يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: مكالمة من قلب غزّة نور الدين مفتاح نشر في 24 أبريل 2025 الساعة 11 و 44 دقيقة حتى في الكبوات يكون هناك شرف، هناك شموخ الحزن وسمو عدم الاستسلام خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بالوطن، وهذا يتطلب تضحيات يؤديها الآن ثمنا باهظا إخواننا في غزّة، فهل هو كاف كلامنا ومقالاتنا وتدويناتنا واحتجاجاتنا وصراخنا وكوفياتنا على الأكتاف والهتاف؟ نور الدين مفتاح [email protected]
وصلني صوته كالطلقات. ولما كنا في هذه السنة ونصف السنة قد تعودنا على اللكنة الغزية بفعل متابعة النقل اليومي لحرب الإبادة على القطاع، فقد عرفتُ أنه من هناك.
ارتبكت! ما الذي أوصل هذا الرجل لهذا العبد الضعيف؟ سأفهم في غمرة الحديث أنه اتصل من خلال «الماسنجر» الخاص بصفحة «الأيام24» على الفايسبوك. قال إن ابنته تعرضت للقصف وبترت ساقها، وكانت أختها قبلها جريحة، والأسرة تعاني الجوع، وأنه لم يعد يعرف ما يفعل وهو تائه في العراء كالمجنون، أو على الأقل هذا ما استطعت ترجمته من كلماته التي لا يمكن لأي كتابة أن تنقل كل قوتها وقسوتها.
ماذا كان يطلب هذا الرجل الذي بحث في هاتفه هناك على بعد أكثر من أربعة آلاف كلم ليستنجد بجريدة في المغرب الأقصى؟ كان يطلب مجرد نشر نداء عبر الإعلام، عسى أن يجد يداً تخفف عنه هذه المأساة التي ستدخل إلى التاريخ كواحدة من أبشع الحروب ضد الإنسان. هو أمل ضعيف نظرا للصعوبات اللوجيستية والعملية وللحصار، ولكنه بالنسبة لهذا الرجل أمل وسط الجحيم.
نشرنا النداء، وها أنا أنقل صدى هذا الغزي الذي قال كلمات طيبة في حق المغرب والمغاربة وعلاقتهم بفلسطين، ومهما يكن من أمره، فهو واحد فقط من مليونين ونيف من الغزيين والغزيات الذين حوصروا مرّة أخرى، وهذه المرة أسوأ من كل سابقاتها. فقد سدت عليهم كل الأبواب، ولا حبة دواء ولا بنزين ولا ماء، والمخابز القليلة أغلقت أبوابها والمستشفيات خرجت عن الخدمة والإسعاف يُقْصَف والجثامين تنقل عبر الدواب، ورائحة الموت إما جوعا وعطشا أو قصفا تملأ القطاع.
والأقسى، بل الأكثر بربرية هذه المرة هو أن تكون هذه الجولة من الحرب بلا أهداف تماما، فهل هي حرب للقضاء على حماس؟ هذه مزحة لأن قدرات التنظيم أصبحت في خبر كان، أم هي حرب لتهجير الناس؟ أم هي حرب لبناء «الريفييرا» كما قال دونالد ترامب على أنقاض أرض فلسطينية يريدون أن يرموا أبناءها كما ترمى الفضلات في القمامة؟
الصادم المؤلم أن كل هذه المبررات، على سرياليتها، فإنها ليست الحقيقة! هذه حرب لأسباب سياسية داخلية في إسرائيل! نعم، هي حرب يقودها نتنياهو لحماية نتنياهو.
لقد تم توقيع اتفاق لم تكتبه حماس، بل هو نص كتبته الإدارة الأمريكيّة وتفاوضت عليه لجنة الوساطة، وفيها واشنطن على عهد رئيسين وكذا قطر ومصر، وشمل الاتفاق 3 مراحل كان من المفروض أن تنتهي بإنهاء الحرب، ولكن، وبمجرد التوقيع خرج الوزير المتطرف بن غفير من الحكومة وهدد وزير الماليّة سموتريتش بنفس الشيء لولا أن نتنياهو وعده خيرا! والخير هو الخداع للعودة لإبادة الغزيين.
