللجنة. ومع بداية الاجتماع، شرع أطر اللجنة في توزيع الوثائق على الحضور، إلى جانب لائحة توقيع النواب، إيذانا بانطلاق جلسة غنية بالمضامين القانونية الدقيقة، حيث ينتظر أن تفكك فيها مواد نص قانوني استراتيجي. حين أقسم الوزير المناقشة التفصيلية لمشروع القانون بلغت ذروتها عند المادة 3 التي تمنع جمعيات المجتمع المدني من إقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام. وعندما بدأ تدارس هذه المادة، لم يتردد وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، في الدفاع عنها بشراسة، متهما بعض الجمعيات ب"الفساد" وبتقديم شكايات كيدية. غير أن ما فاجأ أعضاء اللجنة وأربك إيقاع النقاش، هو إقدام الوزير، بشكل غير مألوف، على القسم أمام الحاضرين بأنه لن يغير صيغة المادة. لحظة استثنائية داخل أروقة البرلمان، بدت صادمة وخارجة عن أعراف النقاش التشريعي، لتفتح الباب أمام سجال دستوري وسياسي حاد. رد الفعل جاء سريعا، فقد أثار القسم موجة احتجاج وسط النواب، استدعت تدخلا مباشرا من رئيس اللجنة، سعيد بعزيز، الذي ذكر الوزير أن التشريع من اختصاص البرلمان، وأن القسم على عدم تعديل نص قانوني يعد مسا باستقلالية المؤسسة التشريعية. ليتراجع وهبي عن موقفه، مؤكدا أن التعديل من صلاحيات البرلمان. وفي خضم النقاش، تباينت المواقف بين مؤيد للمادة بصيغتها الأصلية، ومحذر من احتمال تعارضها مع أحكام الدستور، في حين اقترح طرف ثالث صيغة وسطى تتيح التبليغ وفق شروط قانونية دقيقة. استمر النقاش في أجواء مشحونة، امتزج فيها القانوني بالسياسي. وفي لحظة لافتة من لحظات النقاش التفصيلي، التحق رئيس مجلس النواب، راشيد الطالبي العلمي، بالاجتماع وجلس بهدوء بين النواب، متابعا جانبا من النقاش القانوني المعمق، لم تكن الكاميرات حاضرة، لكن المداخلات المتقاطعة كانت كافية لتعكس أهمية مشروع القانون، وتنوع القراءات التي طرحت بشأنه داخل اللجنة. عندما تنزع القبعة السياسية هذا العمق لم يكن خاليا من مفارقات لافتةن ففي أكثر من موضع، ساند نواب من المعارضة مواقف الحكومة، بينما تحفظ بعض أعضاء الأغلبية على مقتضيات بعينها، في مشهد يعكس خصوصية العمل داخل اللجان، حيث تتراجع الاصطفافات، ويعلو منطق النصوص على الانتماءات. وفي هذا السياق، أكدت النائبة فاطمة بن عزة، عن الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية وعضو لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات، أن عمل اللجنة يتجاوز الانتماءات الحزبية الضيقة، ويبنى على منطق النقاش المسؤول والتجرد من المواقف المسبقة. وأوضحت، في تصريح ل "الأول"، أن اللجنة "تضم نوابا من الأغلبية والمعارضة، لكن بمجرد انطلاق النقاش، ترفع القبعات السياسية، ويتم التعامل مع النصوص القانونية بروح مؤسساتية وتجرد تام". وأضافت أن التصويت في نهاية المسار يخضع لمنطق الأغلبية الحكومية، لكنه لا يتم، بحسب قولها، إلا بعد أن يكون النص قد خضع لمجهود جماعي في التعديل والتجويد، يشارك فيه الجميع دون استثناء. بدوره، يشير عبد الحفيظ أدمينو، أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط، إلى أن المبادرة التشريعية حق مكفول دستوريا، حيث يمنح الدستور هذا الحق بالتساوي للبرلمانيين وللحكومة. غير أن مآل التعديلات، كما يوضح، يظل خاضعا لقاعدة أساسية تؤطر