وزارة الشؤون الخارجية تعيّن 22 قنصلاً عاماً جديداً.. 19 منهم بأوروبا    المواد الطاقية تقود انخفاض أسعار واردات المملكة خلال الفصل الأول من 2025    من الرباط .. خارطة طريق جديدة لمستقبل النظام المالي الإسلامي    الحكومة تحدد المبلغ الأقصى للسلفات الصغيرة وأسقف الأموال المتلقاة من قبل مؤسسات التمويلات الصغيرة    وفاة نجم ليفربول ومنتخب البرتغال في حادث مأساوي    لقجع: نحترم اختيار أمين يامال اللعب لإسبانيا ونتمنى له النجاح كقدوة للشباب المغربي    توقيف شخص عرقل طرامواي الدار البيضاء.. والأمن يفتح بحثا في ملابسات الواقعة    ارتفاع بنسبة 75% في الأعمال المعادية للمسلمين في فرنسا منذ مطلع العام    مجلس الحكومة يصادق على تعيينات جديدة في مناصب عليا    المصادقة على مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة    وكالة بيت مال القدس تخصص 2.2 مليون دولار لدعم الفلسطينيين    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    غواتيمالا تعتبر مبادرة الحكم الذاتي "الأساس الجاد" لتسوية النزاع حول الصحراء المغربية    ضبط شحنة ضخمة من الحشيش المهرّب من شمال المغرب إلى إسبانيا    الهلال السعودي يتلقى نبأ سعيدا قبل مواجهة فلومينينسي    الشرطة توقف مشاركين في موكب زفاف بسبب "السياقة الاستعراضية"    تنسيقية مهنيي سيارات الأجرة تستنكر "فوضى التسعيرة"    إيران تؤكد التزامها معاهدة حظر الانتشار النووي    هلال: المغرب من أوائل الفاعلين في حكامة الذكاء الاصطناعي دوليا    وزير الداخلية يترأس حفل تخرج الفوج الستين للسلك العادي لرجال السلطة        دعم 379 مشروعا في قطاع النشر والكتاب بأزيد من 10,9 مليون درهم برسم سنة 2025    "مكتب المطارات" يعيد هيكلة أقطابه لقيادة استراتيجية "مطارات 2030"    قناديل البحر تغزو شواطئ الحسيمة مع انطلاق موسم الاصطياف    مطالب للداخلية بتوضيح أسباب الزيادة المفاجئة لأسعار الترامواي وحافلات النقل الحضري بالرباط    بعد عام من العفو الملكي.. اعتقال المدونة سعيدة العلمي ومطالب بسراحها    الهاكا تسائل القناة الثانية بسبب بثها حفل "طوطو" وترديد كلمات نابية    مقررة أممية: إسرائيل مسؤولة عن إحدى أقسى جرائم الإبادة بالتاريخ الحديث    كأس العالم للأندية: المهاجم البرازيلي بيدرو يعزز صفوف تشلسي أمام بالميراس    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    تمديد أجل طلبات الدعم العمومي لقطاع الصحافة والنشر    بعد مراكش وباريس.. باسو يقدم "أتوووووت" لأول مرة في الدار البيضاء    صدمة بشفشاون بسبب تأجيل أقدم مهرجان شعري في المغرب لغياب الدعم اللازم    الرميد ينتقد حفل "طوطو" بموازين: "زمن الهزل يُقدَّم كنجاح ساحق"    بعد فضية 2022.. لبؤات الأطلس يبحثن عن المجد الإفريقي في "كان 2024"    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة    الكاف تزيح الستار عن كأس جديدة لبطولة أمم إفريقيا للسيدات بالمغرب    المغرب من بين الدول الإفريقية الرائدة في جودة الحياة    بتعليمات ملكية سامية.. مؤسسة محمد الخامس للتضامن تطلق العمل ب13 مركزا جديدا في عدد من مدن المملكة    بونو وحكيمي يتألقان ويدخلان التشكيلة المثالية لثمن نهائي مونديال الأندية    الرجوع إلى باريس.. نكهة سياحية وثقافية لا تُنسى    رئيس الاتحاد القبائلي لكرة القدم يكتب: حين تتحوّل المقابلة الصحفية إلى تهمة بالإرهاب في الجزائر    "إبادة غزة".. إسرائيل تقتل 63 فلسطينيا بينهم 31 من منتظري المساعدات    مدينة شفشاون "المغربية" تُولد من جديد في الصين: نسخة مطابقة للمدينة الزرقاء في قلب هاربين    الجزائر تُطبع مع إسبانيا رغم ثبات موقف مدريد من مغربية الصحراء: تراجع تكتيكي أم اعتراف بالعزلة؟    