استثمارات قطرية ضخمة في الولايات المتحدة تتجاوز التريليون دولار خلال زيارة ترامب للدوحة    الكرملين يكشف عن تشكيلة وفده للمفاوضات مع أوكرانيا في إسطنبول    توقعات أحوال الطقس ببلادنا اليوم الخميس    حجز كمية مهمة من "الحشيش" بالصويرة    دراسة: الإفراط في الأغذية المُعالجة قد يضاعف خطر الإصابة بأعراض مبكرة لمرض باركنسون    80 ألف يورو لضمان جنازات تليق بمسلمي مليلية وفق الشريعة والعرف الديني    الكونغو تعود لمنافسة "أسود الأطلس"    حرية الصحافة في المغرب بين التحسن الظاهري والتحديات العميقة    بقلم الدكتور سفيان الشاط: أوقفوا العاهات السلبيين على وسائل التواصل الاجتماعي    الملك محمد السادس يستقبل بالرباط عددا من السفراء الأجانب    والي جهة طنجة تطوان الحسيمة يترأس حفل عشاء اختتام الموسم الرياضي لاتحاد طنجة    حجز 1600 كيلو غراما من المخدرات بالصويرة مرتبطة بشبكة دولية للتهريب    الصحافة تحترق في طنجة تيك    الكوكب المراكشي يحقق حلم الصعود ويعود إلى القسم الأول من البطولة الاحترافية    قانون جديد يقترب: الحكومة تتحرك لوضع حد ل"التفاهة" بالمنصات الاجتماعية وحماية القيم    فضيحة جديدة تهز الجامعة المغربية.. اعتقال أستاذ جامعي بسبب تلاعبات ورشاوي    بحضور خبراء وأكاديميين.. انطلاق فعاليات الدورة العلمية بالمدرسة العليا للتكنولوجيا بالناظور    الناظوركوت المغربي يواصل تألقه العالمي رغم أزمة الحوامض.. وأكثر من 300 ألف طن في موسم واحد    وزارة النقل واللوجيستيك توقع ثلاث شراكات نوعية مع مؤسسة البحث والتطوير والابتكار في العلوم والهندسة    1.2 تريليون دولار.. توقيع صفقات ضخمة بين قطر وأميركا    ليلى بنعلي تجري مباحثات مع نظيرها التنزاني لتعزيز التعاون في مجال الطاقة (فيديو)    الحسيمة.. حادثة سير خطيرة قرب قنطرة واد غيس (صور)    عامل إقليم الحسيمة يودع 59 حاجًا متوجهين إلى الديار المقدسة    15 سنة سجنا للرئيس الموريتاني السابق ولد عبد العزيز بتهم تتعلق بالفساد    الملك يستقبل عددا من السفراء الأجانب    الرشيدية .. تخليد الذكرى ال 69 لتأسيس القوات المسلحة الملكية    3.65 مليار درهم قيمة صادرات الصيد الساحلي في 4 أشهر    براهيم دياز يغيب عن مواجهة مايوركا بسبب ألم في العضلة الضامة و10 لاعبين فقط جاهزون للمباراة    الملك يسحب تدبير دعم الفلاحين من وزارة الفلاحة بعد فضيحة "الفراقشية"    بنسعيد:الإصلاحات التي عرفها المجال الإعلامي ساهمت في توفير مرتكزات متكاملة لتطوير مختلف مكوناته    إطلاق حملة توعوية لتفادي الغرق في سدود جهة طنجة-تطوان-الحسيمة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    مهرجان «يالطا» بروسيا ينحني لصوت مغربي… والدارجة تسرق الأضواء    عامل العرائش يدشن افتتاح معرض العرائش للكتاب    "ربيع المسرح" في تارودانت يكرّم الفنانين الحسين بنياز وسعاد صابر    معهد صروح للإبداع والثقافة يسلط الضوء غلى المنجز الشعري للشاعر عبد الولي الشميري    الناخب الوطني لأقل من 20 سنة: "عازمون على المشاركة في المونديال ونحن أبطال إفريقيا"    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    الملك محمد السادس يوجه هذه الرسالة إلى الحجاج المغاربة    نهضة بركان يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة سيمبا    15 % من المغاربة يعانون من متلازمة القولون العصبي والنساء أكثر عرضة للإصابة بها من الرجال    رسميا.. حكيمي يمتلك