عمل البرلمانات في مختلف دول العالم، وهي قاعدة التمثيل النسبي داخل المؤسسة التشريعية، ما ينعكس بشكل مباشر على عملية التصويت. ويؤكد أدمينو، في حديثه مع "الأول" أن الفرق البرلمانية، سواء كانت من الأغلبية أو من المعارضة، تشتغل وفق اختيارات سياسية ترتبط في الغالب بتوجهات الأحزاب التي ينتمي إليها أعضاؤها. البرلمان الفعلي ما جرى داخل لجنة العدل والتشريع يجسد نموذجا مصغرا لما تعرفه باقي اللجان الدائمة، التي تعد القلب النابض للعمل البرلماني. ففي كواليسها تبذل جهود كبيرة لصياغة النصوص القانونية، وتعديلها، وتجويد مضامينها، رغم أن هذه المسارات المعقدة كثيرا ما تظل بعيدة عن النقاش العمومي، وتختزل في ما يعرض لاحقا داخل الجلسات العامة. في هذا الإطار، يصف أدمينو، اللجان الدائمة ب" البرلمان الفعلي"، لأنها تؤدي الدور الرئيسي في مناقشة النصوص القانونية، موضحا أن "العمل الأساسي والمهم للبرلمان يتم داخل اللجان، في حين تبقى الجلسة العامة مجرد إعادة إنتاج لما تم تقديمه داخل اللجنة". وفي الاتجاه ذاته، يشدد عبد الرحمان الدريسي، رئيس لجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية بمجلس المستشارين، على خصوصية هذه اللجان ودورها في تجويد النصوص القانونية قائلا ل "الأول ": إن "دراسة مشاريع ومقترحات القوانين داخل اللجان الدائمة تعد من أبرز المراحل التي تمر منها عملية إنتاج القواعد القانونية، حيث تساهم اللجان بشكل كيفي في دراسة هذه النصوص من مختلف الجوانب". أما المستشار البرلماني خالد السطي، عن نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، فيبرز ميزة اللجان من حيث العمق الزمني للنقاش قائلا في تصريح ل"الأول": "نحن نشتغل بشكل جدي داخل اللجان الدائمة، حيث يحضر البرلمانيون ويتابعون مختلف الأشغال، ويمكن للمستشار داخل بعض اللجان أن يتدخل لمدة ساعة متواصلة، شرط أن يكون تدخله مرتبطا بملف معين يهم قطاعا حكوميا." ولا تقتصر وظائف اللجان البرلمانية على مناقشة النصوص أو التصويت على التعديلات، بل تضطلع بأدوار متعددة تشكل العمق الفعلي للعمل التشريعي، كما يؤكد ذلك الأستاذ عبد الحفيظ أدمينو، مشيرا إلى أن "النظام الداخلي يمنح اللجان البرلمانية اختصاصات واسعة تشمل التشريع، والرقابة، وتقييم السياسات العمومية. فهي تدرس مختلف النصوص القانونية المحالة عليها، من مشاريع ومقترحات قوانين إلى المعاهدات الدولية". ويضيف أدمينو أن اللجان تمارس أيضا دورا محوريا في مجال الرقابة، من خلال صلاحية استدعاء الوزراء ومدراء المؤسسات العمومية، كما يمكنها القيام بمهام استطلاعية. ولا تقتصر وظيفتها، كما يوضح، على النقاش فقط، بل تشمل أيضا التفكير الجماعي، وتنظيم أيام دراسية لتنوير البرلمانيين، والانفتاح على المجتمع المدني، وهي أدوار من شأنها تعزيز جودة التشريع وعمق النقاش المؤطر له. اللجان الدائمة في أرقام وإذا كانت مختلف التصريحات قد أجمعت على مركزية اللجان الدائمة في هندسة السياسة التشريعية، فإن الأرقام المسجلة مابين 11أكتوبر 2024 إلى 19 ماي 2025 جاءت لتترجم هذا الدور إلى معطيات ميدانية. وبحسب معطيات رسمية حصل عليها "الأول" حصريا، سجلت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب أعلى نسبة من حيث النشاط، بعقدها 44 اجتماعا، بإجمالي زمني بلغ 122 ساعة و30 