"يقف سوق الشغل المغربي في عام 2025 على أعتاب مرحلة فارقة، حيث تتقاطع قرص استثمارية واعدة مع مخاطر بنيوية عميقة. ورغم المكاسب المحققة في بعض القطاعات، وعلى رأسها صناعة السيارات ومشاريع الاستعداد لاحتضان كأس العالم 2030، إلا أن النموذج الاقتصادي ما يزال أسير اعتماد مفرط على أوروبا والرهانات الظرفية…"، بهذه الكلمات تم تصدير التقرير الذي أصدره المركز الإفريقي للدراسات الإستراتيجية والرقمنة حول موضوع "سوق الشغل المغربي بين هشاشة الحاضر وفرص الغد" خلال نهاية شهر شتنبر الماضي. وقدم تقرير المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة تشخيصا لسوق الشغل بالمغرب خلص إلى بلوغ معدل البطالة نسبة 13.3% على المستوى الوطني (وتصل إلى 37% في صفوف الشباب و20% لدى النساء) وضعف المشاركة الاقتصادية، حيث لا يتعدى معدل النشاط 43% مع مشاركة نسائية بأقل من 18%، فضلا عن كون ثلثي الوظائف في القطاع غير المهيكل مع غياب حماية اجتماعية، وتفشي العمل الجزئي غير المرغوب فيه، ووجود هوة جغرافية تجعل الوظائف تتركز في الأقاليم الساحلية والمدن الكبرى، مقابل تهميش مناطق داخلية واسعة، ما يفاقم الهجرة الداخلية والضغط على المدن.
مواطن الهشاشة استعرض التقرير أيضا مواطن هشاشة سوق الشغل المغربي، من خلال وجود بعض الصناعات تحت رحمة السوق الأوروبية، ضاربا المثل بصناعة السيارات التي يتم توجيه أكثر من 80% منها إلى كل من فرنسا وإسبانيا، مع وجود تهديدات مباشرة تتمثل في سياسات إعادة التصنيع والتحول السريع نحو السيارات الكهربائية وضريبة الكربون الأوروبية، وضعف سلاسل القيمة المحلية التي تقلل من الفوائد الاقتصادية الحقيقية للتصنيع، فضلا عن كون قطاع الخدمات والسياحة مهدد بالهشاشة، لكون قطاع مراكز الاتصال يعتمد بنسبة 80% على السوق الفرنسية، ومعرض لخسائر جراء التشريعات الجديدة، فيما تم اعتبار الوظائف المرتبطة بتنظيم كأس العالم مجرد فقاعة قد تنفجر بعد الحدث ما لم توضع خطط لما بعد عام 2030 في ظل التحديات التي يواجهها سوق الشغل خاصة مع انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة التي قد تحل محل الوظائف الروتينية، مقابل ارتفاع الطلب على المهارات الإبداعية والتقنية، فيما سيشكل التحول البيئي خطرا على الفلاحة والسياحة الساحلية، مقابل فرص في الاقتصاد الأخضر لخلق نصف مليون وظيفة طويلة الأمد.
موقع المغرب في سوق الشغل العالمي
مع بروز المنافسة الإفريقية من خلال دول صاعدة مثل إثيوبيا وغانا في الصناعات الخفيفة، يحاول التقرير أن يرصد موقع المغرب في سوق الشغل العالمي، مشيرا إلى وجود فرص لوجستية لتصبح الموانئ المغربية منصات بديلة في سلاسل الإمداد العالمية، إذا تم الاستثمار في الرقمنة والبنية الذكية. ليتم التطرق إلى بعض السيناريوهات المستقبلية التي بإمكانها أن تساهم في تجنب الركود خاصة ما سماه التقرير "سيناريو الطفرة بدمج التحول الأخضر والرقمي مع إصلاح التعليم الذي يمكن أن يخلق مليون وظيفة عالية القيمة بحلول 2040″، و "سيناريو الأزمة الذي قد يستمر في الاعتماد على أوروبا والذي قد يؤدي لموجة بطالة تاريخية بعد 2030″، و"سيناريو وسطي يجمع بين نجاح جزئي في التنويع دون إصلاحات جذرية، مما يبقي الاقتصاد في حالة هشاشة مزمنة".
