لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. قبل تفصيل القول، في الواقعة التي جمعت مولاي العربي الشابي الشتوكي، بالشهيد محمد الزرقطوني، في طريق عودتهما من آسفي، في أواسط سنة 1953، لا بد من الإشارة، إلى ملمح تعدد علاقاته وتشعبها اجتماعيا وسياسيا وعماليا، بالشكل الذي يطرح سؤالا معرفيا، تأمليا، حول السر الكامن وراء ذلك. أي، ما الذي جعل مولاي العربي الشابي، منخرطا بشغف كبير في تلك العلاقات المتشعبة؟ ما الذي جعله وفيا لها؟ ما الذي جعله متميزا، إنسانيا وعلائقيا، فيها؟. إن الجواب، عن هذا السؤال، هو الذي يقدم لنا صورة واضحة غير مشوشة عن شخصية الرجل، كما كانت، كما بقيت، حتى لقي ربه. بل، إنها تقدم أيضا الجواب، كيف أنه يكاد من القلائل الذي جمعته علاقات إنسانية، مع أسماء متنافرة سياسيا ومعرفيا ومصلحيا (مثلا، على قدر علاقته القوية جدا بعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي والمهدي بنبركة ومحمد منصور، على قدر علاقته القوية بالدكتور عبد الكريم الخطيب أيضا). إن السر كامن، في ما أتصور، تحليليا، في طبيعة شخصيته التي تشكلت عبر امتحانات حياة متراكبة وصعبة. أولها (وأكبرها)، اليتم باكرا وهو لما يزل طفلا، حيث فقد سقف الأمان الذي يمثله الأب. ثم، غربته الباكرة سنة 1929، عن العائلة والأهل، الأشبه بالإجتثات من الجدور، في سن 16 عاما، وركوبه المجهول بدون أي سند أو سقف أمان، حين هاجر مشيا على الأقدام صوب مراكش. وهي الرحلة التي تواصلت في دنيا الله، لسنوات طويلة في الجزائر وفرنسا، قبل أن يعود إلى الدارالبيضاء سنة 1952. بالتالي، فإن مولاي العربي، كان يرى في الآخرين، الذين يثق فيهم، عائلته الكبرى الموسعة. أي أن ما ظل يحكم علاقته بالآخرين، هي علاقة وجدانية، صوفية، مبنية على الوفاء، تحقق له امتلاء روحيا وراحة هائلة. من هنا، غنى علاقاته وتشعبها وعمقها وصدقيتها أيضا. وهنا يكمن السر، في أنه حين كان ينخرط في السؤال السياسي والسؤال الوطني وفي قرار المقاومة، كان ينخرط فيه بكل قواه، بلا فرامل، ولا حسابات تاكتيكية ذاتية، بل بيقين الإيمان الصوفي أنه يقوم بذلك ضمن عائلته. أي أن الرجل كان يعيش معنى الإنتماء، وهذه أعلى مراتب الإيمان بأية قضية. مثلا، حين وقعت عائلة الدكتور الخطيب في ورطة عدم تمكنها من نقل جثة رب العائلة، إلى مدينة الجديدة لدفنها هناك، بسبب أن السلطات الإستعمارية الفرنسية بالدارالبيضاء، لم تمنحها الترخيص بذلك، لم يجد الدكتور عبد الكريم، من رجل يقف إلى جانبه بحزم لتحقيق رغبة كل الأبناء في دفن والدهم بمقبرة العائلة بدكالة، غير مولاي العربي. الذي حمل الجثة مع الدكتور الخطيب، ونجح بليل، في أن ينسل بها عن أعين الشرطة الفرنسية ويوصلها إلى قبرها بالجديدة، إلى جوار قبور باقي أفراد العائلة الكبيرة هناك. هذا أمر لم تسنه قط عائلة الخطيب الكبيرة، بتشعباتها الوازنة، لمولاي