نادي "سيوداد دي خيتافي" ويشارك في انتداب اللاعبين    جلالة الملك يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة بمناسبة انطلاق موسم الحج    ترامب: سوريا "أبدت استعداداً" للتطبيع    صرخة فنانة ريفية.. اعتزال "مازيليا" بسبب الوسخ والاستغلال في كواليس الفن    وداعا فخامة الرئيس    المغرب يستضيف مؤتمر وزراء الشباب والرياضة للدول الفرنكوفونية    المخرج روبرت بينتون يفارق الحياة عن 92 عاما    ردا على طرد موظفين فرنسين من الجزائر.. باريس تستدعي القائم بالأعمال الجزائري وتتوعد بالرد بالمثل    الإمارات تُجدد حضورها في موسم طانطان الثقافي بالمغرب: تظاهرة تراثية تجسّد عمق الروابط الأخوية    المغرب يحقق المعادلة الصعبة: تكلفة إنتاج السيارات الأقل عالميًا ب106 دولارات فقط للعامل الواحد    رفع كسوة الكعبة استعدادا لموسم الحج    المغرب في تصنيف التنمية البشرية لعام 2023: نقطة جيدة وانتظارات قوية    الأمم المتحدة تدعو مجلس الأمن إلى التحرك "لمنع وقوع إبادة" في غزة    عندما تتحول القرارات السياسية من حسابات باردة إلى مشاعر مُلتهبة    حكم جديد.. 3 ملايين ونصف تعويضاً لسيدة عضها كلب    دراسة من هارفارد: شرب الماء الكافي يعزز التركيز الذهني ويقلل التعب والإرهاق    الأغذية فائقة المعالجة تهدد بأعراض "باركنسون" المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياة شاقة في يوم رمضاني مراكشي حار .. عمال البناء: سواعد قوية، بطون جائعة و أفواه عطشى تحت لهيب رمضاني

في عالم البناء يغيب كل هذا لتحل محله شمس حارقة تلسع الأبدان و معاول و جرارات من حديد و لا مكان سوى لمن يتمتع بالقوة و الصبر .. هكذا شاهدنا صباح يوم لافح من أيام رمضان، حيث ترتفع درجة الحرارة بمراكش لتفوق الأربعين في إحدى البنايات في طور الإنجاز بشارع علال الفاسي .. عمال البناء هنا و هناك، .. السرعة في العمل و الهتافات .. منهم من يتسلق السلالم ويحمل معه كيسا من الإسمنت أو الرمل، ومنهم من تراه معلقا في البناية بحبل سميك محاولا في استماتة التغلب على جدار تحتاج واجهته لمزيد من الاهتمام، و آخرون يصنعون هرما من الرمل ممزوجا بالإسمنت يتعاونون عليه لإعداده بسرعة و تمريره للمعلم الذي ينتظر الخليط عن طريق الرافعة «البوجي» الذي تجده بالطابق الذي يركزون عملهم فيه..
حالة هذا الورش نموذج لما يعانيه الآلاف من عمال البناء بمراكش خلال شهر رمضان الذي يتزامن هذه السنة مع شواظ نار فصل الصيف ينضاف إليها الجوع و العطش.. عكس مستخدمي قطاعات أخرى الذين ينعمون بعطلة مريحة في الشواطيء والجبال والمنتزهات ومراكز الاصطياف..
وأنت بين عمال البناء يغمرك إحساس بالألم والغربة تتذكر النشيد الذي كان درس في أقسامنا الابتدائية ويردد في أعياد الشغل: «نحن عمال البلاد. فتيان الزمن. نحن آمال البلاد.. نحن أركان الوطن. كم بنينا من قصور.. نطحت ركن السحاب....«
يندهشون من رؤيتك وسطهم، فيعتقدون منذ الوهلة الأولى مالك البناية أو أحد أرباب العمل، لأنك وببساطة لا ترتدي مثلهم نفس الأسمال التي تشكل بقايا الإسمنت المتصلب جزءا منها، أو تحمل معك المعول أو غيره من أدوات البناء التي تظهرك كعامل جديد يبحث عن كسرة خبز ليس إلا..
حياة مليئة بالمخاطر في ظل غياب تأمين صحي، وإن وهن الجسد و خارت قواه، فلا منقذ من مواجهة العوز و الفقر. لأن هذا العمل في هذا القطاع هو آخر ما يشد اهتمامات مفتشي الشغل فيغدو العامل فيه أشبه بمن يؤدي مهمة في زمن السهرة .