دقيقة. ويفسر هذا الإيقاع المرتفع من العمل بخصوصية النصوص المحالة على اللجنة، وبصرامة الإطار القانوني الذي ينظم عملها. وفي هذا السياق، يؤكد النائب البرلماني سعيد بعزيز، رئيس اللجنة، أن "عمل اللجنة مؤطر بدقة بالنظام الداخلي لمجلس النواب، الذي يحدد آجالا مضبوطة لدراسة مشاريع القوانين، منها 60 يوما قابلة للتمديد ب30 يوما إضافية فقط، كما أن احترام الزمن التشريعي ليس خيارا، بل إلزام قانوني." ويضيف بعزيز في تصريح ل" الأول" أن اللجنة اشتغلت على نصوص محورية مثل مشروع قانون المسطرة المدنية، ومشروع قانون المسطرة الجنائية، ومشروع قانون التنظيم القضائي ومشروع قانون المحاكم المالية، ومشروع قانون المفوضين القضائيين، في انتظار إحالة نصوص أخرى، فضلا عن مناقشة مقترحات القوانين وتنظيم أيام دراسية. ووفق المعطيات الرسمية ذاتها، جاءت لجنة المالية والتنمية الاقتصادية في المرتبة الثانية من حيث عدد الاجتماعات، ب24 اجتماعا دام مجموعها 85 ساعة و25 دقيقة، وشكلت مناقشة مشروع قانون المالية للسنة المالية 2025 أبرز محاور أشغالها. من جهتها، عقدت لجنة القطاعات الإنتاجية 22 اجتماعا استغرقت 47 ساعة و40 دقيقة، فيما بلغ عدد اجتماعات لجنة القطاعات الاجتماعية 21 اجتماعا، استغرقت في مجملها 60 ساعة و40 دقيقة. أما لجنة التعليم والثقافة والاتصال، فقد عقدت 17 اجتماعا بلغ مجموع ساعاتها 55 ساعة و35 دقيقة، متساوية من حيث عدد اللقاءات مع لجنة البنيات الأساسية والطاقة والمعادن والبيئة والتنمية المستدامة، التي سجلت بدورها 17 اجتماعا استغرقت 41 ساعة و15 دقيقة. وفيما يخص لجنة الخارجية والدفاع الوطني والشؤون الإسلامية وشؤون الهجرة والمغاربة المقيمين بالخارج، فقد عقدت 6 اجتماعات استغرقت 18 ساعة و45 دقيقة، بينما سجلت لجنة مراقبة المالية العامة والحكامة أقل عدد من الاجتماعات، ب4 لقاءات فقط، لم تتجاوز مدتها الزمنية 4 ساعات و10 دقائق. غير أن هذا التفاوت في عدد الاجتماعات وساعات العمل لا ينبغي أن يفهم باعتباره مؤشرا على ضعف فعالية باقي اللجان الدائمة، بل هو في العمق انعكاس مباشر لحجم وعدد النصوص التشريعية التي تم إحالتها على كل لجنة خلال هذه الدورة. "الإضراب" في الغرفة الثانية إذا كانت معطيات مجلس النواب قد عكست كثافة في عمل لجانه، وعلى رأسها لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات، فإن الحديث عن مجلس المستشارين يقتضي استحضار منطق مغاير، يراعي طبيعة تركيبته، وتنوع تمثيلياته المهنية والترابية والنقابية. فلكل مجلس لجانه، ولكل غرفة من غرفتي البرلمان ديناميتها الخاصة. ويضم مجلس المستشارين ست لجان دائمة، ويتعلق الأمر بلجنة الداخلية والجماعات الترابية والبنيات الأساسية، ولجنة الخارجية والدفاع الوطني والمغاربة المقيمين في الخارج، ولجنة المالية والتخطيط والتنمية الاقتصادية، ولجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية، ولجنة القطاعات الإنتاجية، وأخيرا لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان. وعلى خلاف الصورة النمطية التي تحصر دور مجلس المستشارين في المصادقة على ما يقره مجلس النواب، شكل النقاش الذي رافق مشروع القانون التنظيمي المتعلق بممارسة حق الإضراب داخل لجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية لحظة فارقة، برهنت