ومن أجل تفادي أسوأ السيناريوهات يقدم التقرير مجموعة من الإجراءات التي يُعتقد أنها ترمي إلى تمنيع سوق الشغل في المستقبل، وذلك بناء على تشخيص تم من خلاله التطرق إلى العلاقة بين أرباب العمل والعاملين، وكذا تدخلات الإطارات النقابية التي يرى أنها يجب أن تخضع لقانون التطور وتسمح ببروز ما تمت تسميته "نقابات 4.0" الذكية، التي تتفاعل مع الأتمتة، ليتم اقتراح خارطة طريق استراتيجية تجمع بين الإجراءات العاجلة لبناء المناعة والرؤية طويلة الأمد الصناعة المستقبل.
الطاقات المتجددة مهن المستقبل تنطلق هذه الخارطة من القطاع غير المهيكل الذي يشغل حوالي 36% من اليد العاملة ويساهم بحوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي، إذ يعاني العاملون في هذا القطاع من ضعف شديد في الحماية الاجتماعية، خاصة أن معظمهم يفتقر إلى التغطية الصحية والتقاعد، ويعملون في ظروف غير مستقرة.
كما أن فرص التطور المهني في هذا القطاع محدودة جدا، إذ لا تتوفر عادة فرص للترقية أو التمويل، مما يصعب إدماجهم في الاقتصاد المنظم، حيث يؤدي انتشار هذا القطاع إلى تقليل فعالية السياسات العمومية وزيادة هشاشة الاقتصاد الوطني، ما يجعل التحول الرقمي وسيلة استراتيجية لإعادة هيكلة سوق العمل وخلق فرص تشغيلية جديدة، خصوصًا في صفوف الشباب وخريجي الجامعات. بل وأيضًا في تحديث القطاعات التقليدية كالفلاحة والصناعة والخدمات من خلال إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي والحلول الرقمية.
ويمكن للتحول إلى استعمال مصادر الطاقة المتجددة أن يسهم في خفض الانبعاثات الكربونية، بل ويعد أيضا وسيلة فعالة لتقليص نسب البطالة، خاصة في ظل ما قد ينجم عن تخلي الدول عن الوقود الأحفوري من فقدان للوظائف التقليدية في هذا القطاع.
وعليه، فإن الاستثمار في الطاقة المتجددة لا يوفر فرص عمل مباشرة فحسب، بل يخلق أيضا فرصا غير مباشرة في سلاسل الإمداد، والخدمات والتقنيات الداعمة، حسب التقرير، الذي أكد على أنها "تسهم بشكل ملموس في خلق فرص عمل جديدة في العالم العربي، حيث شكلت في عام 2017 نحو 10% من إجمالي الوظائف في قطاع الطاقة، فيما يُتوقع زيادة هذه النسبة إلى أكثر من 15% بحلول عام 2030، مع تحول تدريجي نحو الطاقة الحيوية والطاقة الشمسية في مقابل تراجع الاعتماد على الطاقة الكهرومائية التي كانت تهيمن سابقا على القطاع"، مستدلا بذلك على أن المغرب، إلى جانب الإمارات ومصر، أحرز "تقدما ملحوظا في مجالات الطاقة الشمسية والرياح، فيما لا تزال دول أخرى تعتمد بشكل شبه كلي على النفط والغاز، مع غياب واضح لاستراتيجيات وطنية شاملة في الطاقة المتجددة.
كما أنه من المتوقع أن تبلغ وظائف قطاع الطاقات المتجددة بمجمل الدول العربية حوالي 1.2 مليون بحلول عام 2030، يرتقب أن تتوزع على: الطاقة الحيوية (584 ألف وظيفة)، والطاقة الشمسية (283 ألف وظيفة)، والطاقة الكهرومائية (266 ألف وظيفة)، وطاقة الرياح (90 ألف وظيفة)، ما يؤكد على أنها ستشكل حافزا أكبر لسوق العمل.
رؤية استشرافية
الرؤية الاستشرافية لسوق العمل بالمغرب ما بين 2050-2030، كانت حاضرة بقوة في تقرير المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة، حيث قام بوضع سيناريوهات يؤكد من خلالها أنها يمكن أن تساهم في تطور سوق العمل، حيث يفترض السيناريو الأول "نجاح الإصلاحات الحالية وتحقيق معدلات نمو مرتفعة تتراوح بين %4 و5% سنويا، مما يمكن من خلق 1.5 مليون فرصة عمل جديدة بحلول 2030 وخفض معدل البطالة إلى أقل من 8%، مع توقعات بأن تشهد القطاعات التكنولوجية والخدمات المتقدمة نموا استثنائيا، ويصبح المغرب مركزا إقليميا للتكنولوجيا والطاقات المتجددة.
