أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. الدليل الثالث على عدم تحمس السلطات الفرنسية للحدث هو أن رفضها منح التأشيرات لم يقتصر على الجزائريين وحدهم وإنما امتد إلى المغاربة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الأستاذ محمد شفيق عضو الأكاديمية الملكية المغربية، لم يتمكن من الحصول على تأشيرة من القنصلية الفرنسية بالرباط وقد ذكر لنا أحد أعضاء الوفد المغربي الذي قابله أنه أوصاهم بأن لا يثقوا بفرنسا. الدليل الرابع على غياب الدور الفرنسي في هذا المؤتمر هو غياب وسائل الإعلام عن متابعة أشغاله. وإذا صحت معلوماتي، فإن المطبوعة الفرنسية الوحيدة التي انتدبت موفدا عنها إلى عين المكان هي شهرية لوموند دبلوماتيك. تلك هي الأجواء والملابسات والظروف والشروط المرافقة لانعقاد المؤتمر الذي انتهى بإصدار بيان ختامي يجد القارئ نصه الكامل في مكان آخر. ولعل الفرصة تسنح لنا قريبا للوقوف بقدر من التعمق حول دلالات الحدث. رهاناته وارتهاناته والآفاق الخصبة التي يفتحها أمام المنطقة المغاربية، وما يرتبه أو يترتب عنه من مسؤوليات على كافة العاملين في الشؤون العامة. أما الآن فنريد أن نقدم نظرة وجيزة عن وقائعه. لقد استغرقت أعمال المؤتمر أربعة أيام (من ظهر الجمعة 1 إلى ظهر الإثنين 4 شتنبر 1995)، لكن المداولات الفعلية امتدت من مساء السبت إلى صبيحة الاثنين. انعقدت الجلسة الافتتاحية صباح يوم السبت واستمع خلالها الحاضرون إلى كلمة اللجنة التحضيرية وإلى قراءة بعض التقارير والبرقيات التضامنية وإلى مداخلات عدد من الأعضاء وتلاوة عدد من الكلمات الترحيبية. تم استؤنفت الجلسة العامة بعد الظهر، وأعلنت خلالها اللجنة التحضيرية استقالتها، وانسحبت من المنصة، فتكونت رئاسة للجلسة تحت إشراف الأستاذ مولود لوناسي أحد أعضاء اللجنة التحضيرية المسْتَقْبِلَة. تكونت الرئاسة الجديدة بعد مناقشات مستفيضة قدمت خلالها اقتراحات متعددة من بينها من يدعو إلى إبقاء اللجنة التحضيرية مستمرة في مهمتها ومنها من يرى ضرورة تطعيمها بعناصر جديدة، ومنها من يؤيد انتخابا بِرَفع الأيدي تصويتا على مرشحين يتقدمون من القاعة، وبعضها يرى ضرورة مراعاة تمثيل البلدان أو التنظيمات، وغيرها يقول إنه لا داعي لذلك كله إلخ... إلا أن أهم ما برز خلال جلستي الصباح والمساء في يوم السبت 2 شتنبر، بجانب المداولات التنظيمية الشكلية، هو تقديم اقتراحين : واحد من طرف الموفد المغربي، يقترح عقد المؤتمر القادم في المغرب واقترح منافس من وفد كناريا يدعو إلى اختيارها لنفس المهمة. وإذا كان الخطيب المغربي قدم اقتراحه، واكتفى بذلك التقديم، فإن مندوب كناريا أبرز حججا أثرت في الحاضرين، ويبدو أنها أقنعتهم في النهاية بدليل أن البيان الختامي أعلن عن اختيار جزر كناريا مكانا للمؤتمر في سنة 1996. وعلى الطريق، تجدر الإشارة إلى أن جزر كناريا كانت نجم هذا المؤتمر ويجد القارئ في مكان آخر حديثا موجزا مع مندوبيها يشرحان فيها تطور الأوضاع بها. في نهاية الجلسة الثانية مساء السبت، تكونت اللجان المختصة (لجنة التنظيم، لجنة الشؤون المالية والعلاقات الدولية، لجنة الشؤون