ارتقى إلى العلى عشرات آلاف الشهداء الفلسطينيين من قطاع غزة المدمى بالجراح والآلام منذ ماقبل العام 1948 وحتى بدايات العام 2010، شهداءٌ كثيرون ومتعددون، ليس فيهم شهيدٌ مغمور أو مجهول، وآخر علمٌ وقائدٌ ورمزُ، إنهم جميعاً شهداءٌ صغارٌ وكبار، رجالٌ ونساء، شبابٌ وأطفال، صبيةٌ ورضع، عسكريون ومدنيون، قادة وجنود، طلابٌ وموظفون، تلاميذٌ ومدرسون، منظمون وعامة، منهم من قضى نحبه شهيداً في ميادين المواجهة المسلحة مع العدو الصهيوني، أو في ساحات الاشتباكات اليومية خلال سنوات الانتفاضة الأولى والثانية، الذي لم يترك بيتاً إلا وأصابه بغدره وحقده، ومنهم من طالته يد الغدر الإسرائيلية فقتلته غيلةً بصواريخها، أو قذائف مدفعيتها، أو بواسطة رصاصات المستعربين الجبانة، أو بأيدي الخائنين لوطنهم، ومنهم من سقط شهيداً في المذابح الدموية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة إبان عدواني عام 1956 ويونيو 1967، وخلال حملات إعدام أسرى الحرب الذين وقعوا في أيديهم، أو سلموا أنفسهم لقوات الجيش الإسرائيلي بعد النداءات العديدة التي وجهها للسكان، فأوهمهم بالسلامة والأمان، ولكن الغدر الإسرائيلي كان أسبق وأبلغ، فقتلوا المئات من مدنيي قطاع غزة، وهم متجمعين في المدارس أو الساحات، وأمام أطفالهم وذويهم، وآخرون طالهم المستوطنون بغدرهم، ونالوا منهم على الشوارع والطرقات، أو في أماكن عملهم، أو داخل سياراتهم، وعشراتٌ آخرون من أبطال غزة قضوا في السجون والمعتقلات، بعيداً عن أهلهم وذويهم، في غربةٍ يزيد من قسوتها القضبان والأسلاك الشائكة، وآخرون أوكلوا قتلهم إلى وكلاءهم، الذين كانوا في عدوانهم على أهل غزة أشد وحشيةً ممن كلفهم بالمهمة، فقتلوا في السجون، وغدروا في الشوارع، وذبحوا في المساجد، هؤلاء جميعاً هم شهداء غزة، قتلوا برصاصٍ إسرائيلي واحد، وإن تعدد مطلقوا الرصاص فإن آمرهم كان واحداً ومازال . أما شهداء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة فهم شهداءٌ آخرون، قد انتقاهم الله سبحانه من بين الناس جميعاً، ليكونوا شهود حقٍ على معركة الفرقان، التي ميزت الخبيث من الطيب، وهم قد لا يختلفون عمن سبقوهم من الشهداء وقد لحقوا بهم، ولكنهم قضوا في حربٍ مجنونةٍ مسعورة، لم يعرف العرب مثل ضراوتها من قبل، فقد استخدمت إسرائيل في عدوانها على القطاع أسلحةً جديدة، وذخائر غير مجربةٍ من قبل في أي معركةٍ أو حرب، فقتلوا المئات بأسلحةٍ محرمةٍ دولية، وقنابل فسفوريةٍ حارقة، شوهت أكثر مما قتلت، وبترت أكثر مما شوهت، وخربت ودمرت وأحالت قطاع غزة كله إلى كتلةٍ من ركام، شهداء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة كانوا يسقطون بالمئات في اليوم الواحد، وبالعشرات من الأسرة الواحدة، فقتلوا الأب والأم، والابن والأخ، والجار والقريب، الصغير والكبير، الشيخ والرضيع، كلهم كانوا يسقطون بغارةٍ إسرائيليةٍ واحدة، توحد أشلاءهم، وتمزج دماءهم، في تحدٍ صارخٍ لقوانين الحرب الدولية، ومخالفةٍ واضحة لمختلف الأعراف الدولية، ومواثيق حقوق الإنسان وميثاق الأممالمتحدة، وبالرغم من سيل الدماء الجارف، وأعداد الشهداء الكبيرة، فإن أهل غزة قد عضوا على جرحهم، وصبروا على معاناتهم، وصمدوا أمام آلة الحرب الصهيونية التي لا ترحم . أيها الراحلون شهداءاً عن غزة قبل عام، ها قد مضيتم لتلحقوا بركب الشهداء، حيث الأنبياء والصديقين، لتنعموا في الجنة بالخيرات، فلا جوع ولا حرمان، ولا سجن ولا سجان، ولا حصار ولا قيود، ولا خصوم ولا أعداء، رحلتم أيها الشهداء، كباراً وصغاراً، ومازال قطاعكم الحبيب، وأهلكم المعذبين في غزة يئنون تحت الحصار، ويعانون من قيد الشقيق والعدو، فبيوتكم مازالت مهدمة، وجرحاكم مازلوا يبحثون عن الدواء والعلاج، ومدارسكم