محمد بلخشاف باحث في القانون العام والقانون الدستوي
عرف المغرب مع دستور 2011 تحولات سياسية ودستورية عميقة، سعت في جوهرها إلى تعزيز مكانة المؤسسات التمثيلية وتكريس مبدأ فصل السلط وتوازنها، وترسيخ الخيار الديمقراطي كثابت رابع من ثوابت الأمة، وقد منحت هذه الوثيقة الدستورية لسنة 2011 مكانة جديدة لمؤسسة رئيس الحكومة، باعتبارها تجسيدا للإرادة الشعبية المنبثقة عن الاقتراع العام المباشر، ومؤهلة لقيادة العمل الحكومي في مختلف القضايا الاستراتيجية.
وفي سياق الاستعداد للانتخابات التشريعية المقبلة لسنة 2026، انطلقت المشاورات مع الأحزاب السياسية من أجل تعديل القوانين الانتخابية، برئاسة وزير الداخلية، حيث عقد اجتماع رسمي مع قيادات وممثلي الأحزاب السياسية، الأمر الذي أثار نقاشا سياسيا واسعا، وطرح إشكالات دستورية جديدة، خاصة وأن رئاسة هذا الاجتماع أسندت إلى وزير الداخلية بدل رئيس الحكومة، على خلاف ما جرى به العمل في محطات انتخابية سابقة مثل 2016 و2021، حيث ترأس عبد الإله بنكيران اجتماعات المشاورات الانتخابية لسنة 2016، وترأس سعد الدين العثماني المشاورات الانتخابية لسنة 2021، وقد قرأ كثيرون هذا التغيير من زاوية "شخصية"، معتبرين أن غياب رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش عن رئاسة الاجتماع مؤشر على تراجع مكانته، بل ذهب البعض إلى اعتباره إشارة على نهاية حزبه سياسيا، هذه القراءة صحيحة نسبيا نظرا لفشل حكومة أخنوش في تحقيق وعودها، وضعف تواصله السياسي منذ توليه رئاسة الحكومة، ووقوعه في شبهة تضارب المصالح، لكن تهمل الإشكالية الحقيقية التي يطرحها الحدث، والمتمثلة في موقع مؤسسة رئيس الحكومة في النظام الدستوري المغربي ومدى احترام الاختصاصات التي خولها لها دستور 2011.
هذه الواقعة تطرح أمامنا إشكالية مهمة: إلى أي حد يعد تخلي رئيس الحكومة الحالي على اختصاصه في رئاسة المشاورات الانتخابية لصالح وزير الداخلية تراجعا عن روح دستور 2011 ومكتسباته؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة:
ما هو الإطار الدستوري لصلاحيات رئيس الحكومة في تدبير العملية الانتخابية؟ كيف قاربت التجارب الحكومية السابقة في المغرب هذه المشاورات؟ وما هي الدلالات السياسية العميقة لهذا التغيير، خاصة في سياق العلاقة بين المؤسسات الدستورية في المغرب؟
وهو ما سنحاول الإجابة عليه من زاوية دستورية وسياسية:
من منظور دستوري، يعد ترؤس رئيس الحكومة لمثل هذه المشاورات ضمن صلاحياته الجوهرية، حيث ينص الفصل 47 من دستور 2011 في فقرته الأولى على أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها، وهو تكريس لمبدأ الشرعية الانتخابية، وينص الفصل 90 على أن رئيس الحكومة يمارس السلطة التنظيمية، بينما ينص الفصل 92 على أن مجلس الحكومة يتداول، تحت رئاسة رئيس الحكومة، في مشاريع القوانين، بما في ذلك مشاريع القوانين المتعلقة بالانتخابات، وعليه، فإن المشاورات حول القوانين الانتخابية تندرج ضمن الإطار السياسي والمؤسساتي الذي يتولاه رئيس الحكومة، في حين تبقى وزارة الداخلية مسؤولة عن الجوانب التقنية والتنظيمية.