الشرقاوي تعدد تحديات "المرأة العدل"    تصعيد جديد للتقنيين: إضرابات متواصلة ومطالب بإصلاحات عاجلة        تغليف الأغذية بالبلاستيك: دراسة تكشف تسرب جسيمات دقيقة تهدد صحة الإنسان    أخصائية عبر "رسالة 24": توصي بالتدرج والمراقبة في استهلاك فواكه الصيف    دراسة: تأثير منتجات الألبان وعدم تحمل اللاكتوز على حدوث الكوابيس    الراحل محمد بن عيسى يكرم في مصر    جرسيف تقوي التلقيح ضد "بوحمرون"    في لقاء عرف تكريم جريدة الاتحاد الاشتراكي والتنويه بمعالجتها لقضايا الصحة .. أطباء وفاعلون وصحافيون يرفعون تحدي دعم صحة الرضع والأطفال مغربيا وإفريقيا    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    عاجل.. بودريقة يشبّه محاكمته بقصة يوسف والمحكمة تحجز الملف للمداولة والنطق بالحكم    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



Pattes d''éléphant
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 10 - 2011

كانت شمس الجمعة ترسل أشعتها على أبواب القصر الملكي المذهبة ، والماء المتصاعد من معين الساحة المجاورة يتناثر زخات هفيفة على الزهور الفارعة مؤذنا لها بالتهادي الراقص ، فينبعث من أعماق النفس فرح لا يضاهى . وكنت أقتعد عتبة المركز البريدي وعيناي على «باب الأمر» منتظرا أن تهل الرحمة من شارع العلويين . وكلما طال انتظاري تفقدت هندامي ونمقت حالي ، ثم شردت في أحلامي الصغيرة عسى أن يتسرب منها خيط أمل يضيء رتابة أيامي ويسمو بي إلى مقام المشتهيات الكبرى . لم أكن يائسا . كان يرجني بين الفينة والفينة حدس قوي بان يومي هدا سيكون ميمونا.
وفجأة رست على حافة الطوار سيارة سوداء لامعة ، مصباحاها الأماميان شبيهان بعيني كليوباتره .
وسرعان ما توقف محركها فصارت تستوي أرضا مثل طائرة . لم أكن قد شاهدت من قبل نظيرا لها إلا في أفلام» فانطوماس» حيث كانت تتحول في لحظات اشتداد المطاردة إلى طائرة تنقذ حياة «جان ماري» من قبضة المطاردين . إذن ، أنا الآن قاب قوسين من سيارة الحلم السينمائي « D.S « . ثم فتح الزوج بابه وهرع إلى الباب الأيمن كي يفتح الباب لتخرج منه سيدة في الأربعين كان يسبقها عطرها ليغمر المكان بأريج فاخر . وعلى الفور توجه الاثنان معا نحو باب القصر وأخذا يلتقطان صورا كثيرة لتفاصيل المكان . كان قلبي يخفق بسرعة غير معهودة وأنا في حيرة من أمري . كيف سأفاتحهما في الموضوع ؟ وخفت من أن يسبقني إليهما منافس آخر.
كان « السعيد « الملقب بالألماني قد مر بي قبل قليل وحدجني باسما بنظرة غامضة ثم مضى في سبيله . لعله الآن يجلس في المقهى المرتكن من دون أن ينتبه إليهما . لكني سويت حالي ودنوت منهما باحثا عن أنسب سؤال:
- صباح الخير سيدتي ، صباح الخير سيدي .
التفتت إلي المرأة بأناقة مفرطة وأجابتني بلكنة باريسية عذبة :
- صباح الخير .
- منظر جميل ، أليس كذلك ؟
- إطلاقا .... وهل يقيم الملك هنا دائما ؟
- في فصل الربيع .
- أليست فاس هي عاصمته ؟
- كلا ، الرباط هي العاصمة . فيما مضى كانت فاس عاصمة السلاطين . لكن له قصرا في كل مدينة ، وهو يوزع مقامه حسب فصول السنة : في الشتاء يقيم في مراكش وفي الصيف يذهب إلى إفران وفي الخريف يبقى في الرباط .
كنت أتحدث بطلاقة رغم أن « الوقت « لم يكن يسمح بذكر لفظة الملك، إذ كان أصحاب الحال من الكلاب الآدمية يتصيدونها فرصة لاتهام كل غافل بشتم الملك ، وكان في حديثي يقين مضحك كما لو أني حاجب ملكي ملم بشؤون القصر . ولما اطمأنت نفسي إلى إنصاتهما صرت أحكي لهما عن فاس ومعمارها المتميز وتاريخها البهي وعشق الملوك لها مستقرا . ومخافة أن يعتبراني مجرد متطوع عابر، يقدم لهما بضع معلومات عن مدينة يكن لها كل إجلال، بادرتهما بالسؤال :
- هل زرتما المدينة العتيقة ؟
- المدينة العتيقة ؟
- إنها تحفة لا مثيل لها في العالم أجمع ...إذا شئتما أستطيع أن أساعدكما على زيارتها ، لأن دروبها ملتوية ومتداخلة ، والعديد من السياح يصعب عليهم العثور على مخرج من متاهاتها الضيقة .
ابتسم الرجل ونظر إلى زوجته مستشيرا ، ثم قال لي :
- طيب ، تعال !
وفتح لزوجته الباب الخلفي وأشار لي أن أركب بجواره كي أدله على الطريق . وما أن أدار المحرك حتى أخذت السيارة ترتفع بنا وكأنها ستقلع، فخلت أني أركب سيارة فانطوماس . كانت ثمة رائحة فردوسية عجيبة تنتشر في داخل السيارة لم أستنشق مثلها إلا بعد سنوات حين ركبت طائرة « لوفطانزا « الألمانية لأول مرة . وفي الطريق إلى البطحاء باركت حدسي وقلت في سري : « هذه جمعة ميمونة « . وبمجرد أن أوقفنا السيارة وسرنا راجلين لبضع خطوات حتى استشعرت ظلا ما يترصدنا من الخلف . تجاهلته وسرت في صمت ، إلى أن سألتني المرأة ؟
- هل تدرس أم هذه مهنتك ؟
- نعم ، أدرس في الثانوي .غير أني أرافق السياح في أيام العطل كي أعين أسرتي وأطور لغتي .
والتمست منهما أن يدعيا بأني من معارفهما إذا ما فاجأتنا دورية السياح ، وقدمت لهما من التفاصيل العائلية ما يكفي للإقناع . ثم لاحظت أن الظل المتربص بنا يزداد اقترابا فنبهتهما إلى ضرورة الاحتراس من النشالين . ويبدو أنه سمع تحذيري فاقترب مني وتوسل إلي أن يرافقنا ليحرسني من دورية السياح . لم تكن هيئته تشي بأنه لص ، وكان حديثه لطيفا وفيه ذرة من شكوى . فقلت لهما انه زميل دراسة وسيتكلف بهش النشالين .
وبعد مسير حوالي ساعتين همست لي المرأة بأنها تحس بالعطش ، فتوجهت بهما توا إلى بائع العصائر في «بوطويل» واقترحت عليهما أن يشربا عصير اللوز المعطر بماء الزهر على أن يرفقاه بكعب الغزال ، زاعما أنه فطور أهل فاس التقليدي . وفي مجرى الحديث بدا لي أن أفكه الجلسة وأرفع الكلفة بيننا فقلت للرجل :
- ألم يقل لك أحد من قبل إنك تشبه الممثل « ميشيل بيكوليه « ؟
اهتز ضاحكا ومرر يده على مقدمة رأسه وسألني بدوره :
- أتقول هذا لأن بي قليلا من الصلع ؟
وحدقت الزوجة في زوجها كأنها تراه لأول مرة وقالت:
- إذن فأنتم تشاهدون الأفلام الفرنسية هنا !
- لقد شاهدت فيلم « شؤون الحياة « من بطولة بيكوليه إلى جانب « رومي شنايدر» . كما أننا نستمع إلى أغانيكم القديمة والحديثة ...ولدينا إذاعة تبث برامجها بثلاث لغات : الفرنسية والإنجليزية والإسبانية .
