أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. لكنني اكتشفت أيضا عبر حوارات أجريتها مع شبان مهاجرين، حضروا من مواطن الشتات المغاربي (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، هولندا وإسبانيا)، إنه من العبث مخاصمة الأفكار الجاهزة، إنه نقاش لا جدوى منه، لأن مثل هذه الأفكار تتناسل تلقائيا بلا انقطاع، وتنبع كالسيل الجارف من مبادئ ومنطلقات فكرية لاشعورية، موجودة في أغوار طبقات نفسية أثرية، مطمورة في ثنايا تكوينات جيولوجية، حتى لا أقول «جينيالوجية»، خارجة تماما عن وعي المتكلم أو المجادل. ولما اكتشفت أن لا جدوى، للنقاش أدركت في ذات الوقت الضرورة الملحة لفتح هذا الملف، وتلك مفارقة عساها بل أظن أنها سوف تتضح أكثر في الرسائل التالية. نعم! لقد خيل إلي أنه لا فائدة من الجدل بمعناه التقليدي في هذه القضية، أي ذلك التبادل الذي يقارع فيه المنطق الصوري منطقا صوريا آخر، فيقنعه، أي يقوده إلى تبني موقف نقيض لموقفه الأصلي، أو يفحمه فيسكته عبر تسفيه حججه وتسخيفها. ذلك موقف فات أوانه، لأنه «حين يعتقد الناس بوجود وضعية ما حقيقية، تكون لاعتقادهم هذا عواقب حقيقية»، بمعنى آخر، فالاعتقاد أكثر فاعلية ونجاعة من الواقع الحقيقي. وتوجد في بلاد المغربين الأوسط والأقصى وفي المهاجر المغاربية، أعداد متزايدة من المثقفين والأطر والكفاءات تعتقد بأن المسألة الأمازيغية هي قضية الساعة، وما هو جديد في الأمر وجدير بالاهتمام والمتابعة، هو أن هؤلاء المناضلين الأمازيغين بدأوا يجدون آذاناً صاغية لدى الأوساط الطلابية والنسائية وحتى عند الناس البسطاء. ومن واجب الصحفي، وهو المؤرخ اليومي بامتياز، أن يعكس الانشغالات والهموم الخاصة بمجتمعه، وذلك هو ما يدفعني إلى الاستمرار في معالجة هذا الموضوع. الأصداء التي وصلتني، بعد صدور الملف الخاص عن المؤتمر التمهيدي الأمازيغي العالمي (الاتحاد الاشتراكي عدد 13 شتنبر 1995)، جعلتني أستمر في هذه المغامرة الفكرية وأنا على يقين منذ الآن بأنني لن أرضي الجميع، لكنني واثق أيضا من ارتياح ضميري المهني الذي أملى علي هذا السلوك. بعض القراء وجدوا أنني لم أعط الموضوع ما يستوجبه من عناية تشفي غليلهم وظمأهم إلى معرفة المزيد من التفاصيل حول الحدث، حدث المؤتمر العالمي الأمازيغي عامة والقضية الأمازيغية خاصة، وآخرون رأوا أنني، بالعكس، بالغت وأسرفت في الكتابة عنه، وأنه لا يستحق أصلا هذا الاعتناء الفائق. وبين هؤلاء وأولئك طرف ثالث راح يصنفني بأنني أصبحت منظرا بربريا أمازيغيا. وجوابي على الصنف الأخير يوجد في المثل السائر : «ذلك شرف لا أدعيه وتهمة لا أنكرها». مرة أخرى، أستعير من أستاذي السابق الكبير إدغار موران قولته الحكيمة : «الأمل من الاكتفاء بالدحض وإنما لابد من إقامة أساس جديد هو وحده الكفيل بتقويض الأساس القديم. لذلك والكلام لا يزال لإدغار موران، فأنا أعتقد بأن المشكلة الحيوية إنما تكمن في المبدأ التنظيمي المنظم أو الناظم للمعرفة، وما هو حيوي اليوم ليس فقط أن