أما السيناريو الثاني، فيفترض "تحقيق نمو اقتصادي متوسط يتراوح بين 3% و4% سنويا، مع نجاح جزئي للإصلاحات المطروحة في هذا السيناريو، كما سيتم خلق حوالي مليون فرصة عمل جديدة بحلول 2030 وانخفاض معدل البطالة إلى حوالي 9-10%، في حين يفترض السيناريو الثالث، وهو السيناريو المتشائم، استمرار التحديات الحالية وبطء وتيرة الإصلاحات، مما قد يؤدي إلى نمو اقتصادي ضعيف لا يتجاوز 2-3% سنويا. وفي هذا السيناريو، قد لا يتم تحقيق الأهداف المرجوة في مجال التشغيل، وقد تتفاقم مشكلة البطالة خاصة بين الشباب والخريجين.
توصيات استراتيجية لتعزيز سوق العمل بالمغرب
يقدم تقرير المركز الإفريقي مجموعة من التوصيات من أجل تعزيز سوق العمل بالمغرب، اعتبرها استراتيجية من أجل تجاوز الوضع الحالي.
تأتي على رأس هذه التوصيات المطالبة بتطوير منظومة التعليم والتكوين، وذلك من خلال العمل على إعادة هيكلة منظومة التعليم والتكوين المهني الأولوية الأولى لضمان نجاح التحول المنشود في سوق العمل المغربي، وهو ما يتطلب اعتماد مقاربة شمولية تبدأ من التعليم الأساسي وتمتد إلى التعليم العالي والتكوين المستمر في مجال التعليم الأساسي، كما يجب تعزيز تدريس العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات منذ المراحل المبكرة، مع إدماج البرمجة والتفكير الحاسوبي كمواد أساسية، فضلا عن تطوير مهارات اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية، لتمكين الطلاب من الوصول إلى المعرفة العالمية والتفاعل مع الأسواق الدولية.
التوصية الثانية تتمثل في الدعوة إلى تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بالنظر إلى ما تمثله هذه الشراكة من أدوار لنجاح استراتيجيات تطوير سوق العمل، مع تجاوزها للإطار التقليدي لتشمل التخطيط المشترك لاحتياجات المهارات المستقبلية وتطوير برامج التكوين والتأهيل، فيما ركزت التوصية الثالثة على تطوير البنية التحتية الرقمية ما سيساهم في تحسين بيئة الأعمال وتشجيع ريادة الأعمال، وخلق فرص عمل جديدة في مجالات تطوير وصيانة هذه المنصات.
التوصية الرابعة شددت على دعم ريادة الأعمال والابتكار، وذلك من أجل تسهيل الوصول إلى التمويل من خلال صناديق الاستثمار المتخصصة وبرامج الدعم الحكومي، وتوفير حاضنات ومسرعات أعمال متخصصة وتبسيط الإجراءات القانونية والإدارية لإنشاء الشركات، وتشجيع الابتكار في الشركات القائمة من خلال حوافز للبحث والتطوير، وتسهيل التعاون بين الشركات ومؤسسات البحث العلمي، وحماية الملكية الفكرية، هذا إلى جانب تعزيز الشمولية والعدالة الاجتماعية، كما نصت على ذلك التوصية الخامسة، وذلك من خلال جعل سوق العمل شاملا ومنصفا، وتستفيد منه جميع فئات المجتمع دون تمييز، ما يتطلب وضع سياسات خاصة لدعم الفئات الهشة والمهمشة، مثل النساء والشباب والسكان القرويين.
التوصية السادسة دعت صراحة إلى العمل على تطوير مدونة الشغل التي ما تزال تواجه عدة إشكالات تحد من فعاليتها في مواكبة التحولات التي يعرفها سوق العمل، وهو ما تم إبرازه في التقرير، من خلال ما سماه "الجمود التشريعي" بتفاوت تفسير النصوص وضعف آليات المراقبة. والعجز عن توفير تغطية كافية للفئات الهشة، خصوصاً العاملين في القطاع غير المهيكل أو في الاقتصاد غير الرسمي، مما يزيد من هشاشة التشغيل، حيث تم اقتراح توصية تقضي بضرورة "اعتماد دورة زمنية لمراجعة المدونة لا تتجاوز عشر سنوات مع إجراء تقييم مرحلي كل خمس سنوات. كما تم اقتراح إحداث مرصد وطني لسوق الشغل"، فيما دعت التوصية السابعة والأخيرة إلى تخصيص الأنشطة القطاعية حسب خصوصيات الجهات لتعزيز الإدماج المهني.