لم يعد الجدل الدائر في فرنسا حول تقنين وصول القاصرين إلى شبكات التواصل الاجتماعي نقاشاً أخلاقياً أو تربوياً فحسب، بل تحوّل إلى معركة سياسية صريحة تمس جوهر السيادة الوطنية وحدود سلطة الدولة في مواجهة عمالقة التكنولوجيا. فحين يتلقى رئيس الجمهورية رسالة من أحد الرؤساء الأفارقة يستفسر فيها، بقلق بالغ، عن "انقلاب عسكري في فرنسا"، بسبب فيديو مفبرك انتشر على فيسبوك، فإن الأمر يتجاوز مجرد حادث تضليل رقمي عابر. نحن أمام خلل عميق في منظومة الإعلام الرقمي، حيث باتت المنصات الاجتماعية قادرة على زعزعة الاستقرار الرمزي والسياسي لدول، بما فيها قوى كبرى مثل فرنسا. الفيديو، الذي حصد 20 مليون مشاهدة خلال 48 ساعة، قدّم انقلاباً عسكرياً وهمياً في قالب إعلامي محترف، قناة إخبارية مزيفة، بث مباشر، صحافية تحمل ميكروفوناً يحمل شعاراً مقنعاً، وخطاباً يوحي بالمصداقية. ورغم تدخل الرئيس الفرنسي شخصياً لدى شركة "ميتا" لسحب المحتوى، جاء الرد بارداً وصادماً: "هذا المحتوى لا يخالف قواعد الاستخدام". هكذا، وبلغة الوقائع، قالت المنصة الأمريكية لرئيس دولة ذات سيادة إن قرارها يعلو على طلبه. هذه الحادثة تختصر جوهر المعضلة: من يحكم الفضاء الرقمي؟ الدولة أم المنصة؟ من خطاب الحماية إلى منطق السلطة في هذا السياق، أعاد الرئيس إيمانويل ماكرون طرح مشروعه لتقنين شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصاً في ما يتعلق بوصول القاصرين. لكنه لم يفعل ذلك من زاوية حماية الطفولة فقط، بل من موقع سياسي يدرك أن الدولة تفقد تدريجياً قدرتها على التحكم في الفضاء العمومي، الذي لم يعد ساحة وطنية بل مجالاً رقمياً عابراً للحدود. ماكرون يدفع اليوم نحو تحديد سن أدنى لاستخدام هذه المنصات، تتراوح بين 15 و16 عاماً، مع التلويح بإجراءات وطنية صارمة في حال فشل الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى موقف موحد. هذا التوجه يعكس إدراكاً متزايداً لدى السلطة الفرنسية بأن التنظيم الذاتي للمنصات فشل، وأن "حرية السوق الرقمية" باتت تتعارض مع متطلبات الأمن الاجتماعي والسياسي. داخل الجمعية الوطنية، تتقدم النائبة لور ميلر، عن حزب "النهضة" الداعم للرئيس، بمشروع قانون يحظر استخدام الشبكات الاجتماعية على الأطفال دون 15 عاماً، ويقترح تقييد زمن الاستخدام للمراهقين. ويحظى النص بدعم واسع داخل الكتلة الوسطية، كما يحظى بتعاطف ضمني من أطراف سياسية أخرى، رغم تباين الدوافع. غير أن هذا التوافق الظاهري يخفي صراعاً أعمق. فاليسار يخشى أن تتحول الرقابة الرقمية إلى أداة للمساس بالحريات الفردية، فيما يرى اليمين أن الدولة تأخرت كثيراً في استعادة السيطرة على الفضاء الرقمي. أما اليمين المتطرف، فيوظف النقاش ضمن سرديته حول "تفكك المجتمع" و"تهديد الهوية"، دون تقديم حلول تقنية قابلة للتنفيذ. فرنسا ليست بلا أدوات قانونية. فقد أقرت سنة 2023 قانوناً يمنع فتح حسابات للأطفال دون 15 عاماً من دون موافقة الوالدين. غير أن هذا القانون كشف سريعاً حدود الدولة أمام شركات تكنولوجية تملك أدوات تقنية وقوة اقتصادية تفوق قدرة الحكومات على فرض الامتثال. فمن دون آليات فعالة للتحقق من السن، ومن دون تعاون حقيقي من المنصات، يبقى القانون إعلان نوايا أكثر منه أداة تنظيمية ناجعة. البعد الأوروبي: ضرورة سياسية لا خياراً تقنياً يدرك ماكرون أن أي تشريع وطني سيظل هشاً ما لم يُدعّم بإطار أوروبي موحد. لذلك يدفع بقوة داخل الاتحاد الأوروبي نحو اعتماد حد أدنى مشترك للسن، في مواجهة منصات تتعامل مع السوق الأوروبية كوحدة واحدة، بينما تواجهها الدول بتشريعات مجزأة. النموذج الأسترالي يبقى نموذجا يمكن اتباعه.فقد منعت سيدني ولوج القاصرين إلى شبكات التواصل الاجتماعي. البرلمان الأوروبي تبنى بالفعل قراراً غير ملزم يدعو إلى حظر استخدام الشبكات الاجتماعية لمن هم دون 16 عاماً، غير أن غياب الإلزام القانوني يعكس استمرار التردد الأوروبي في الدخول في مواجهة مباشرة مع عمالقة التكنولوجيا. في العمق، لا يتعلق هذا النقاش فقط بحماية الأطفال من الإدمان أو التنمر الرقمي، بل بسؤال سياسي مركزي: هل لا تزال الدولة قادرة على فرض قواعدها في فضاء لم تعد تسيطر عليه؟ وهل تملك الديمقراطيات الأوروبية الشجاعة السياسية لمواجهة شركات تكنولوجية باتت تتحكم في تدفق المعلومة، وصناعة الرأي، وحتى في استقرار الدول؟ تقنين وصول القاصرين إلى شبكات التواصل الاجتماعي هو اختبار حقيقي لسلطة الدولة في العصر الرقمي. فإذا فشلت فرنسا، ومعها أوروبا، في فرض قواعد واضحة وملزمة، فإنها ترسل رسالة خطيرة مفادها أن القرار السيادي لم يعد يصدر من البرلمانات، بل من مجالس إدارة في وادي السيليكون. المعركة إذن ليست تربوية فقط، بل معركة سيادة بامتياز. .