العربي الشابي الشتوكي. بل، إن من أسرار تشبت رجل مثل الشهيد محمد الزرقطوني، ورجل دولة مثل عبد الرحيم بوعبيد، بمولاي العربي الشابي، كامنة، في أنهم كانوا يرون فيه دوما (بالتجريب) رجل المبادرة غير المتردد، وأيضا رجل الوفاء وكاتم الأسرار الثقة. هنا أفتح قوسا لأشير لمعطى دال، هو أن أغلب المعلومات التي جمعتها حول دور مولاي العربي في المقاومة والنضال الوطني وضمن الحركة الإتحادية في ما بعد، ليس مصدرها أبناؤه، رغم الأهمية الحاسمة لعدد من المعلومات التي جمعها حفيده مولاي حسن الشابي في هذا الباب (وهذا أمر لا يمكن إلا تسجيله بإكبار وتقدير من حفيد صوب جده، دليلا على أن الشجرة الطيبة تطرح دوما عروشا طيبة). بل، إنها معلومات جمعتها من سياقات متقاطعة من خارج العائلة، وتجمع شهادتا كل من كبرى بناته زينة الشابي الشتوكي وأصغر أبنائه مولاي يوسف الشابي الشتوكي، أن الجواب الدائم لوالدهما حين كانا يحاولان سؤاله عن معلومات المقاومة ودوره السياسي الوطني قبل الإستقلال وبعده، أنه كان يكتفي دوما بالجواب اللازمة : "لقد قمنا بالذي قمنا به في سبيل الله" ويصمت. لنعد لقصة آسفي، إذن، التي جمعته بالشهيد الزرقطوني. كان الشهيد قد طلب منه مرافقته في سيارته الستروين لنقل مسدسين إلى خلية، هناك، ربط الصلة بها بعاصمة عبدة، له مع عناصرها موعد منسق من قبل، بالساعة والمكان. لم يتردد مولاي العربي في ركوب سيارته ومرافقته. لكن، حين وصلا إلى آسفي، لم يجدا أي أحد في انتظارهما، فكان أن قررا العودة إلى الدارالبيضاء في ذات المساء، والليل قد بدأ يرخي سدوله. كان المسدسان مخبئان بعناية في خلفية المصابيح الأمامية للسيارة، كون سيارة مولاي العربي الستروين تراكسيون الضخمة تلك، كانت تتوفر على تجويف كبير لمصابيحها تلك، يسمح بوضعها هناك، بعد لفها في قطعة قماش رطبة لا تحدث أي احتكاك أو صوت مريب. لكنهما لم ينتبها أن واحدة من تجويفات تلك المصابيح، غير مغلقة بدقة، ما جعل ضوء المصباح حين تم إشعاله بليل في الطريق، يتجه نحو الأعلى وليس باتجاه الطريق. شاءت الظروف، أن يجدا دورية للدرك الفرنسي عند مدخل مدينة أزمور، بعد مدينة الجديدة، التي أوقفتهما وطلبت أوراق السيارة وهويتهما. بعد أن تأكد الدركيان، واحد واقف جهة مولاي العربي، والآخر جهة الشهيد الزرقطوني، من سلامة أوراقهما الثبوتية، نبها مولاي العربي أن له مشكلا في أحد المصابيح الأمامية، وعليه إصلاحه الآن. هذا يعني أنه عليهما فتح تجويف المصباح ذاك، ما جعل الزرقطوني ينظر إلى مولاي العربي، وبلغة العيون بينهما، كان القرار هو استعمال مسدساتهما الخاصة في الحالة القصوى، وأن يتكفل كل واحد منهما بالدركي الذي في جهته. غادر مولاي العربي السيارة، وقال للدركي الذي شرع يبحث عن مفك لفتح تجويف مصباح السيارة: - سيدي الدركي، هل تعرف كم تساوي هذه السيارة، وكم يساوي تجويف مصباحها الأمامي. أفضل أن لا يمسه أحد، لأنه في حال وقع مشكل سأظل منتظرا أسبوعين قبل أن يصل المصباح الجديد من باريس عبر مؤسسة قطع الغيار بالدارالبيضاء "فرانس أوطو". بالتالي، رجاء، أفضل أن ننام هنا جواركم فيها حتى الصباح، على أن أتسبب في مشكل أكبر سيعطل سيارتي ومصالحي لأسبوعين. أجابه الدركي: - معك حق، فهذه سيارة فخمة ونادرة. بكم اشتريتها؟ وأين بالضبط؟. قال له مولاي العربي: - اشتريتها بفرنسا، حين كنت أعمل بسانتيتيان. ولقد كلفتني مليون وخمسمئة فرنك. أجابه الدركي الثاني: - فعلا إنه نفس الثمن الذي اشتراها بها صديق لي بباريس. فجأة ظهر في أفق الطريق رجل بدوي يسوق عربة يجرها حصان، بدون أية علامة ضوء. فأعاد الدركي أوراق السيارة لمولاي العربي، وقال له وللشهيد الزرقطوني: - واصلا طريقكما، ها هو من سيدفع الذعيرة عنكما قد جاء. ضحكوا جميعهم، وركب مولاي العربي رفقة الزرقطوني وواصلا طريقهما صوب الدارالبيضاء، فأفلتا. مما تحكيه زينة الشابي، عن والدتها "مدام مولاي"، أنه ذات يوم من سنة 1953، قبل نفي الملك الوطني محمد الخامس، عاشت امتحانا رفقة زوجها، جعل الدم يتجمد في عروقها، حين كانت تتجول رفقة مولاي العربي وصغيرهما مولاي عبد القادر بوسط الحي الأروبي بالدارالبيضاء، حين لمح زوجها دورية شرطة تتحقق من هوية المواطنين المغاربة. ولأنه خشي أن يكون هو أيضا وزوجته موضوع ذات البحث والتحقيق، أخرج بسرعة واحتياط، من سترته مسدسا صغيرا، كان يحمله معه، ودسه بسرعة وراء ظهر صغيره مولاي عبد القادر الممدد داخل عربة أطفال رضع، تدفعها هي بيدها. وقبل العبور من أمام تلك الدورية، كانت "مدام مولاي" كما لو أنها تعبر الصراط، خوفا على صغيرها مولاي عبد القادر (الذي يقطن اليوم بمراكش). في صيف ذات السنة، كانت زينة الشابي، تلعب رفقة شقيقتها فاطم، وشقيقها لحسن رحمه الله (توفي في حادثة سير سنة 1969)، بكرة صغيرة بخلفية محل الجزارة بزنقة الرحامنة، بدرب السلطان الواقع أسفل بيت العائلة، حين اندست الكرة الصغيرة تلك تحت الثلاجة الكبيرة. فتمددت هي على الأرض لاستخراجها، فاكتشفت مسدسا مربوطا بلصاق قوي تحت تلك الثلاجة، أخبرت شقيقتها، وصعدا يجريان عند والدتهما "مدام مولاي" ليخبراها بما اكتشفتاه. لكن الأم، كانت صارمة في توصيتهما بعدم الكشف أبدا عن ذلك السر. حينها تقول زينة: "أدركت، دون أن يخبرني أحد بذلك، أن لوالدي علاقة بالفدائيين الذين كنا نسمع عنهم في داخلية مدرسة جسوس بالرباط وفي حينا بدرب السلطان". كانت تلك مسؤولية ثقيلة على طفلة في سنها. هي التي لم تعرف أبدا، حينها، أن لوالدها علاقة مباشرة بعدد من عمليات المقاومة المسلحة، إلى جانب من كانت تعتقدهم مجرد أصدقائه، الذين تناديهم "أعمامها" (الزرقطوني، منصور، دا بلعيد، بونعيلات، الماسي والصنهاجي)، مثل عملية تفجير جريدتي "الوداد" و "العزيمة" واستهداف مديريها المغاربة المتعاونين مع الإستعمار الفرنسي.