لم تكن لازمة "هاتوا المغرب " عبارة تشجيع جديدة في مدرجات بعض ملاعب البطولة العربية، لكنها تحولت، إلى تعبير ساخر ومكثف عن انزلاق خطير في منسوب الروح الرياضية التي يفترض أن تشكل جوهر أي تظاهرة عربية جامعة، ما قد يختزل المنافسة في منطق الاستفزاز، ويقلب فكرة الأخوة العربية التي على ما يبدو يريد لها البعض أن تتبخر أمام زيف التعصب وضيق الأفق. وإذ كان من المفترض بداية أن تكون البطولة العربية فضاء للتلاقي والتلاقح، للاختلاف النبيل، وللتحلي المتبادل بالروح الرياضية، بدل أن تتحول لساحة وغى ولتبادل النعرات اللفظية والعنصرية التي تسيء قبل كل شيء إلى مستهلكيها رغم أن حدة التنافس دائما ما تكون مطلوبة بل محمودة، لكن دون أن تكون مشحونة في المقابل بدلالة التحقير والتصغير من الخصم، وكأن المغرب منتخب درجة أخيرة سهل المنال، أو مجرد محطة عبور لا تستحق من غريمه الوقوف. غير أن كرة القدم، كما علمتنا دائما، تمشي دوما بمنطقها المعاكس، فلا تعترف بالهتافات بقدر ما تنحاز لمن يؤمن بأن الملعب هو الحكم الوحيد والكرة سيدة الميدان. وحده الميدان بالأمس كان كفيلا بتفكيك هذا الخطاب المسيء، فبينما انشغلت بعض الجماهير بالضجيج أو السباب، كان المنتخب المغربي، بفريقه الرديف الثالث، يشتغل بهدوء، ويؤسس لإنجاز كروي جديد في صمت، يقوم على الانضباط، والروح الجماعية، والنزال الشريف حتى آخر دقيقة من عمر مباراة النهائي في نهاية الشوطين الإضافيين، وفي تجل حر لمنتخب لا يمثل الصف الأول للكرة المغربية، ولا يضم نجوم المنتخب الوطني الأول، بل ضم كتيبة مهاجمة مراوغة ومدافعة شابة، أقل خبرة وأقل شهرة ربما، لكنها أكثر إيمانا بأن الميدان سيد النزال وبأن القميص الوطني يستحق التضحية. لكن في المقابل، نعلم بأن المنتخبات العربية الكبرى في هذه النسخة قد لعبت بفرقها الأولى أو شبه الأولى مثال: السعودية، الإمارات، الأردن، سوريا، فلسطين، العراق، جزر القمر... بأسماء دخلت المنافسة بكل ثقلها الكروي، وبنجومها، وبخبرتها، لكنها اصطدمت في النهاية بحقيقة بسيطة: كرة القدم لا تُحسم بالأسماء ولا بالهتافات، لكنها تدار بمنطق النزال الشريف وبالمقاومة والإصرار داخل المستطيل الأخضر. هنا بالضبط تكتسب عبارة "الميدان احميدان" التي أبدعتها الجماهير المغربية معناها العميق، كعبارة "سير سير"، التي زلزلت مونديال قطر الماضي، والتي يمكن اعتبارها تلخيصا فلسفيا لموقف حضاري قوامه: دعوا الكلام جانبا، واتركوا الحكم للملعب. فهذه العبارة الجديدة التي هي امتداد لتاريخ أيقونات تشجيعية سبقتها، تختصر تقليدا مغربيا راسخا في التعامل مع الاستفزاز بالتسامي الأخلاقي، وبالإبداع الجماهيري، وبالرد العملي لا السب اللفظي، لأن الجماهير المغربية لم تنجر في هذه المرة إلى معارك كلامية هامشية، ولم تجعل من المدرجات فضاءً للشتائم المتبادلة، لكنها أبانت عن نضج جماهيري عال ظلت من خلاله، وفية لأسلوبها التاريخي: تشجيع، هتاف، دعم، ثم انتظار كلمة الفصل من اللاعبين فوق العشب الأخضر. لكن لحظة التتويج كانت مغايرة تماما، حين تسلم الكأس منتخبنا المتوج، والذي كان جوابا عمليا على كل تلك الهتافات. الكأس جاء ليقول إن الاحترام يفرض بالعمل، وإن من يستهين بخصمه غالبا ما يدفع ثمن غروره. جاء ليذكر أيضا، بأن المغرب، حتى حين يشارك بفريق رديف ثالث، يملك عمقا كرويا، وثقافة لعب، وروحا تنافسية عالية تجعله قادرا على مقارعة المنتخبات الأولى، بل والتفوق عليها لم لا. وهذا في حد ذاته درس بليغ للكرة العربية وأن الاستثمار الحقيقي ليس في النجومية فقط، لكن في البناء القاعدي، وفي العمل على تغيير العقليات، وفي جعل القميص الوطني قيمة أخلاقية راسخة قبل أن يكون رمزا رياضيا جامعا. شكل المنتخب المغربي في هذه البطولة نموذجا رائدا في التواضع والانضباط، حيث لعب بروح رياضية عالية، دون ادعاء، ودون انجرار إلى الاستفزازات، وكأنه يقول للعالم العربي: لسنا هنا لإثبات شيء بالكلام، بل لنكتب حكايتنا بصبيب العرق وتمرير الانتصارات. وهذا ما يمنح الإنجاز المغربي قيمته المضافة لأنه تحقق في مناخ لم يكن دائما نزيها جماهيريا، ومع ذلك حافظ اللاعبون على تركيزهم، وعلى أخلاقهم، وعلى احترامهم للخصم. من هنا، فإن المنتخب الوطني المغربي يستحق منا جميعا وقفة احترام وتقدير تليق به، وإشادة بمسار متفرد وباختيار أخلاقي سام، لأنه أظهر ذلك الوجه المشرق لكرة القدم: وجه التنافس الشريف، والعمل الدؤوب دون ضجيج، وفنون الرد في المكان الوحيد الذي يستحق الرد: الميدان. أما والهتافات الصبيانية، فمصيرها الزوال، لأنها بلا رصيد، بينما الإنجاز يبقى، لأنه خالد في سجل التاريخ، ومحفور في ذاكرة الشعوب بمداد من فخر. وأن التاريخ سيتذكر فقط من حمل الكأس، والكأس، في هذه النسخة، اختار أن يحمله المغرب، لأن الجماهير هتفت أكثر، ولأن اللاعبين لعبوا بشكل أفضل، ولأن الطاقم التدريبي اشتغل بشكل أكبر، هكذا، مرة أخرى، انتصر الميدان على العبث، وانتصر العمل على الاستفزاز، وانتصر المغرب، هكذا حق لنا أن نرد برد كافكاوي ساخر: هاتوا الكأس للمغرب.