كان نتنياهو على موعد مع تقديم الميزانية، وهو بدون الأصوات الستة لبن غفير لن يستطيع تمرير هذه الميزانية، فكان أن نقض الاتفاق بعد تبادل جزئي للأسرى ولم يدخل المرحلة الثانية نهائيا من هذا الالتزام، بل خرج يقول «إننا لن نتفاوض إلا تحت النار» وبدأ قصفاً أعنف وحصاراً أقوى مع الترويج لمشاريع اتفاق جديدة هي ببساطة مشاريع ليس استسلام فقط ولكن استسلام ومغادرة!
هل تستقيم، مع ما يجري من جرائم هي اليوم ضد الإنسانية، العودة لنظرية تهور المقاومة وجدوى طوفان الأقصى وموازين القوى وخطر الإسلام السياسي وهلمّ مسكنات؟
أعتقد أن الأمر أصبح متجاوزا الآن، اللهم إلا من طرف من يريد أن يذكره التاريخ كشريك معنوي في الجرائم النتنياهية، وهي جرائم حركت حتى داخل إسرائيل ما لم يسبق أن تحرك، من هولها وجسامتها ولا إنسانيتها، وتناسلت العرائض من داخل الجيش التي وقعها احتياطيون ثم قدماء من الموساد فأكاديميون بالمئات، وكلهم يدعون لوقف الحرب، ناهيك عن ضخامة المظاهرات التي لم تهدأ لحد الآن بتل أبيب.
في إسرائيل، هناك آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين لم يحاكموا أبدا وهم في وضعية ما يسمونه بالسجن الإداري، وهذا بالمنطق هو اختطاف، وهم رهائن، وهناك أسرى أطفال قاصرون بسجون الاحتلال، وهناك جرائم دموية وقعت على مدى سبعين عاماً. وما جرى في طوفان الأقصى لا يساوي مجرد ضحايا يوم قصف واحد من أيام الاعتداء على المحاصرين في غزة اليوم، ورغم كل هذا يجد الصهاينة في كل مكان الحجج ليدافعوا بها عن هذه البربرية والعنجهية المقيتة.
المكالمة التي أنهيتها مع مفجوعنا من غزّة جعلتني أشعر بنوع من العجز لم أعرفه من قبل. لقد فتحت عيني في بلدي الذي تجري حروف حب الانتماء له في عروقي، وفتحت عيني أيضا على القضية الفلسطينية كقضية وطنية، في الحي، على صفحات الجرائد، على أمواج الإذاعة، في نقاشات الأهل، في الأناشيد، في المدرسة، في الملاعب، في المدرّجات، في المهرجانات الخطابية، في الأفلام، في الملصقات، في الوعي، في الضمير وفي القلب…
ولكن لم يسبق أن تملَّكني مثل إحساس اليوم، وهذا الألم الصادق لا يمكن بأي جزيئ من الذرة أن يجعلني أكفر بهذه القضية الإنسانية العادلة، والتي ظلت جزءا من هذا الانتماء من الطفولة إلى كهولتنا أو شيخوختنا اليوم.
حتى في الكبوات يكون هناك شرف، هناك شموخ الحزن وسمو عدم الاستسلام خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بالوطن، وهذا يتطلب تضحيات يؤديها الآن ثمنا باهظا إخواننا في غزّة، فهل هو كاف كلامنا ومقالاتنا وتدويناتنا واحتجاجاتنا وصراخنا وكوفياتنا على الأكتاف والهتاف؟
بالطبع لا، ولكن، هل لأن هذه النصرة بالقلب واللسان غير كافية، يجب أن نطأطئ الرأس للحكومة الصهيونية المتطرفة، ونمد اليد لها ونلوم الضحية وننعت إخواننا هناك ب «فلسطيز» ونتنصل من جزء من هويتنا وجزء من إنسانيتنا وهذا أكبر وأخطر؟!
لكل هذا، أرى أن المسيرتين اللتين احتضنتهما الرباط لأحدين متتاليين كانتا بلسما على الجرح بغض النظر عمّن دعا إليهما. الناس في العالم بأسره خرجوا ويخرجون للتنديد بجرائم الإبادة، في الجامعات الأمريكية، في أوربا، في آسيا، وفي إسرائيل نفسها.
ونحن عندما نلتقي في شارع محمد الخامس بكل التوجهات والمشارب نستقوي على عجزنا الفردي بتضامننا الجماعي، نحاول أن نقول لأنفسنا أننا ننتمي للإنسانية وهي فوق الإيديولوجيات، وأنك إذا لم تكن إنسانيا فلا يمكن أن تكون وطنيا، قد نختلف من أجل الوطن ولكن لا يجب أن نختلف حول الوطن وحول فلسطين والسلام.