وأخذت أسرد على مسمعهما أسماء المغنين الذين يغنون بالفرنسية : ميشيل بولناريف ، جورج موستاكي ، جاك بريل ، ناناموسكوري ، ليو فيريه ، جان فيرا ، ميراي ماتيو ، شارل ترينيه ، جورج براسانس .... فقد كنا أنا والصديق «عمر» مدمنين على شراء مجلة Salut les Copains وكنا بفضلها على إلمام بأدق التفاصيل في حياة المغنين . نعرف أكلة « شيلا « المفضلة وبوادر الشنآن بين « جوني هاليدالي» و « سيلفي فارطان» ومشاريع « ميشيل ساردو» الفنية وأين ستقضي» فرانسواز هاردي» عطلتها الصيفية المقبلة برفقة
« جاك ديترون « .... ولذلك استطبت هذا الاسترجاع إلى أن أوقفني تساؤل الرجل بلباقة ذكية عن أفضل أثاث مغربي فأجبته في الحال :
- الزربية . فأنت لا تجد في فاس دارا تخلو منها . يستوي في ذلك الأغنياء والفقراء . بعد الانتهاء من زيارة المدينة العتيقة سنقوم بالجولة الملكية ، وخلالها نعرج على باب الماكينة كي نزور معمل الزرابي .
- الجولة الملكية ؟
- أجل . ونعني بها الطواف بالسيارة حول المدينة والإطلال عليها من سطحيها الشرقي والجنوبي . هذه عادة ملكية قديمة. ألم أقل لكما إن فاس هي مدينة الملوك؟
كان لساني قد أضحى الآن ملما بتفاصيل بعضها قرأته في دليل سياحي ما ، وبعضها الآخر سمعته من أفواه بعض المرشدين المخابيل . و بعد أن تناولا أكثر من عصير وأكلا كعب الغزال و» غريبة مفندة « شققت بهما بعض الدروب . كانت السكينة تنتشر في أحشائها ، والناس يمضون لأداء صلاة الجمعة بجلابيبهم البيضاء التي تفوح منها رائحة العود والمسك ، والنور يشع من وجوههم ، فسألني الرجل إلى أين هم ذاهبون .
- إلى جامع القرويين أو مولاي إدريس .
وقفنا أمام حوض الوضوء ، وكان الحمام يرفل في أمان ، وشربنا من « باب الوفاء» ، وبعدها تفقدنا مدخل الضريح الرسمي ، فهمس السائح في أذني :
- أهذه هي الزرابي التي حدثتنا عنها قبل قليل ؟
- بالضبط . لكن هذه الزرابي من هدايا المتبركين .
- وهل كان هذا الرجل وليا ؟
- إنه ولي وسلطان . لقد اتخذ له هذه المدينة عاصمة لموقعها الجغرافي المتميز فهي محاطة بالسهول والبساتين والوديان الصافية وماؤها كضوئها يسري في كل مكان . إنها فردوس صغير .
وساعتئذ اقترب مني مرافقنا وقال لي :
- عجل بهما إلى دار الزربية .هذه همزة لا تعوض . وهم هناك يقدمون 30%
جعبة عن كل زربية .
****************
كانت الزرابي تنتشر في كل أنحاء الدار: من العتبة حتى السطح ، تضفي عليها أشعة الشمس المتسربة من النوافذ والكوات رونقا خرافيا . وفي ركن من البهو جلس رجل مهيب القد يستند إلى مرفقه الأيمن مثل خليفة عباسي وهو يرتدي ثيابا من الجبادور، وأمامه صينية من الفضة رصت فوقها كؤوس بلورية بزخارف خضراء وزرقاء ومذهبة . وما أن رآنا حتى تهلل واستقام في جلسته مرحبا بالضيفين ، وقال بفرنسية منغمة برائه الفاسية :
_ صباح الخير. أهلا بكما . تفضلا . الدار داركما . ماذا تشربان ؟
ثم أمر بإحضار الشاي والحلويات . وكان البائع يقف عن بعد في انتظار أن يجلس السائحان . كان وسيما ، اسمه في ما أذكر «المريني» ويعتبر من أمهر الباعة في المدينة . يتحدث بلباقة آسرة عن تاريخ الزربية ومراحل نسجها بعبارات منتقاة وبأسلوب تمثيلي متقطع بوصلات التشويق ولا يخلو من مرح وإحالات أسطورية. ولذلك كان يقال إن
« الهمزة إذا دخلت إلى هذه الدار لا يمكن أن تخرج خالية اليدين «. وكان مرافقي فرحا جدا ومتأكدا من أننا سنغنم رزقنا . وفي غمرة تحمسه أخبرني بأنه يتنازل لي عن نصيبه من أجرة الزيارة .