نتعلم، وليس فحسب أن نتعلم مجددا، وليس حتى أن نتخلص مما تعلمنا، وإنما لا مناص من إعادة تنظيم نسقنا الذهني وترتيبه لكي نعلم، مرة أخرى كيف نتعلم» (إدغار موران، المنهج - الجزء الأول : طبيعة الطبيعة. إصدار دار لوسوي 1977، صفحة 21). وما دامت كلمة المنهج وردت وأنني سمعتها أكثر من مرة في المناقشات التي دارت على هامش المؤتمر، وتكرم البعض بنصيحتي لكي لا أحيد عن الفهم، فإني أريد أن أشير هنا إلى أنها تعني النهج، أي الطريق في اللغة العربية. وذلك هو نفس المعنى الذي يعطيه إدغار موران، والمناطقة الغربيون المعاصرون لهذه الكلمة. إنني أتوقف عندها لأقول ما يلي : المنهج أو النهج يرتسم ويتضح من خلال السير و«المناهج تأتي في الختام»، وفقا لتعبير الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه الدجال. المنهج الذي سأتبعه في تناول المسألة الأمازيغية، وتحديدا في معالجة أبعادها الثقافية، والتاريخية والسياسية، ليس واضحا عندي منذ الآن إلا بتلك الدلالة الأولية البسيطة. باختصار، هو مشروع لا أملك عنه هذه اللحظة سوى تصور عام جدا، عسى أن تتاح لي أكثر من فرصة لعرضه في رسائل قادمة. ولعلي أسمح لنفسي بأن أضيف إلى ذلك رأيا خاصا أجازف بتقديمه تسويغا أو تعليلا لهذا الاهتمام الشخصي : إنني أعتقد بأن المسألة الثقافية والقضية الأمازيغية خصوصا سوف تصبحان في القرن الواحد و العشرين، ولا تفصلنا عنه، يجب أن نذكر بذلك، سوى بضع سنوات بعدد أصابع اليد. موضوع راهنية ملتهبة بدأنا نشهد إرهاصاتها ونذرها منذ بضع سنوات في المغربين الأوسط والأقصى. بل إنني أجازف أبعد من ذلك، وأقول بأنها قنبلة إيديولوجية مؤقتة مركبة من عدة «ألغام»، مزروعة في الجسد المغاربي ومرشحة للاشتعال في أي لحظة، بموازاة المد الأصولي الراهن، أو مباشرة غداة انحسار موجة الإسلام السياسي الحالية. والظاهرتان متعاصرتان تتغذيان من بعضهما بعض، سلبا وإيجابا، كما هو واضح تماما من تجربة المغرب الأوسط (الجزائر)، وكما يتضح أيضا في حالة المغرب الأقصى. بديهي أن الكارثة ليست حتمية لا في المغرب الأقصى ولا حتى في المغرب الأوسط، لكن بديهي أن أفضل وسيلة لتجنب المحظور، هي رفع الحظر عن الأفكار والمطامح المشروعة للنخب المغاربية، التي أصبحت تجعل من الدفاع عن اللغة والثقافة الأمازيغيتين وسيلة من بين وسائل أخرى كثيرة إلى احتلال مكانتها في سوق المبادلات الرمزية. والمسألة الأمازيغية بهذا المعنى، لا تخص من يتصدون اليوم للدفاع عنها وحدهم، و لكنها تهم أو على الأقل ينبغي أن تهم كل المشتغلين بالشأن العام، في الجزائر والمغرب، لكونها قضية مصيرية مدعوة إلى أن تفرض نفسها على الجميع. في هذا الإطار، أقدم إلى القراء وقائع حوار أجريته مع الأستاذ إدريس السغروشني، أستاذ اللسانيات بجامعة محمد الخامس بالرباط وأستاذ زائر بجامعة بوردو، مع الإشارة إلى أنه قد يكون، إذا سنحت الفرصة وسمحت الظروف، بداية لحوارات مماثلة مع عدد من مفكرينا وأساتذتنا. «لنبدأ -يقول الأستاذ إدريس السغروشني- بالحديث