وهذا التوجه هو الذي أكدته التجربة بعد دستور 2011، ففي سنة 2016 ترأس عبد الإله بنكيران اجتماعات المشاورات الانتخابية، وفي سنة 2021 قام سعد الدين العثماني بالمثل، وقد تم ذلك في سياق تعاون وتنسيق مع وزارة الداخلية، بما يحقق التوازن بين الدور السياسي لمؤسسة رئيس الحكومة والدور التقني لوزارة الداخلية.
وفي هذا السياق خرج مؤخرا عبد الاله بنكيران الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية في لقاء مع شبيبة الحزب، وحكى واقعة عندما كان رئيس للحكومة، حيث "قال بأن وزير الداخلية سنة 2016 كان يريد ترأس الاجتماع الأول للمشاورات الانتخابية، وتوجه بنكيران للملك آنذاك وعبر له على أن هذا اختصاص حصري لرئيس الحكومة وفق مقتضيات الدستور، وهو ما تفاعل معه بشكل إيجابي جلالة الملك وأكد له على أنه هو من سيقوم بترأس هذا الاجتماع"، من خلال هذه الواقعة يتبن لنا على أن رئيس الحكومة آنذاك عبد الاله بنكيران دافع عن اختصاص من اختصاصاته الدستورية، ولم يسمح بالتراجع عن المكتسبات التي حققها المغرب في هذا الإطار، بينما رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش خرج في حوار صحفي وعبر عن ارتياحه بعدم ترأسه لهذا الاجتماع، في محاولة منه للتجاوب مع ما طرح من تساؤلات حول غيابه عن الحدث، وهذا يفسر درجة الوعي الدستوري عند عزيز أخنوش، ويفسر لنا كباحثين على أن الأشخاص الذين لا يملكون مرجعية سياسية واضحة، ووعي دستوري وحقوقي في مستوى تطلعات المغاربة لا يصلحون لمثل هذه المناصب.
في واقعة الحال، يمكن تفسير إسناد رئاسة الاجتماع لوزير الداخلية بعدة عوامل، منها الطبيعة التاريخية لوزارة الداخلية كفاعل محوري في تنظيم وتدبير مجمل العملية الانتخابية، لكن هذا التبرير، مهما كانت وجاهته، يثير نقاشا حول ضرورة حضور رئيس الحكومة، على الأقل رمزيا، حفاظا على المكتسبات التي جاء بها دستور 2011.
إن التحليل السياسي لهذه الواقعة لا يتعلق بتقييم شخص رئيس الحكومة الحالي أو حصيلة عمله، فهو يتعلق بمدى احترام الممارسة السياسية للنص الدستوري وروحه وفلسفته، فتراجع حضور رئيس الحكومة في قضايا كبرى، مثل الاشراف السياسي على الانتخابات من خلال باب المشاورات الانتخابية مع الأحزاب السياسية، قد يفهم كمؤشر على ضعف تفعيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بموقعه وصلاحياته، مما يستدعي التنبيه من طرف الباحثين والمهتمين بالشأن الدستوري إلى أهمية الحفاظ على التوازن بين المؤسسات، بعيدا عن الاعتبارات الظرفية أو الحزبية.
إن الدفاع عن مؤسسة رئيس الحكومة، في هذا السياق، هو دفاع عن الاختيار الديمقراطي كمبدأ دستوري ثابت، وعن ضرورة احترام آليات توزيع الاختصاصات بين المؤسسات بما يضمن وضوح المسؤوليات أمام المواطنين، وهي فرصة لإعادة فتح النقاش حول تفعيل الدستور وتطوير الممارسة السياسية بما يحافظ على المكتسبات ويعزز الثقة في المؤسسات المنتخبة، والرهان في النهاية ليس على أسماء الأشخاص أو الأحزاب، فالرهان على متانة البنية الدستورية وقدرتها على الصمود أمام التحولات والسياقات المختلفة.