الثقافية)، وعقدت عدة اجتماعات قدمت نتائجها إلى الجلسة العامة ليلة الأحد-الاثنين وانتهت المداولات بانتخاب مجلس فديرالي من 32 عضوا اختاروا من بينهم مكتبا من أحد عشر عضوا سيتولى خلال الشهور القادمة مسؤولية الإعداد للمؤتمر الأمازيغي المقبل بجزر كناريا. حديث مع الأستاذ إدريس السغروشني ما أظن كلمة ترددت في الأدبيات المكتوبة الصادرة خلال هذا الربع الأخير للقرن العشرين، أكثر من عبارة الهوية (بفتح الهاء). لا يقتصر استعمال هذا المصطلح على مجال من مجالات الإنتاج الفكري، و هو ليس محصورا في قطاع معين من قطاعات الحياة التي قد يتناولها هذا الكتاب أو ذاك، ولا هو مرتبط بنقطة محددة من مواضيع الخصومات الإيديولوجية الناشبة بين مختلف التيارات، ولكننا نصطدم به في كل المنعطفات، بل لا نكاد نقرأ نصا حول الثقافة أو السياسة أو التاريخ أو اللغة أو المجتمع أو الأمة، يخلو من هذه الكلمة، كلمة هوية، حتى ليخيل إلينا أنها أصبحت إشارة مرور عالمية، يفترض في الإنسان المعاصر أن يفهمها في الوهلة الأولى دون طرح أي تساؤل عن معناها و مبناها، إذا أراد أن يعيش بأمان وسلام من دون منغصات في رحاب نهاية هذا القرن الآفل. بالطبع، أسفر هذا التضخم في انتشار اللفظ عن تضخم مواز في اختلاط المعاني والتباسها، إلى درجة أن اللفظة صارت وعاء فضفاضا قد يمتلئ أو بالأحرى يملأ بالشيء ونقيضه، ثم أصبحت في كثير من الأحيان غطاء أو ستارا يتم استعماله على نطاق واسع جدا، لمجرد توفره في سوق المبادلات الرمزية، كما تستخدم أوراق النقود في الحياة اليومية. وكالعادة جاءت في ركاب هذا المصطلح مواكب من المفردات، أو جاء هو برفقتها، فتحول وتحولت معه، بفعل محلول كيماوي غريب، إلى مفاتيح سحرية تجنب من يتعاملون بها مشقة العناء أو الجهد الفكري المطلوب للنفاذ إلى لب الأشياء. إنني أقصد بالضبط كلمتي : «العلمية والموضوعية»، لكونهما مثل مصطلح الهوية من بين المفردات الرائجة في سوق المبادلات الرمزية، رواج بضاعة جاهزة للاستهلاك، لا تترتب عن استخدامها أية مسؤولية أو عاقبة. تزداد المسألة تعقيدا إذا أدركنا أن عناد الأفكار -على عكس مقولة لينين الشهيرة- لا يقل نجاعة وفعالية عن عناد الوقائع، بل قد يفوقه ويتفوق عليه. نعم! الأفكار، والأفكار الخاطئة بالضبط كثيرا ما تصمد أمام البراهين والأدلة الدامغة، نعم! كثيرا ما تتحطم الوقائع الصارخة بحقيقتها على صخور الأفكار والمعتقدات الجامدة، والمتكلسة، ما دام لم يتوفر نمط مختلف لتنظيم التجربة المعيشة. فمثلا نحن نجرب ونعاين في كل لحظة من لحظات حياتنا اليومية، عبر الحركات المبتذلة : حركة الأكل وحركة المشي وحركة الحب وحركة التفكير وحركة الغضب، وحركة النقمة وشعور التضامن ضد الضيم والظلم، نجرب ونعاين في كل هذه التجليات أن جميع ما نمارسه من الأفعال هو ذو طبيعة مركبة مزدوجة متعددة : بيولوجية، فطرية، غريزية، فردية واجتماعية. «ومع ذلك -يقول إدغار موران في الجزء الأول من كتابه المنهج المخصص لطبيعة الطبيعة- فقد ظل العلم الكلاسيكي ينكر حتى السنوات الأخيرة، ضد البداهة، وجود أي عواقب أو دلالات معرفية ناجمة عن هذه الحقيقة الدامغة، إن كل هيئة أو موضوع