عن الهوية، لأنها في رأيي تطرح إشكالية دقيقة على دعاة الأمازيغية.. الهوية المغربية، منذ أن نشأت الدولة-الأمة في المغرب الأقصى، مع المولى إدريس، وهي تتحدد في إطار العروبة والإسلام. ونحن نعرف أن الحضارة العربية الإسلامية، لم تقم في يوم من الأيام على أساس عنصري وعرقي. لقد ساهم في هذه الحضارة أجناس وأقوام متعددون من فرس وأتراك وروم وأقباط وجماعات أخرى آسيوية، أوروبية وإفريقية. وعندما نرجع إلى أسماء الأعلام الذين أثروا على هذه الحضارة، نجد بينهم أشخاصا لا يمتون إلى العنصر العربي بصلة، خذ مثلا أسماء سيبويه والزمخشري وابن سيناء، وغيرهم، من الذين تركوا لنا مؤلفات في النحو والتفسير والفلسفة والعلم، تجد أنهم ليسوا عربا بالمفهوم الإثني أو العرقي، وإنما هم عرب بالمعنى الثقافي العام، لأن العربي هو من يتكلم اللسان العربي حسب الحديث الشريف. «وهذه الظاهرة -يضيف الأستاذ إدريس السغروشني- ظاهرة تعدد الجنسيات في الثقافات والحضارات الكبرى ليست محصورة باللغة العربية أو مقصورة عليها. والواقع أن الحضارات الكبرى، القديمة والوسطى والحديثة كلها متعددة الجنسيات». جرى هذا الحديث بمدينة بوردو، حيث كان الأستاذ إدريس السغروشني حاضرا، وجرى بالتحديد خلال عطلة الأسبوع الأول من شتنبر، أي في أعقاب انتهاء أعمال المؤتمر التمهيدي الأمازيغي العالمي. والأستاذ إدريس السغروشني، حين يتكلم عن الثقافة واللغة والحضارة في المغرب أو يتحدث بالضبط عن المسألة الأمازيغية، إنما يتكلم عن هذه القضايا كلام العالم العارف المتواضع. إنه حالة نموذجية للإشكالية التي يشرحها. وكما تدل على ذلك نسبته (السغروشني) فهو ينتمي إلى أيت سغروشن، وهي لفظة أمازيغية «لا غبار عليها»، تعني تقريباً «الذي يجمد الذئب بنظرته الثاقبة». ورغم أن الرجل بحكم تواضعه واستنكافه عن الخوض في التفاصيل والجزئيات، لم يشأ أن يساير فضولنا، فقد فهمنا من بعض المشاركين في المؤتمر التمهيدي أن أصل هذه التسمية -أيت سغروشن- يرجع إلى الفترة التالية مباشرة لسقوط الدولة الإدريسية. لقد تفرق أحفاد المولى إدريس، من زوجته الأمازيغية كنزة، في أرجاء المغرب هربا من ملاحقات موسى أبي العافية، وكان أن ذهب أحد الأحفاد إلى بلدة بالأطلس المتوسط، وأقام فيها ونال صيتا واسعا بين سكانها، بفضل ما كان يَجْترحُه من كرامات، ضمنها قدرته الخارقة على «تجميد الذئب»، والذئب كما نعرف يرمز إلى الشر والمكر والمكيدة والخداع. وكما ذكر لنا ذلك الأستاذ مولود لوناوسي، الأمين العام للمؤتمر العالمي الأمازيغي، فعشيرة أيت سغروشن، التي يقول إنه زار قريتها بمنطقة إيموزار مرموشة، هي نموذج لاختلاط الأعراق الأمازيغية العربية بالمغرب الأقصى : إنهم ينحدرون من الشريف المولى إدريس العربي، ومن زوجته الأمازيغية كنزة. ولابد أن نضيف إلى هذا «التوطين» الجغرافي أن أيت سغروشن يقيمون بمكان غير بعيد عن أيت مازيغ (أو مازغ)، وهي عشيرة تحمل «اسما واعدا يطلق على الأمازيغ، ومعناه الرجل الحر أو الإنسان النبيل».