وبعد حوالي نصف ساعة كنا نغادر دار الزربية يتبعنا عتال يحمل زربية زرقاء متوسطة الحجم . كانت الفرحة تستحثنا على الوصول في أسرع وقت إلى موقف السيارة . وكان مرافقي يتلكأ في سيره ، ولعله كان يفكر في مغافلتي والعودة لتسلم «الجعبة» والاستفراد بها . أما أنا فقد كنت مطمئنا لأن «المريني» أقسم لي ونحن نغادر الدار بأنه لن يسلمه شيئا حتى أجيء لأنني حسب زعمه « شاب مستقيم وأبعد ما أكون عن ألاعيب أولئك المرشدين الماكرين « . ولما وصلنا إلى» البطحاء «تبادلنا عناوين التراسل التي ستظل كمثيلاتها حبرا على ورق . ودللتهما على الطريق المؤدية إلى المدينة الجديدة . فقالت لي السيدة وهي تشد على يدي :
- شكرا لك ... هنيئا لكم بهذه المدينة الساحرة .
*********************
في مساء ذلك اليوم كانت في جيبي عشرة آلاف ريال . كان نصيبنا من « الجعبة « عشرين ألف ، اقتسمتها مع مرافقي ، فاهتز فرحا وعانقني ووعدني بأن يقتسم معي من الآن فصاعدا كل « الهموز» التي سيقتنصها . لكني لم أره منذ ذلك الحين إلا مؤخرا وقد ابيض شعر رأسه وتقوس ظهره وازداد لسانه تلعثما وصار مدمنا على الخمور في اكتئاب مقرف . أما أنا فقد مضيت في الغد إلى القيسارية واشتريت لأمي جلبابا أبيض وشربيلا أخضر ولجدتي سبنية من الحرير وبلغة بيضاء ، واشتريت لي ثوبا قرفيا لأخيط منه سروالا وعرجت على «رحبة القيس» واشتريت ثوبا مزينا بالزهور لأخيط منه قميصا ، وفي الطريق إلى البيت مررت براس الشراطين واشتريت حذاء بنيا مبرنقا ، وتناولت عصير لوز بالزبيب وكعب الغزال في» باب السلسلة» ، وطرقت باب الصديق «عمر» واقترحت عليه أن نذهب في الأسبوع القادم إلى إفران ، لكنه فضل إيموزار لأن به تلك الكهوف المعلومة . وكنت أفضل إفران لأني كنت أقضي فيها جل أصيافي في ضيافة خالي إدريس الذي كان هو الآخر يعشقها ويأتيها من الدار البيضاء لينعم بسكينتها الأرستقراطية .وذلك ما كان : ارتديت سروال ميشيل بولناريف وقميص جيمي هندريكس وحذاء جيمس بوند وشققت شعري نصفين على غرار أوتيس ريدينغ ، وارتدى عمر سروال البلودجين الذي جلبه معه من باريس وكبوطه الناعم الذي اشتراه من بروكسيل وحذاء الدان الذي أهداه إياه أخوه وانطلقنا . ولدى وصولنا حوالي الحادية عشرة صباحا استقبلتنا أغنية Adieu jolie Candy التي كنا نرددها في جلساتنا البوهيمية . كانت كلماتها تحكي عن توادع غرامي قاس في مطار أورلي . فتنهد عمر وقال لي :
- لنرتح قليلا .
- وهل جئنا على الأقدام حتى نرتاح ؟ تعال نستمتع بوقتنا القصير ..
- مهلا ، دعني أسترد أنفاس .