فيزيائي هو من إنتاج روح إنسانية». وإذا كان الأمر على هذا النحو بالنسبة للهيئة أو الموضوع، فهو كذلك بالطبع بالنسبة للأفكار والمفاهيم والتصورات، إنها مجرد مخلوقات أو كيانات ذهنية من إبداع هذه الروح الإنسانية التي يتحدث عنها إدغار موران. من هنا تنشأ ضرورة التعامل معها بكثير من التحفظ والاحتراز، والتفتح أيضا، نعم التفتح لكنه تفتح ينبغي أن يكون واعيا بارتهانات المسألة التي يعالجها. مرة أخرى لا أريد أن أشكك في كلمات مثل «الهوية» و«الموضوعية» و«العلمية» لا وكلا، و إنما أريد أو أحاول أن أتعامل معها بمقدار أو بحد أدنى من الفهم الواعي الذي لا يستسلم لها أو يسلم بها كوحي إلهي يتحتم علينا أن نذعن له بدون مناقشة. «إن ثمار المعرفة -والكلام مرة أخرى لإدغار موران- تبقى مقنعة ما دامت الأولوية المطلقة المعطاة فيها لتطابق الملاحظات مع التجربة، تبقى الوسيلة الحاسمة لتجنب الخلط بين الأحكام النابعة من إدراك واقعي للإشكالية المطروحة وبين الآراء التعسفية الصادرة عن أحكام سلطة». والمطلوب منا ونحن نعالج إشكالية الهوية إجمالا، وقضية الهوية الأمازيغية تحديدا، أن نحتفظ بحد كبير من «الموضوعية» و«العلمية»، لكن أيضا بدرجة قصوى من الصحو العقلي،لإدارة النقاش في هدوء، و«لإدماجه ضمن دائرة معرفية أعمق وأشمل تمنحه عينا ثالثة مفتوحة» على كل ما قد يحول العمى الإيديولوجي بيننا وبين إدراكه. بعبارة مختلفة، وهنا أستعير مرة أخرى فكرة من عالم الاجتماع الفرنسي، أستاذي وصديقي إدغار موران : «يجب أن يحاصر فكرنا اللامفكر فيه الذي يقوده ويتحكم فيه. نحن نستخدم بنية فكرنا لكي نفكر، ولا مناص لنا من أن نستخدم أيضا فكرنا لإعادة التفكير في بِنْيَتِنَا الفكرية». [على الطريق نذكر بأن هذه الوصية التي كتبها إدغار موران هي بالضبط ما نفذه الصديق محمد عابد الجابري منذ ربع قرن، فأعطانا ثلاثيته القيمة عن نقد العقل العربي. وقد صدرت كتابات المفكرين : المغربي والفرنسي في نفس الفترة دون أن يكون لأي واحد منهما تأثير على الآخر]. «نعم، يجب أن يعود عقلنا إلى نبعه في حركة تساؤلية نقدية بل انتقادية، وإلا فإن البنية الميتة سوف تمضي بدون توقف في إفراز أفكار محنطة». إن ما يملي علي هذه الأقوال هو شعور بالحرج والضيق، لازمني من كلمات سمعتها على لسان أكثر من مشارك جزائري ومغربي في المؤتمر التمهيدي الأمازيغي العالمي، الذي خصصت له الرسالة الأخيرة.. إنها : كلمات «الهوية»، «الموضوعية»، «العلمية» وأخواتها. قالوا لي جميعا : «تكلم بموضوعية وعلمية عن الهوية الأمازيغية»، وأعترف بأنني شعرت بضرب من الاعتزاز الشوفيني -السخيف بلا شك- حين لاحظت أن الوفد المغربي كان مؤلفا من أشخاص يتقنون اللغات الثلاث : العربية والأمازيغية والفرنسية، ولم يكن أعضاؤه يشعرون بأي حرج في استعمال أي واحد من الألسن الثلاثة في مداخلاتهم أمام اللجان أو في مناقشاتهم الهامشية. ولم تكن تلك هي حال الأعضاء الآخرين غير المغاربة، وقد وجدت نفسي أقول أكثر من مرة، يبقى المغرب نسيجا فريدا وحيدا، حتى ولو طرح عدد من رموز نخبته مسألة الثقافة الأمازيغية بهذه الطريقة المتطرفة التي يطرحونها بها اليوم.