عزوز واحد من هؤلاء، ينحدر من منطقة شوطر نواحي مراكش في اتجاه أيت أورير، في الخمسين من عمر، أب لثلاثة أطفال وجدناه في الطابق الأخير من البناية حيث درجة الحرارة تتجاوز الخامسة و الأربعين، وهو يتصبب عرقا كأنبوب ماء لا يتوقف عن التدفق، و بجانبه مساعده عبد الكريم الذي يمرر له خليط (البغلي) لترميم واجهة جدار وتزيينها. روح المرح و الكلام الجميل لا يفارقه، و الابتسامة المسترسلة تتغشى قسمات وجه، إن باشرت الكلام معه سرعان ما يحوله إلى نكتة أو ضحكة لا تنتهي و يغير تساؤلاتك إلى شكوك أو تلميحات، يحاول تجنب ما تطلبه و يباشر شرح ما يقوم به من عمل، وإن أطلت من استفساراتك يطالبك بمساعدته أو إسداء خدمة له إن تاه مساعده بحثا عن إسمنت أو ماء أو غيرها من المستلزمات التي يفرضها عمله ليلخص كل أسئلتك في كلمات محدودة يقول عزوز:
«أن شهر رمضان يصعب فيه العمل لكن ظروف العيش تحتم علينا أن نعمل و نكد لنوفر ما تحتاج إليه عائلاتنا.. كل من يأمل يوما أن يرى أحد أفراد أسرته صاحب مشروع للبناء، علنا ننعم بالراحة ونتفرغ لأنفسنا ونرتاح من شقاء لازمنا قرابة عقود طويلة..»
ويضيف عزوز بحسرة وألم:
«أصبح شهر رمضان ينهكني بفعل تقدمي في السن .. في شبابي لا أبه لذلك . حينها كانت لي القدرة و الصبر على تحمل اعباء العمل. لكن لاشيء يلبث على حاله، و الزمان يفرض منطقه على الحياة و توالي السنين ينال من الجسد فيجد المرء نفسه مجبر على أداء عمل شاق بجسد منهوك لانتزاع لقمة تسد بعض الرمق..» .
تركنا عزوز لنجد شابا مفعما بالحيوية يعمل لوحده تحت درجة حرارة مرتفعة، لا يعرف الملل طريقا لنفسه، صنع لنفسه خودة ورق أكياس الإسمنت لتقيه من لهيب أشعة الشمس التي تلحف الرؤس والسواعد ، تخاله في الوهلة الأولى أنه إنسان عادي لا يفقه في الحياة سوى العمل ، لتصدم أن عبد الله من مدينة الجديدة ، عمره 26 سنة حاصل على الإجازة في القانون العام، حاول أن يحصل على وظيفة مع الدولة أو في القطاع الخاص ، ليجد نفسه و بدون سابق إشعار يزاول مهنة أبيه التي حاول الابتعاد عنها، لكن الظروف حتمت عليه أن يزاولها لأنه العمل الوحيد الذي يتقنه، يحمد الله على كل شيء فما يجنيه من عمله يستطيع العيش به في مدينة مراكش، وادخار جزء منه للوفاء باحتياجات سفره إلى الجديدة لرؤية العائلة.
والده تقبل فكرة العمل في البناء انطلاقا من المبدأ الشهير«تبع حرفة بوك ليغلبوك» واستطاع ان يوفر لنفسه مسكنا بجوار منزل اسرته و هو الان يفكر في الزواج خصوصا وأنه قضى ست سنوات من عمره في مهنة البناء، في قناعته أن لا حائل يوقفه عن هذه الرغبة. يشكو في بعض الأحيان من الذين يزاولون معه المهنة لانهم يؤمنون بما يعرفون و لا يتقبلون ما يقدمه من معرفة، لكنه سرعان ما يتجاوز ذلك لانها عشرة عمر في عالم يغلب عليه الاسمنت المسلح .
بجانبه صديقه و رفيقه في الدرب ياسر من الزمامرة نواحي الجديدة، هو الآخر مجاز في القانون الخاص، يعتبر نفسه مولودا جديدا في هذه المهنة لأنه لم يتجاوز سنة من العمل تقريبا، قدره أن يشتغل في شهر رمضان لأول مرة في حياته، يحاول قدر المستطاع تلبية ما يطلبه المعلم تحت شمس مراكشية حارقة، لكنه لا يهتم فهناك عمل كثير ينتظره ولا بد من أن ينهيه كي يرضى عنه رب العمل، حياة اخرى غير التي كان يتصورها أو يتمناها، استسلم هو الآخر لقدره وتأقلم معه بسرعة.