أدركت أن تعبه لم يكن جسديا . فقد حركت الأغنية ما ترسب في ذاكرته من سفره الأخير إلى بروكسيل وباريس التي كاد أن يقيم فيها إلى الأبد ، لولا ذلك النداء الخفي الذي يعود بنا دوما إلى هذه المدينة التي سحرنا بينابيعها الدفاقة، وجسورها الخشبية الأنيقة ،وبساتينها مترامية الأطراف، ووديانها التي يحلو فيها العوم ويستطاب منها الشرب، وسطوحها المنبتة بظلال الصبايا المحتشمات ،ومنازلها المغسولة بضياء الأقمار القريبة . كان ذلك هو سحر المدينة ، وكنا نحن المسحورين طوعا وإلى الأبد . وها نحن الآن نستظل بأفياء «عين السلطان» والناس ينظرون إلينا كأننا قادمان من كوكب آخر. والحال أننا لم نكن نشبههم في شيء : كان عمر، بشعره المنسدل على غرار المغني الفرنسي جيرار لونورمان وملابسه الأوروبية، أشبه ما يكون بنجم سينمائي ، وكنت أنا بقميصي المزخرف وسروالي الواسع عند القدمين (كانت الموضة تقضي بأن يكون ذيلا السروال مثل قوائم الفيل وكان مقاسهما لدي 27 سم ) وبشعري المقسوم في الوسط أبدو مثل مغن جاز أمريكي قادم من أزقة هارلم . كنا نشعر بتفردنا ونتمسك به . جسدانا هنا وعقلانا في قارة بعيدة .
وبعد أن تناولنا ما لذ لنا من أكل وشراب ودخننا سجائر Cool الرطبة، وقضينا وطرنا من كهوف اللذة ، جعلت الشمس تنحو صوب المغيب ، وكنا في عز الانتشاء ، فدنا مني عمر وقال وعيناه على قدمي سروالي :
- أنا أيضا سأخيط لي سروالا بقوائم الفيل ، ولن تهمني نظرات الناس .
ضحكنا معا ، ثم أخذ يحدثني عن مفاتن باريس ، وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأني قريب من أجوائها ، مادمت أجلس الآن في أحضان مدينة وديعة بنيت داراتها الحديثة على الطراز الأوروبي . وكيلا تتشح عودتنا إلى فاس بلون الحداد قاطعت انسياب ذكرياته وصحت فيه :
- ما رأيك لو نمضي في الأسبوع القادم إلى إفران ؟
- وبعدها إلى أزرو .
- ثم إلى الحاجب .
- وعين اللوح .
- وخنيفرة.
وانطلق لساننا في ذكر المواعد الآتية باستمتاع أطلسي سيال ، قبل أن يداهم سمعنا صوت أغنية الصباح :
« وداعا يا كاندي المليحة .
هنا في أورلي تنتهي عطلتنا الباريسية « .
فأطرقنا معا ، وحلقت أحلامنا في سماء الغروب .
1
تلد غثاء ذائقتي المكظوظة بالأوصاف المشروخة بالأرجاز ليس لها متسع وقت لترتقي شاقوليا سلم الاختيار اللغوي مرقاة مرقاة
لقطف الناضج من الأوصاف من قبيل غثاء أحوى فتقع الواقعة (التي ليست لوقعتها كاذبة ) فيقع الحافر على الحافر والطراق على الطراق يحدوه حذو النعل بالنعل فيكون تناص ناسخ السمات ويكون تلاص طافح الأبوة والنسب يتراءى بين مسام جلده رأس نص غائب ينظر شزرا إلى ابيسيته وقد عممت هامتها بعمامة معلمة بثقوب تطل منها عيون حوة شبيهة بالتي قال عنها الذي قال: وفي الحي أحوى...
2
أيها الهارب في مهب
رياح الطريقْ
ليس هناك طريقْ
فالأرض الأم
فيها الطريق
يظهر لايختفي
حينما نمشيه
خطى اثر خطى
نجتاز شفير الحريقْ

3
تلد ريحا
مطرا
شجرا
غثاء أحوى يسير الهوينى حتى بوابة أمارة ( تيط ) فيطرق البوابة طرقا خفيفا يأخذ يشتد ويتسارع إيقاعه مع استمرار الطرق فتخرج
إليه عذراء تيطية ترتدي فساتين مقصبة بالذهب زاهية الألوان، بعضها أقصر من بعض حد الركبتين كاشفة بضاضة السيقان ورشاقة القوام. يبادر غثاء أحوى بالتحية فترد التيطية بأحسن منها وتسأل ما الأمر ؟ حتى إذا فهمت واستوعبت قصد الطارق المرسول خاطبت جماهير إمارة تيط:
أن اخرجوا من مساكنكم
وافرشوا النمارق
حتى نعانقْ
وأقبلوا حتى لا نفارقْ
فراق غير وامقْ
واستقبلوا بالتحية
غثاء أحوى
جاء الإمارة ناشرا سيفه والبيارقْ
قادما لإبرام اتفاق
قبل التفاف الساق بالساق
يسمح ببناء تنور تفريخ النمل الأقرع لوطر تسليطه على النمل الأحمر قصد ابتلاعه وتخليص الإمارة ، فهو هالك الحرث والنسل،
شارب مياه الآبار، آكل أكباد الأطفال، وممتص نسغ الأشجار
4
أيها السالك ظهرا
فج الريح
ليس هنالك ريح
الريح تكونُ
إذا الأشجارُ تميدْ
أو ترتد إلى صخب السكونْ
فتكونْ.