من جديد على أن الغرفة الثانية ليست مجرد "ملحقة تشريعية"، كما كان يردد، ولا يقتصر دورها على تمرير نصوص جاهزة وفق أغلبية عددية وتوازنات سياسية معدة سلفا. ما جرى داخل اللجنة لم يكن مجرد نقاش روتيني يختتم بتصويت شكلي، بل إن سلسلة الاجتماعات التي واكبت دراسة مشروع القانون التنظيمي المتعلق بممارسة حق الإضراب كشفت عن مسار مؤسساتي متكامل، يعكس بوضوح أن الغرفة الثانية ليست مجرد مستهلكة للتشريع، بل مساهمة فعلية في صناعته. نقاشات مطولة، واستدعاء دقيق لمختلف الفاعلين، وبلورة لتعديلات جوهرية أعادت تشكيل النص الأصلي… كلها مؤشرات على دينامية تشريعية حقيقية داخل لجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية بمجلس المستشارين. الأغلبية العددية دينامية اشتغال مكثفة لخصها رئيس اللجنة، عبد الرحمان الدريسي، قائلا إن اللجنة صادقت على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بممارسة حق الإضراب بتاريخ 31 يناير 2025، بعد اجتماعات طويلة امتدت لأزيد من 50 ساعة و35 دقيقة من العمل المتواصل، عرفت حضورا مكثفا للمستشارين البرلمانيين، خاصة ممثلي التمثيليات النقابية والمشغلين. وأشار الدريسي إلى أن اللجنة حرصت أيضا على تنظيم يوم دراسي خصص لتحليل مضامين المشروع واستيعاب خلفياته بشكل معمق. ورغم قوة التفاعل الذي رافق مناقشة المشروع داخل اللجنة، لم تغب التباينات الحادة عن النقاش، خصوصا من جانب التمثيليات النقابية التي عبرت عن تحفظات جوهرية على الصيغة المصادق عليها. وفي هذا الإطار، اعتبرت المستشارة البرلمانية فاطمة أزوكاغ، عن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، أن مسار التشريع شابه اختلال واضح لصالح منطق الأغلبية العددية، مؤكدة أن التعديلات التي تقدمت بها النقابة لم تلق التجاوب المطلوب. وأشارت أزوكاغ في تصريح ل"الأول"، إلى أن الصيغة النهائية، كما تم تمريرها، لا تعكس انتظارات الطبقة العاملة، معتبرة أنها تتضمن مقتضيات تمس بحقوق الأجراء وتفرض قيودا غير مبررة على ممارسة حق الإضراب. لكن في المقابل، يرى محمد عزيز بوسليخن، عن فريق الاتحاد العام لمقاولات المغرب، بمجلس المستشارين في تصريح ل" الأول" أن اللجنة نجحت في تحقيق توازن معقول بين مختلف المطالب، حيث قال إن "القانون التنظيمي المتعلق بممارسة حق الإضراب، لم يكن مجرد نص مر بسهولة، بل كان تتويجا لمسار تشاوري واسع وعميق"، ليضيف: عملنا على صياغة التعديلات اللازمة لضمان التوازن الدقيق بين حق الإضراب كحق دستوري، وضرورة استمرارية المرافق الحيوية، وحماية الاقتصاد الوطني، والبحث عن أرضيات مشتركة وتجاوز نقاط الخلاف للوصول إلى صيغة توافقية." بهذا المعنى، تبرهن تجربة القانون التنظيمي المتعلق بممارسة الإضراب على أن لجان مجلس المستشارين لا تشتغل بمنطق السرعة أو الكم، بل وفق منطق التفاعل مع نصوص مركبة تتطلب مقاربات توازن بين الأبعاد الاجتماعية والدستورية والاقتصادية. غياب دون اعتذار من خلال مراجعة دقيقة للائحة الحضور والغياب الخاصة بالبرلمانيين، التي قامت بها "الأول"، برزت مفارقة لافتة تحمل في طياتها أكثر من دلالة، فبينما يسجل غياب متكرر لبعض النواب، والذين لا يكلفون أنفسهم "عناء" الاعتذار، رغم قربهم الجغرافي من مقر المؤسسة التشريعية، يحرص نواب آخرون، يقطعون مئات الكيلومترات، على