تركناه يقاوم يومه بكبرياء محارب في الصحراء ، لنجد شخصا آخر يعمل لوحده إنه الصحراوي كما يلقبونه. عمره تجاوز الستين. لكنه يقول إنه لم يشغل نفسه أبدا بتعداد رصيده الزمني في الوجود، لأن مسألة العمر في نظره مجرد سخافة لا تعنيه كثيرا .
يتكفل الشيخ الصحراوي بطبخ الطعام و تحضير إفطار رمضان في الورش وهو الذي يرشد و يوجه العمل، صمت رهيب يتحلى به هذا الشخص القادم من نواحي مدينة ورزازات . فالعمل هو الشىء الوحيد الذي يهمه، لا يهنأ له بال إلأ عندما ينتهي من مهمته، بل ربما في بعض الاحيان قد يتشاجر مع الاخرين لانه يرى في مخيلته أن لا أحد يتفانى و يخلص في عمله.
بالنسبة للصحراوي العمل في شهر رمضان لايختلف عن مثيله في باقي الشهور الاخرى. و ما يقتاته في الايام العادية يماثل ما يعيش به في رمضان ، بل يوفر عليه مصروف الغذاء والفطور، و المحسنون هم الذين يتكفلون بإفطاره، فلا يتبقى له سوى ما يتناوله في العشاء. اعتاد من صغره أن يعمل ليساعد عائلته الكبيرة قبل الصغيرة.. لقبه زملاؤه من العمال في الورش بالصحراوي لأن له صبرا ليس له حدود في جميع الأمور التي يتكفل بها.. وهو و الدهم في الوقت الذي يغيبون فيه عن ذويهم، ومرشدهم في العمل ، إنسان صارم في حياته لكنه عطوف في نفس الوقت .
الواقع أننا عانينا كثيرا ونحن نتأمل هؤلاء الدين يمتهنون الشقاء من اجل بناء عمارات ومباني سينعم فيها الآخرون أما هؤلاء فمن ورش إلى أخر ومن شقاء إلى أخر دون ملل ولا كلل، تعبنا وتصببنا عرقا وكل ما فعلناه أننا وضعنا اسئلة حارقة في يوم رمضاني ملتهب بالحرارة والشقاء على سواعد هي التي تبني حقا صرحا معماريا دون أن يلتفت إليها أحد..
إنها حياة قاسية في شهر رمضان تفرضها طبيعة عمل شاق لأناس يكدون و يعملون بلا توقف، بل لا يعرف قاموس الراحة مكانا في حياتهم ، لأن في ذلك انسداد أبواب الرزق و الفاقة و الفقر .. هؤلاء لا يلتفت لوجودهم أولئك الذين هيأت لهم ظروف أحسن من عمل مريح و رصيد منتفخ في البنك و مسكن باذخ و حياة مليئة بالرخاء و الراحة ..
مكتب مراكش : زكريا بن عبيلو
في عالم البناء يغيب كل هذا لتحل محله شمس حارقة تلسع الأبدان و معاول و جرارات من حديد و لا مكان سوى لمن يتمتع بالقوة و الصبر .. هكذا شاهدنا صباح يوم لافح من أيام رمضان، حيث ترتفع درجة الحرارة بمراكش لتفوق الأربعين في إحدى البنايات في طور الإنجاز بشارع علال الفاسي .. عمال البناء هنا و هناك، .. السرعة في العمل و الهتافات .. منهم من يتسلق السلالم ويحمل معه كيسا من الإسمنت أو الرمل، ومنهم من تراه معلقا في البناية بحبل سميك محاولا في استماتة التغلب على جدار تحتاج واجهته لمزيد من الاهتمام، و آخرون يصنعون هرما من الرمل ممزوجا بالإسمنت يتعاونون عليه لإعداده بسرعة و تمريره للمعلم الذي ينتظر الخليط عن طريق الرافعة «البوجي» الذي تجده بالطابق الذي يركزون عملهم فيه..
حالة هذا الورش نموذج لما يعانيه الآلاف من عمال البناء بمراكش خلال شهر رمضان الذي يتزامن هذه السنة مع شواظ نار فصل الصيف ينضاف إليها الجوع و العطش.. عكس مستخدمي قطاعات أخرى الذين ينعمون بعطلة مريحة في الشواطيء والجبال والمنتزهات ومراكز الاصطياف..