5
في الجناح الغربي، باتجاه البحر من جبل «البحر الناشف» ظهرت إمارة، لا يعرف متى ولا كيف ظهرت، ووفق رقوق المخطوط العبشمي، فقد أنشأ الإمارة رجال ونساء(تيط)، نزلوا من السماء في عربات الآلهة، تحدوهم الرغبة في الإقامة على الأرض، و العثور على مكان تكون شمسه دافئة، ساطعة ،بعد أن هجم على إيالة كانت لهم في الفضاء ، غبار الزمهرير إثر الانفجار العظيم.
فلما استوطنوا المكان ووجدوا فيه ما يبغون، سموه شمْسة، مؤنث شمس في لغة التيطيين، ثم إن رجال ونساء شعب تيط تناسلوا
فتكاثروا وتعاقب الأسياد الصيد منهم على حكم الأمارة حتى عهد القوط، حيث حكمت ملكة عوراء لا حوراء، ذات عين واحدة، باصرة، ناضرة، ناظرة، غير فاجرة، وكانت تأتي أرباض ونواحي إمارتها كل يوم لأخذ الخراج.
6
أيها... أيهاذا البعيدْ
أيها... ايهاذا القريبْ
أدخل في اليم العظيم
النهر المسجور
مرايا ماء نبع غرير
تجدْ منزلا
مفروشا
(معدا من قبلُ لكْ)
7
ولقد حار محققو المخطوط العبشمي ، في تخريج لقب حاكمة الأمارة،التي صارت تعرف ب(التيطية)، فمن المحققين من قال، إن الملكة العوراء، لا الحوراء لقبت بذلك اللقب ، لأنها حكمت إمارة تكثر بها العيون والينابيع فلقبتْ بصفات المكان، مستندين في تعليل هدا التخريج إلى القول،أمنا اللغة الإفريقية تسمي عين الماء (تيط): تيط غزيرة، ثرة ، ثرثارة،ُُ بالماء زلالا ،نميرا ،عذبا يسيلُ، وفي النسبة تقول: تيطية .وذهب آخرون في تخريج اللقب إلى القول ، إن المرأة وهي تيطية ذات عين واحدة، يسيلُ ماؤها لعور بها، أو لقذى أصابها جعل ما ء عينها يسيلُ دوما ، فكأنها والحالُ هذه، سيلان مياه عيون لا ينقطع.
8
تجدني على سرر مرفوعة ْ
تجدْ دوحا أخضرا
يبكي نائحُهُ
بالدمع الغزير
إلفا ودهرا مأمولا
لم يأت وقْتُهُ
9
قال شارحُ المخطوط العبشمي: رجع الحديثُ إلى ( التيط)، يستعار التيط ُ (العين) لمعان هي موجودة في الجارحة، فيستعارُ للثُقب في القربة، تشبيها ب( التيط) في هيئة الاستدارة، وفي سيلان الماء منها، من قبيل ما جاء في الطرس العاشر من المخطوط: (...... ومن شدة سقوط الرحْل من على ظهر البعير، على رمل الصحراء، سقط البعْلُ،لا بل البغْلُ الأعورُ وسقطت معهُ القربة، فظهر فيها عين ، تيط، ففار الماءُ واندلق على الرمل فغار، فنهض البعْلُ البغْلُ من سقطته وهو يصيحُ: إني الآن على عطش وقد زال النهارُ بنا).
10
ادخل تجدْني
أهلا وسهلا
تحت عريشة
أشواق مجْنونة ْ
تجدْ مرحبا
في النعيم المقيمْ
أبدا لا يفنى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.