الحضور والمشاركة بانتظام في أشغال اللجان والنقاشات التفصيلية. في هذا التباين، تنعكس صورتان متناقضتان لثقافة الالتزام داخل المؤسسة، بين فئة تعتبر الحضور واجبا سياسيا وأخلاقيا، وجزءا لا يتجزأ من تمثيل المواطنات والمواطنين، وأخرى تتعامل مع الأمر كخيار مرن، قابل للتأجيل. ينص النظام الداخلي لمجلس النواب، في مادته 137، بشكل صريح على ضرورة تتبع حضور النواب في اجتماعات اللجان الدائمة، عبر تسجيل أسماء الحاضرين، والمعتذرين، والمتغيبين بدون عذر، وتبليغها إلى مكتب المجلس ورؤساء الفرق، مع تلاوة أسماء المتغيبين في بداية الاجتماع الموالي، ونشرها في النشرة الداخلية والموقع الرسمي للمجلس. وفي نفس السياق، تنص المادة 134 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين على الإجراءات المتعلقة بتسجيل وتتبع حضور الأعضاء باللجان الدائمة، ومنها "تلاوة أسماء المتغيبين في بداية الاجتماع الموالي"، مع تطبيق "نفس الجزاءات المتعلقة بالغياب في الجلسات العامة". غير أن هذا المقتضيات ورغم وضوحها، ظلت معطلة فيما يرتبط بتلاوة أسماء المتغيبين خلال هذه الدورة. وفي هذا السياق، يؤكد رئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات بمجلس النواب، أن اللجنة بادرت إلى محاولة تقنين مسألة الغياب، موضحا أنه "أثناء مناقشة الميزانيات القطاعية، لاحظنا تسجيل حالات غياب، فقررنا مراسلة رؤساء الفرق النيابية لتمكينها من لائحة النواب المتغيبين، وبدأنا فعلا في تفعيل مسطرة الاعتذارات، حيث شرعنا في التوصل بها تباعا". أما بخصوص تلاوة أسماء المتغيبين داخل اللجنة، فأوضح بعزيز أن هذا الإجراء يظل مرتبطا بتفعيل مماثل على مستوى الجلسات العامة، مؤكدا أنه "عندما يتم الشروع في تلاوة الأسماء في الجلسات العامة، سنقوم بدورنا بذلك داخل اللجنة". أما النائبة فاطمة بن عزة، عضو لجنة العدل والتشريع، فتؤكد أن غياب النواب قد تكون له مبررات مرتبطة بالتزاماتهم في دوائرهم الانتخابية، لكنها ترى أن هذا لا يعد مبررا مقبولا حين يتعلق الأمر بأشغال اللجان. وتوضح أن الغياب عن جلسة الأسئلة الشفوية يمكن تفهمه، أما التغيب عن اجتماعات اللجان فلا يمكن التساهل معه. وتضيف أن أشغال اللجان تنتهي أحيانا بحضور خمسة أو ستة أعضاء فقط، رغم أن المشاريع والمقترحات المعروضة للنقاش تتطلب عمقا تشريعيا، وقد تفضي إلى نصوص قانونية تخدم المواطن لسنوات طويلة. وبغض النظر عن عدد الحضور، فإن اللجان الدائمة لا تنهي عملها برفع الجلسات، فما إن تطفأ "الميكروفونات"، حتى يبدأ دور آخر لا يقل أهمية، يتولاه موظفو اللجنة الذين يواصلون الاشتغال خلف الكواليس، فهناك، تصاغ التقارير، وتحرر مضامين النقاشات، وتحول إلى صيغ قانونية دقيقة تراعي كل الملاحظات والمداولات التي طرحت خلال الاجتماعات. هؤلاء الموظفون، الذين وصفهم رئيس مجلس النواب راشيد الطالبي العلمي ب"جنود الخفاء"، كثيرا ما يضطرون للسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، خاصة عندما تكون جلسة تشريعية مبرمجة في اليوم الموالي. في انتظار القناة البرلمانية على الرغم من الزخم المؤسساتي والنقاشات الغنية التي تشهدها اللجان الدائمة بالبرلمان، فإن هذه الدينامية لا تجد طريقها إلى الرأي العام، ما يعمق الفجوة بين البرلمان والمواطن، وهو ما نبهت إليه النائبة