وأنت بين عمال البناء يغمرك إحساس بالألم والغربة تتذكر النشيد الذي كان درس في أقسامنا الابتدائية ويردد في أعياد الشغل: «نحن عمال البلاد. فتيان الزمن. نحن آمال البلاد.. نحن أركان الوطن. كم بنينا من قصور.. نطحت ركن السحاب....«
يندهشون من رؤيتك وسطهم، فيعتقدون منذ الوهلة الأولى مالك البناية أو أحد أرباب العمل، لأنك وببساطة لا ترتدي مثلهم نفس الأسمال التي تشكل بقايا الإسمنت المتصلب جزءا منها، أو تحمل معك المعول أو غيره من أدوات البناء التي تظهرك كعامل جديد يبحث عن كسرة خبز ليس إلا..
حياة مليئة بالمخاطر في ظل غياب تأمين صحي، وإن وهن الجسد و خارت قواه، فلا منقذ من مواجهة العوز و الفقر. لأن هذا العمل في هذا القطاع هو آخر ما يشد اهتمامات مفتشي الشغل فيغدو العامل فيه أشبه بمن يؤدي مهمة في زمن السهرة .
عزوز واحد من هؤلاء، ينحدر من منطقة شوطر نواحي مراكش في اتجاه أيت أورير، في الخمسين من عمر، أب لثلاثة أطفال وجدناه في الطابق الأخير من البناية حيث درجة الحرارة تتجاوز الخامسة و الأربعين، وهو يتصبب عرقا كأنبوب ماء لا يتوقف عن التدفق، و بجانبه مساعده عبد الكريم الذي يمرر له خليط (البغلي) لترميم واجهة جدار وتزيينها. روح المرح و الكلام الجميل لا يفارقه، و الابتسامة المسترسلة تتغشى قسمات وجه، إن باشرت الكلام معه سرعان ما يحوله إلى نكتة أو ضحكة لا تنتهي و يغير تساؤلاتك إلى شكوك أو تلميحات، يحاول تجنب ما تطلبه و يباشر شرح ما يقوم به من عمل، وإن أطلت من استفساراتك يطالبك بمساعدته أو إسداء خدمة له إن تاه مساعده بحثا عن إسمنت أو ماء أو غيرها من المستلزمات التي يفرضها عمله ليلخص كل أسئلتك في كلمات محدودة يقول عزوز:
«أن شهر رمضان يصعب فيه العمل لكن ظروف العيش تحتم علينا أن نعمل و نكد لنوفر ما تحتاج إليه عائلاتنا.. كل من يأمل يوما أن يرى أحد أفراد أسرته صاحب مشروع للبناء، علنا ننعم بالراحة ونتفرغ لأنفسنا ونرتاح من شقاء لازمنا قرابة عقود طويلة..»
ويضيف عزوز بحسرة وألم:
«أصبح شهر رمضان ينهكني بفعل تقدمي في السن .. في شبابي لا أبه لذلك . حينها كانت لي القدرة و الصبر على تحمل اعباء العمل. لكن لاشيء يلبث على حاله، و الزمان يفرض منطقه على الحياة و توالي السنين ينال من الجسد فيجد المرء نفسه مجبر على أداء عمل شاق بجسد منهوك لانتزاع لقمة تسد بعض الرمق..» .
تركنا عزوز لنجد شابا مفعما بالحيوية يعمل لوحده تحت درجة حرارة مرتفعة، لا يعرف الملل طريقا لنفسه، صنع لنفسه خودة ورق أكياس الإسمنت لتقيه من لهيب أشعة الشمس التي تلحف الرؤس والسواعد ، تخاله في الوهلة الأولى أنه إنسان عادي لا يفقه في الحياة سوى العمل ، لتصدم أن عبد الله من مدينة الجديدة ، عمره 26 سنة حاصل على الإجازة في القانون العام، حاول أن يحصل على وظيفة مع الدولة أو في القطاع الخاص ، ليجد نفسه و بدون سابق إشعار يزاول مهنة أبيه التي حاول الابتعاد عنها، لكن الظروف حتمت عليه أن يزاولها لأنه العمل الوحيد الذي يتقنه، يحمد الله على كل شيء فما يجنيه من عمله يستطيع العيش به في مدينة مراكش، وادخار جزء منه للوفاء باحتياجات سفره إلى الجديدة لرؤية العائلة.
