أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. ويطلق اسم الأمازيغيين (ايمازيغن) أحيانا على مجموع سكان الأطلس المتوسط، تمييزا لهم عن الشلوح والريفيين. وقد نشر الملازم الأول شوين دراسة مهمة عن «الأمازيغن» بمطبوعة الاستخبارات الاستعمارية (المرجع جاك بيرك : المغرب بين حربين صفحة 117 إصدار دار لوسوي 1962). اسم هذه القبيلة «أيت مازيغ»، أصبح يطلق الآن على مجموع الأمازيغيين، تماما مثلما اتسع اسم الفخذ الأسطوري من أبناء يعرب، ليشمل العرب جميعا. والأستاذ إدريس السغروشني نموذج مثالي لهذا الاختلاط في النسب والثقافة، يرمز إلى ظاهرة أعم وأشمل هي انتشار الشرفاء الأدارسة في المغرب الأقصى عموما، وفي سلسلتي جبال الأطلس الكبير والأوسط خصوصا. إنها ظاهرة مغربية خالصة تجعل الحركة الأمازيغية تختلف تاريخيا في المغرب الأقصى عنها في المغرب الأوسط، ويعرف كاتب هذا المقال عددا من هذه العائلات الأمازيغية العربية أو العربية الأمازيغية الكثيرة في فاس ومكناس ومراكش، لا تزال لها جذورها في قمم الأطلس الشامخ، يحمل أبناؤها أسماء أمازيغية صرفة، حتى ليمكننا هنا أن نطلق عليهم «العرب المازغة أو أمازيغ العاربة» من دون مبالغة أو إسراف. «يكفينا مثلا -يقول الأستاذ إدريس السغروشني- أن نعود إلى كتاب الأستاذ الجليل عبد الله كنون : النبوغ المغربي في الأدب العربي، لنرى أن هناك شخصيات بربرية ساهمت فيه، وأنها حددت هويته وهويتها من خلال الحضارة العربية الإسلامية، ثم إننا نجد أن البلدان التي اعتنقت الإسلام تحدد هويتها به وفيه، لأن الإسلام يجب ما قبله. فالعرب مثلا تخلوا عن الحضارة التي أقاموها واندمجوا في إطار عربي إسلامي، ولا نعرف لهم حنينا يعود بهم إلى هذا الإطار القديم. بالطبع، هناك استثناء يمثله العرب المسيحيون الذين لم يعتنقوا الإسلام وظلوا خارجه، لكنهم لا يبحثون عن هوية خاصة بهم خارج الحضارة العربية، وهي بجوهرها حضارة إسلامية. لذلك، فالبحث عن هوية أخرى يطرح علينا مشكلة حقيقية، يجب أن نفصل بينها وبين إشكالية الحداثة مثلا. إن المجموعات والأجناس الإنسانية تتطور، لأن تراكم المعارف واقتناء الوسائل التكنولوجية المتقدمة تجعلان الناس يبدلون محيطهم، ونعرف أن تغير المحيط يطرح مراجعة بعض المبادئ وتكييفها لكي تتلاءم مع التحولات والمستجدات الطارئة على المجموعة الإنسانية، لكن ذلك لا يلزمنا البحث عن هوية أخرى. إن الأمم تتطور. ولكنها لا تفرط في أسس كياناتها ولا تتخلى عنها». وحين انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، وطرحنا على الأستاذ إدريس السغروشني سؤالا حول اللغة الأمازيغية، أجابنا قائلا : «لا نعرف ما كان مواتا وأصبح الناس يعملون على إحيائه. مرة ثانية، أريد أن أعود إلى كتاب النبوغ المغربي في الأدب العربي، فأجد أسماء أجروم واليوسي وآخرين كيف ننصف هؤلاء؟ هل سيتنكر لهم دعاة الأمازيغية لأنهم لم يكتبوا بهذه اللغة المندثرة، أم يستعملونهم حجة لتأييد فكرتهم، علما بأنهم كما ذكرت يطرحون أنفسهم في نطاق الحضارة العربية الإسلامية، وبالتالي يناقضون جوهر الدعوة الأمازيغية». «أنا لا أنكر وجود ثقافة أمازيغية. وجود هذه الثقافة أمر واضح، لأنها تعبر عن هموم وانشغالات قطاعات واسعة من الشعب المغربي. أما أن نقول إنها حضارة، فذلك يحتاج إلى دليل أكثر إقناعا من هذه الأدلة الملفقة التي يتحدثون عنها. نعم، توجد حقا ثقافة شعبية فيها آداب وأشعار وقصص وفنون غنائية، لكن المغربي فيما أحسب لا يرى أنها إطار حضاري يمكن أن يحدد هويته فيه. إنه يحدد هويته فيما هو وبما هو مكتوب، والمكتوب حتى الآن محصور باللغة العربية». ويمضي محدثنا في بسط آرائه حول قضية الثقافة الأمازيغية ليصل إلى مسألة اللغة، فيقول : «دعنا نتريث قليلا عند بعض المصطلحات الكثيرة التداول، لنأخذ مثلا كلمتي «تيفيناغ» والأمازيغية. «الأولى -تي-فيناغ- مركبة من سابقة هي تي أو ت، نجدها في بعض الأسماء العربية التي أخذت صيغة بربرية في المغرب الاقصى، خصوصا كتَنجَّارْت، تَبقَّالْت، تَحدَّادْت، أو تَتجَّارْت (النجارة، البقالة، الحدادة، التجارة).. أما «فيناغ» التالية، أي الملاصقة والمكملة لها، فهي تحويل لكلمة puniques، وتترجم عربيا بلفظ «البونيون»، وهم فينيقيون من أصول شامية، أي سامية، أقاموا في العصور القديمة مستوطنات تجارية بشواطئ إفريقيا الشمالية وأوروبا الجنوبية، وقامت لهم دولة في قرطاج. وكان الفينيقيون، كما نعرف من تاريخهم هم الذين اخترعوا أول أبجدية. كانوا يمارسون التجارة وقد اصطدموا مع الإمبراطورية الرومانية التي أجهزت عليهم بصورة نهائية. والأبجدية الفينيقية لا تختلف عن أبجديات الأمم السامية إلا في بعض التحويرات أو التحويلات الطفيفة. وتيفيناغ -ويمكن أن نسميها الفينيقية القديمة- بقيت منعزلة في الجنوب الشرقي الأقصى لشمال إفريقيا، أي في بلاد الطوارق الحالية على تخوم الجزائر ومالي والنيجر وليبيا، ولم تواكب التطور الذي عرفته أخواتها الساميات الأخريات، مثل السبئية والحميرية واللغات اليمنية البائدة التي يطلقون عليها اليوم لغات الجنوب العربي، ولا تزال تدرس بمدرسة اللغات الشرقية بباريس، ومنها الارامية والكنعانية والاكدية وأخيرا العبرية والعربية. كل هذه اللغات استعملت نفس الحروف، بتطويرات وتحويرات مختلفة، والمقارنة بين الخطوط المتبقية تجعلنا نستنتج بأن هذه اللغات تعود إلى جذر واحد، هو الأصل الفينيقي عامة، لاسيما وأن ما نعرفه حتى اليوم عن تاريخ المكتوب، يخبرنا بأن الفينيقيين هم الذين اخترعوا الكتابة، أو بالأحرى دونوا الحروف والأشكال الكتابية المتوفرة لدينا. وإذا كانت الهوية اللغوية المكتوبة التي يتحدثون عنها تقوم على هذا النوع من الخط، فإذن هي هوية سامية عتيقة وعريقة لا تخرج بنا عن الإطار العربي الإسلامي، الذي يشكل امتدادا طبيعيا للذهنية السامية. فما الذي يدعونا، والحالة هذه، لأن نهمل حرفا متطورا شكل، على امتداد 14 قرنا، وعاء للثقافة المغربية، بما فيها القطاع البربري، لنحيي خطا هيروغليفيا مندثرا ينتمي إلى نفس الجذر اللغوي السامي؟ نعم، هناك من يقول بأن «تيفيناغ» من أصل حامي سامي، ولكننا نستطيع أن نتصور بأن «الحامية-السامية» قد تكون في الواقع «شامية-سامية»، إذا تذكرنا بأن «حامية-سامية» هي ترجمة لكلمة «شميتو-سيمتيك»، المركبة من لفظتين، وبمعنى آخر، فإن حام قد تكون ترجمة محولة «لشام» التي كانت تطلق ولا تزال على بلاد سورية الكبرى. معنى هذا أننا أمام ذات الأصل الجغرافي والتاريخي والحضاري للظاهرة الأمازيغية، في جانبها اللغوي على الأقل». ونحن نعرف -يضيف الأستاذ إدريس السغروشني- أن فقهاء سوس كتبوا نصوصا وقدموا دروسا دينية بالبربرية. لقد ترجمت تلك النصوص ولم تكتب. ونعرف كذلك أن أغلبية الممالك المغربية الإسلامية، رغم أنها تحت قيادة البربر، فإنها عندما أرادت أن تنشر مبادئ الإسلام وتعاليمه وتضعها في متناول الجمهور الواسع، استعملت الخط العربي فيما ترجمته من نصوص لهذا الغرض. وقد نقل شيخ الموحدين المهدي بن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية التي حكمت المغربين الأوسط والأقصى، عدة أحزاب من القرآن الكريم إلى تاشلحيت، وألف كتابه الشهير «أعز ما يطلب» بها، (أي بتاشلحيت)، وكان غرضه من ذلك بث وتعميق أسس الهوية العربية الإسلامية بين الأوساط الشعبية التي لا تعرف العربية. وهذا أيضا ليس بالأمر الغريب. لقد اكتسبت شعوب متعددة هويتها الإسلامية العربية من خلال لهجاتها القومية. حقا إن حركات شعبوية ظهرت في بلاد الإسلام، خاصة خلال العصر العباسي، لكنها لم تتنكر للهوية العربية الإسلامية فيما أحسب».