البرلمانية بن عزة حيث أشارت إلى وجود تقصير إعلامي واضح في مواكبة عمل المؤسسة التشريعية خصوصا في المراحل الحاسمة لصياغة النصوص القانونية. وتابعت بالقول: "غالبا ما تقتصر التغطية على بدايات الجلسات أو لحظة التصويت، حيث يختزل العمل البرلماني في أرقام المصوتين والمعارضين، دون الغوص في عمق النقاشات أو مواكبة العمل المضني الذي يقوم به النواب، والذي لا يعرف عنه المواطن شيئا، ولا حتى الإشارة إلى الصراعات السياسية التي ترافق التعديلات المقترحة:. وجهة النظر هذه يؤكدها أستاذ القانون العام أدمينو، الذي يعتبر " أن الجهد الكبير الذي تبذله لجان، مثل لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات أو لجنة المالية والتنمية الاقتصادية، لا يترجم إعلاميا، رغم امتداد أشغالها إلى ساعات متأخرة من الليل، انطلاقا من المبدأ الدستوري الذي ينص على سرية اللجان، لكن يوجد استثناء، منصوص عليه في النظام الداخلي للمجلس، و كما حدث خلال جائحة كوفيد تم النقل المباشر لأشغال اللجان بقرار من مكتب المجلس". ويشير إلى أن النظام الداخلي يعوض غياب التغطية الإعلامية بإلزام رئيس اللجنة بالإدلاء بتصريح صحفي بعد كل اجتماع، لتقديم ملخص لما دار من نقاش، غير أن هذا الإجراء، بحسب رأي أدمينو، لا يفي بالغرض من حيث التتبع المباشر، وقد ينتج صورة نمطية تبخس أداء البرلمانيين. في هذا السياق، تنص المادة 119 من النظام الداخلي لمجلس النواب على "تخصيص حيز زمني للنقل التلفزي المباشر لوقائع اجتماعات اللجان الدائمة المنعقدة وفق مقتضيات المادة 128 من هذا النظام الداخلي حين يتعلق الأمر بقضايا وطنية وجهوية تستأثر باهتمام الرأي العام الوطني". ورغم وضوح هذا المقتضى، فإن تفعيله ظل محدودا ، ما يبقي النقاشات التشريعية خلف الأبواب المغلقة، بعيدة عن أعين المواطنين. وفي هذا الإطار، يستحضر المستشار البرلماني خالد السطي تجربة البث المباشر لأشغال اللجان عبر قناة مجلس النواب على منصة "اليوتيوب" خلال جائحة كوفيد، معتبرا أن تلك المرحلة شكلت لحظة انفتاح حقيقية ساهمت في تفعيل التواصل بين المؤسسة التشريعية والمواطنين، وفتحت النقاش البرلماني أمام الرأي العام بشفافية ووضوح غير مسبوقين. غير أن هذه التجربة رغم نجاحها، يضيف السطي، توقفت بعد الجائحة، رغم توفر الإمكانيات التقنية، بفعل الاستمرار في العمل بمبدأ "سرية اللجان" المنصوص عليه في الدستور. وينص الفصل 68 من الدستور على أن "جلسات لجان البرلمان سرية، ويحدد النظام الداخلي لمجلسي البرلمان الحالات والضوابط التي يمكن أن تنعقد فيها اللجان بصفة علنية". وقد حددت المادة 128 من النظام الداخلي لمجلس النواب استثناءات لرفع السرية عن اللجان، والتي أجملتها في "موضوع طارئ وعاجل يقتضي إلقاء الضوء عليه، والتقديم والمناقشة العامة للنصوص التشريعية، وموضوع رقابي يستأثر باهتمام الرأي العام الوطني". وهو النهج الذي سار عليه النظام الداخلي لمجلس المستشارين، الذي ينص في مادته 204 على إمكانية عقد جلسات اللجان الدائمة علنية حول "قضايا وطنية وجهوية تستأثر باهتمام الرأي العام الوطني، ما لم يتعلق الأمر بالأمن الداخلي أو الخارجي للدولة.". في هذا الإطار، يبرز مطلب إحداث قناة برلمانية كضرورة ملحة، خاصة في ظل التحولات التي يعرفها المشهد الإعلامي والسياسي، وحاجة المؤسسة