والده تقبل فكرة العمل في البناء انطلاقا من المبدأ الشهير«تبع حرفة بوك ليغلبوك» واستطاع ان يوفر لنفسه مسكنا بجوار منزل اسرته و هو الان يفكر في الزواج خصوصا وأنه قضى ست سنوات من عمره في مهنة البناء، في قناعته أن لا حائل يوقفه عن هذه الرغبة. يشكو في بعض الأحيان من الذين يزاولون معه المهنة لانهم يؤمنون بما يعرفون و لا يتقبلون ما يقدمه من معرفة، لكنه سرعان ما يتجاوز ذلك لانها عشرة عمر في عالم يغلب عليه الاسمنت المسلح .
بجانبه صديقه و رفيقه في الدرب ياسر من الزمامرة نواحي الجديدة، هو الآخر مجاز في القانون الخاص، يعتبر نفسه مولودا جديدا في هذه المهنة لأنه لم يتجاوز سنة من العمل تقريبا، قدره أن يشتغل في شهر رمضان لأول مرة في حياته، يحاول قدر المستطاع تلبية ما يطلبه المعلم تحت شمس مراكشية حارقة، لكنه لا يهتم فهناك عمل كثير ينتظره ولا بد من أن ينهيه كي يرضى عنه رب العمل، حياة اخرى غير التي كان يتصورها أو يتمناها، استسلم هو الآخر لقدره وتأقلم معه بسرعة.
تركناه يقاوم يومه بكبرياء محارب في الصحراء ، لنجد شخصا آخر يعمل لوحده إنه الصحراوي كما يلقبونه. عمره تجاوز الستين. لكنه يقول إنه لم يشغل نفسه أبدا بتعداد رصيده الزمني في الوجود، لأن مسألة العمر في نظره مجرد سخافة لا تعنيه كثيرا .
يتكفل الشيخ الصحراوي بطبخ الطعام و تحضير إفطار رمضان في الورش وهو الذي يرشد و يوجه العمل، صمت رهيب يتحلى به هذا الشخص القادم من نواحي مدينة ورزازات . فالعمل هو الشىء الوحيد الذي يهمه، لا يهنأ له بال إلأ عندما ينتهي من مهمته، بل ربما في بعض الاحيان قد يتشاجر مع الاخرين لانه يرى في مخيلته أن لا أحد يتفانى و يخلص في عمله.
بالنسبة للصحراوي العمل في شهر رمضان لايختلف عن مثيله في باقي الشهور الاخرى. و ما يقتاته في الايام العادية يماثل ما يعيش به في رمضان ، بل يوفر عليه مصروف الغذاء والفطور، و المحسنون هم الذين يتكفلون بإفطاره، فلا يتبقى له سوى ما يتناوله في العشاء. اعتاد من صغره أن يعمل ليساعد عائلته الكبيرة قبل الصغيرة.. لقبه زملاؤه من العمال في الورش بالصحراوي لأن له صبرا ليس له حدود في جميع الأمور التي يتكفل بها.. وهو و الدهم في الوقت الذي يغيبون فيه عن ذويهم، ومرشدهم في العمل ، إنسان صارم في حياته لكنه عطوف في نفس الوقت .
الواقع أننا عانينا كثيرا ونحن نتأمل هؤلاء الدين يمتهنون الشقاء من اجل بناء عمارات ومباني سينعم فيها الآخرون أما هؤلاء فمن ورش إلى أخر ومن شقاء إلى أخر دون ملل ولا كلل، تعبنا وتصببنا عرقا وكل ما فعلناه أننا وضعنا اسئلة حارقة في يوم رمضاني ملتهب بالحرارة والشقاء على سواعد هي التي تبني حقا صرحا معماريا دون أن يلتفت إليها أحد..
إنها حياة قاسية في شهر رمضان تفرضها طبيعة عمل شاق لأناس يكدون و يعملون بلا توقف، بل لا يعرف قاموس الراحة مكانا في حياتهم ، لأن في ذلك انسداد أبواب الرزق و الفاقة و الفقر .. هؤلاء لا يلتفت لوجودهم أولئك الذين هيأت لهم ظروف أحسن من عمل مريح و رصيد منتفخ في البنك و مسكن باذخ و حياة مليئة بالرخاء و الراحة ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.