رغم كونه القطاع الأول المنتج للشغل، يواجه القطاع الفلاحي أزمة حقيقية تكشف هشاشته وعجز السياسات الحكومية عن دعمه وحمايته من التقلبات. الموسم الحالي، الذي شهد وفرة غير مسبوقة في إنتاج الزيتون، أفرز نقصاً حاداً في اليد العاملة وارتفاع تكلفتها، مما انعكس سلباً على بقية المنتجات الفلاحية وأسعارها في الأسواق. فرض الإنتاج الغزير للزيتون ضغطاً كبيراً على العمال خلال فترة الجني والمعاصر، ما أدى إلى استقطاب اليد العاملة من باقي الفروع الفلاحية. هذا التحول المفاجئ أفرغ بعض القطاعات من عمالها ورفع تكاليف الإنتاج، مسلطاً الضوء على اعتماد القطاع على العمل الموسمي غير المنظم وعدم قدرته على امتصاص الصدمات. إذا أرادت الحكومة فعلاً تقليص البطالة وتحقيق التزاماتها العشر، لكان من الممكن جعل قطاع زيت الزيتون وحده مشتلاً دائماً للشغل، كما فعلت دول الجوار مثل إسبانيا وإيطاليا وتونس. هذه الدول هيكلت القطاع ضمن تعاونيات ومؤسسات وطنية منظمة، مما مكّنها من استغلال الإنتاج على مدار السنة وخلق فرص عمل مستدامة. وقد أقر والي بنك المغرب خلال الندوة الصحفية الأخيرة أن قطاع الزيتون ساهم بوضوح في خفض التضخم، عبر استقرار العرض والأسعار مقارنة بمواد غذائية أخرى، مما يبرز أهميته الاقتصادية والاجتماعية في دعم القدرة الشرائية للمواطنين. لكن التدخلات الحكومية لم تكن موفقّة، بل أضرّت بالمنتجين المحليين. من أبرزها محاولة تخفيض رسوم استيراد العسل، والتي فشلت بعد كشف الجهات المستفيدة، ورفع كافة الرسوم على استيراد زيت الزيتون، ما أدى إلى إغراق السوق بالمنتوج المستورد في بداية موسم وطني وفير، مضراً بقيمة المنتوج المحلي وبأصحاب المعاصر. التثمين مطلوب اليوم، ولا يمكن استمرار تسويق هذه المادة الأساسية بطرق تقليدية لا تراعي السلامة الصحية. ولذلك، فإن إقامة تعاونيات تجميع متخصصة في التسويق والتخزين ستساعد في تحسين جودة المنتوج، وخلق فرص شغل دائمة، وتحقيق عوائد ضريبية مهمة، إضافة إلى استقرار الإنتاج. كما أن تحديث المعاصر وتقديم الدعم اللازم للفلاحين سيساهم بشكل مباشر في تحسين جودة زيت الزيتون، ويزيد من قدرته على التصدير إلى بعض الدول التي تجمعنا معها اتفاقيات تبادل تجاري، مثل الولاياتالمتحدة وكندا، مما يفتح أسواقاً جديدة ويعزز القيمة المضافة للمنتوج المحلي. بالإضافة إلى ذلك، فإن تخصيص جزء من الدعم المخصص للقطاع الفلاحي لتثمين وتسويق زيت الزيتون سيؤدي إلى أثر مباشر وواضح على خلق فرص الشغل، كما سيساهم في رفع قيمة الناتج الخام الفلاحي وتحقيق عوائد اقتصادية أكبر للقطاع والمزارعين على حد سواء. الظروف المناخية الحالية، من تساقطات مطرية وثلجية مهمة، تمنح الحكومة فرصة لتصحيح المسار قبل نهاية ولايتها، شرط التخلي عن السياسات المبنية على الاستيراد ومحاولات تخفيض الرسوم، والدفع نحو دعم المنتوج المحلي وتمكين الفلاحين من الاستقرار والاستثمار. أزمة الشغل في القطاع الفلاحي ليست مؤقتة، بل هي نتيجة مباشرة لغياب رؤية استراتيجية تجعل الفلاحة رافعة للتشغيل والتنمية. استمرار الاعتماد على التدبير الظرفي يحرم الاقتصاد الوطني من إمكانات هائلة يمكن للقطاع أن يوفرها، والزيتون، هذه الشجرة المباركة، ليس مجرد منتج غذائي، بل هو أداة اقتصادية واجتماعية يمكن أن تخفف من وطأة البطالة، وتعزز السيادة الغذائية، وتخلق فائض قيمة مهم، شريطة إرادة سياسية حقيقية واستراتيجية واضحة لدعم القطاع وتحويل وفرة الغلة إلى فرص دائمة ومستدامة.