التشريعية إلى آليات تواصل أكثر انفتاحا وفعالية. ورغم أن المشروع ليس جديدا، إلا أنه عاد بقوة إلى الواجهة خلال السنوات الأخيرة، مدعوما بمطلب مجتمعي متزايد للحق في المعلومة والتتبع المباشر لأشغال البرلمان. وقد خصص النظام الداخلي لمجلس النواب لهذا الورش إطارا قانونيا واضحا، من خلال المادتين 335 و336، اللتين تنصان على إحداث قناة برلمانية بتنسيق بين مجلس النواب ومجلس المستشارين والحكومة، على أن يسند إلى مكتب مجلس النواب، بتشاور مع مكتب الغرفة الثانية والسلطة التنفيذية، إعداد التصور القانوني والمالي والمؤسساتي اللازم لإطلاق هذه القناة. وفي هذا السياق يقول رئيس العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات بمجلس النواب:" نحن من المطالبين بإحداث قناة برلمانية خاصة، تكون مخصصة لنقل الأنشطة البرلمانية بمختلف أنواعها. هذا مشروع قديم، لا يزال مطروحا، وسيساهم في إشعاع العمل البرلماني". "البوز" بين الإعلامي والسياسي إذا كانت محدودية البث والتغطية تقف عائقا أمام نقل النقاشات العميقة إلى الرأي العام، فإن طريقة تناول الإعلام لما يصل أحيانا تفاقم هذا الخلل، كانت محط انتقاد من قبل وزراء وبرلمانيين، وهذا ما تؤكده النائبة البرلمانية بن عزة التي تشير إلى أن بعض الصحفيين يركزون على تصريحات عرضية أو كلمات خارجة عن السياق، سواء من وزير أو نائب، بهدف إثارة الجدل أو خلق "البوز"، مما يهمش جوهر النقاش التشريعي الذي تقوم به اللجنة لأيام وساعات طويلة. أما الصحفي المتخصص في الشأن البرلماني، أحمد الأرقام، فيرى أن التفاوت في المعالجة الإعلامية لبعض القضايا التي تناقش داخل اللجان يعود إلى اختلاف المرجعيات المهنية والخطوط التحريرية، سواء تعلق الأمر بالصحافة الورقية أو الإلكترونية أو الإعلام العمومي، ويقر بأن بعض الهفوات قد تعود إلى ضغط الوقت. ويضيف، في تصريح ب"الأول" أن هناك حالات نادرة جدا يسجل فيها تحريف للتصريحات بدافع الخلاف الإيديولوجي أو الانتماء الحزبي، وهي ممارسات تخرج عن سياق أخلاقيات المهنة، وإن كانت لا تعكس السلوك العام للصحفيين المهنيين. وبالمقابل، أكد الأرقام أن البرلمانيين والمسؤولين الحكوميين عليهم أن يدركوا أن كل ما يتفوهون به داخل اللجان التي يحضرها الصحافيون من حقهم نشره، ما لم يعلنوا تحفظاتهم على ذلك، وهو ما يستدعي تحمل مسؤوليتهم. وفي بعض الأحيان، يضيف الصحفي المتخصص في الشأن البرلماني، يصرح البرلماني أو الوزير داخل اللجان الدائمة بأمور تتضمن اتهامات أو تعبر عن موقف سياسي قوي، وعندما تنشر على نطاق واسع وتسبب له مشاكل، يتراجع عنها ويحمل الصحافي المسؤولية إن ما يجري داخل اللجان الدائمة يستحق أن تروى تفاصيله وتبث بعناية، إذ يمتزج فيه البعد السياسي بالبعد الإنساني، ففي جلساتها تصاغ قوانين الوطن بعناية، بعيدا عن أضواء الإعلام وأنظار المواطنين، وفقا لمبدأ السرية التي يكفلها دستور المملكة، غير أن الاستثناء المنصوص عليه في النظام الداخلي للغرفتين، إذا ما تم تفعيله، يمثل نافذة تتيح للبرلمان مفتاح التواصل الحقيقي، ليطلع من خلالها المواطن على ما يجري في الكواليس، ويكسر الانطباع السائد عن البرلمان، وقتها حيث سيدرك الجميع أن وراء كل قانون جهدا حقيقيا يبذل، وأن العمل البرلماني ليس مجرد مشهد عابر، بل هو عملية مؤسساتية مستمرة.