قد سويت بالتراب، ومساجدكم قد دمر العدو الإسرائيلي مآذنها، وخرب باحاتها، لم تعد ذكرياتكم قائمة، ولا بقايا بيوتكم عامرة، ألعاب الأطفال قد دفنت تحت التراب، وأقلام الرصاص وأقلام الرسوم الملونة قد كسرت، لا شئ مما تعرفون قد بقي على حاله، أهلكم من بعدكم قد نصبوا الخيام أمام بيوتهم، ولكنهم عقدوا العزم على أن يثبتوا على أرضهم، ولا يرحلوا عن تراب وطنهم، مهما بالغ العدو في قصفه، ومهما نالت قذائفه منهم، فلا رحيل عن الأرض، ولا تنازل عن الحق، وإنما ثباتٌ وصمودٌ ومقاومة، وهذا العدو يوماً إلى رحيل، ودولته زائلة لا محالة، وأبشركم أيها الشهداء العظام، أن أمهاتكم من بعدكم قد أنجبوا ذكوراً وإناثاً ما يفوق أضعاف من قد استشهدوا، كثيرون منهم قد حملوا أسماءكم، وقد عزم أهلوهم أن يكونوا على دربكم، وألا يحيدوا عن طريقكم . أيها الراحلون عن غزة قبل عام، رحلتم وكان بين ظهرانيكم الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، الذي من أجله شن العدو الصهيوني عدوانه على غزة، ودمر من أجله كل غزة، أطمئنكم أن الجندي الأسير مازال في قبضة أهلكم، وأنهم لن يفرطوا فيه ما بقي العدو يحتجز إخوانكم، وأن أسراكم قريباً سينعمون بالحرية، وسيلحقون بأهلهم، وستعود البسمة إلى شفاه أطفالهم، والفرحة إلى قلوب أمهاتهم، فإن كنتم قد رحلتم والحسرة تملأ قلوبكم أنكم لم تروا إخوانكم الأسرى أحراراً، فإننا نبشركم بأنهم قريباً سيحطمون أغلالهم، وسيكسرون قيدهم، وسيعودون إلى بيوتهم، وأن دماءكم الزكية لم تذهب هدراً، وأن العدو من بعدكم قد ازداد قهراً وغيظاً، وأهمس أيها الشهداء في آذانكم، بعد عامٍ على رحيلكم، أن غزة التي عرفت العزة بالمقاومة والسلاح، مازالت تمتلك القدرة والإرادة، وهي تعمل ليل نهار، لتحمي أبناءها بقوة السلاح، وشدة البأس، وأن ما وجده العدو في محاولاته لاقتحام غزة، سيجد ما هو أشد منه وأنكى إن عاد ليكرر عدوانه . أيها الراحلون عن غزة بعد عام من العدوان الإسرائيلي عن قطاعكم الحبيب، لن أكذب عليكم، ولن أجمل الحقيقة في أعينكم، ولن أقول لكم غير الصدق، فأهلكم في فلسطين مازلوا أشتاتاً متفرقين، الخصومة بينهم في إزدياد، والعداوة بينهم تتقد، وسجون بعضهم لبعضهم تتسع، ولا حرمة بينهم تحترم، ولا قيمة لديهم تقدس، قد عبث الخصوم بقضيتكم، وأفسد الجوار بعض أهلكم، فزادت فرقتهم، وتطاول عليهم العدو، ونال من طرفيهم، قتلاً واعتقالاً، ولكن أهلكم لم يدركوا أن العدو يفرح لفرقتهم، ويحزن لوحدتهم، ويعمل على شتاتهم، ويحول دون لقاءهم، فدماؤكم أيها الأطهار الأخيار لم توحد صف شعبكم، ولم تجمع كلمتهم، ولم تضع حداً لخصومتهم، وكما وعدتكم أن أكون معكم صادقاً فأطفالكم من بعدكم قد آلمهم غيابكم، وحز في نفوسهم أنكم قد غبتم عنهم، فلم تعودوا تربتوا على ظهورهم، وتمسحوا الدمعة من على عيونهم، وقد افتقدوا آباءهم الذين كانوا يجلبون لهم كسرة الخبز، وشربة الماء، فأطفالكم من بعدكم أيها الشهداء ما زالوا يعانون من الحرمان والجوع والحصار، وقد مضى على غيابكم عنهم عيدان مؤلمان، بما حملا معهما من ذكرياتٍ وأوجاع. شهداءُ غزة كالأعلام، نجوم تنير درب التائهين، ومناراتٌ يهتدي بها الباحثون عن سواء السبيل، يستظل بظلهم المجاهدون، ويسير على نهجهم المقاومون، على العهد يقسمون، وعن دربهم لا يحيدون، فهذا قسم ممزوجٌ بدم الشهداء، وممهور بأرواح المقاتلين، أن فلسطين ستبقى أمانةً في الأعناق، وسراً في القلوب، لا نفرط فيها ولو تعلقت الكلاب بأذيال أثوابنا، وأن ما استشهد عليه الأولون ماضٍ على إثره الآخرون، ولن تمضي أعوامٌ أخرى حتى نحقق أهدافنا، ونرفع أعلامنا، ونحرر قدسنا، ويرجع إلى فلسطين أهلها، ونعود كما أراد الله لنا أن نكون، أعزةً كراماً . دمشق في 4/1/2010