ليون: 29 فبراير 1916 (تتمة 1) (يواصل هنا الماريشال ليوطي كلمته أمام نخبة مدينة ليون الفرنسية، على هامش المعرض الدولي للمدينة، الذي نظم سنة 1916، رغم شراسة الحرب العالمية الأولى وهزائم فرنسا في معركة فيردان. وهو يستعرض أسباب اللرهان على القوة المالية للجماعة الإقتصادية لليون.). نعم، إن حضورنا هنا مفيد وضروري. ولقد لفتنا انتباه الجميع، مما يترجم الحاجة إلى ترسيخ قوة العلاقة التجارية التي وضعت أسسها بيننا، والتي لا يمكن لأي ظرف من الظروف أن يسئ إليها بين ليون والمغرب. إنني حين ذكرت منذ قليل بمؤتمر المعمرين الفرنسيين بشمال إفريقيا، الذي عقد هنا منذ سنتين، فإنكم فرحتم عاليا، بالنتيجة التي جعلت معمري تونس ومعمري الجزائر ومعمري المغرب، يخرجون موحدين أكثر من ذي قبل. بل متصالحين. وإنني لأتساءل إن لم تكن تلك المصالحة قد تمت على حساب الإدارة المغربية. لا، إنني لا أحمل لكم أية ضغينة، حتى ونحن لحظتها قد عشنا ذلك بألم. بل إنني أتذكر، عزيزي تيريي، أنكم بعتثم لي تلغرافا كان إنذارا جديا. نعم، لقد تغدى القوم بالجنرال ليوطي وبالإدارة المغربية حينها. لكن، لا عليكم، فها نحن نستطيع التحدث عن ذلك بصيغة الماضي، بل حتى بصيغة الماضي البعيد. ومفيد جدا، أن نتحدث عنها، بالصراحة اللازمة، وأن نشرح أمام بعضنا البعض ما كان يباعد فعليا بيننا. ومنذ التقينا، تفهمنا جيدا تخوفاتكم، فيما أدركتم أنتم أكثر حجم التحديات والمشاكل التي تواجهنا. من بين تلك المشاكل، بل ربما أكبرها، في بدايات تواجدنا هناك، والذي كنا نصطدم به بشكل سبه يومي، هو أمر المواءمة، في بلد نزلنا به لأول مرة، بين المصالح الحيوية المشروعة للأهالي ومصالح القادمين الجدد الذين نزلوا بالمغرب. وهذا لعمري، هو أعقد مشكل يواجه أي حكومة استعمارية. لقد عايشت تجارب استعمارية فرنسية عديدة، وكنت طرفا فيه عن قرب، ودوما كان التحدي أمام كل تلك الحكومات هو هذا الإشكال بالضبط. وكما تعلمون، فإن مهمة أية حكومة هو المواءمة بين المصالح تلك. ليس الأمر يسيرا ولا مريحا، لأن من يقول التوافق والمواءمة، فإنه يقول التنازل والتوافق المتبادل، والنتيجة الطبيعية هي عدم رضى الجميع من الطرفين. في المغرب، كان المشكل أعوص وأعقد من باقي التجارب الأخرى، لأنه ليس هناك بلد آخر فيه تعقيدات مرتبطة بملكية الأراضي والعقار، مثل المغرب. فليس هناك ولا قطعة أرض واحدة في المغرب ليس لها أكثر من مالك في المغرب، وأحيانا يصل العدد إلى أربعة ملاك. البعض يأتيك بالعقود القديمة والبعض الآخر يدفع بحق الإستغلال، وحين نحاول جاهدين تفكيك المشكل، يخرج لنا ملاك جدد ملوحين بمراسيم سلطانية قديمة، وبمواثيق دامغة، مما يجعلك أمام وثائق كلها مفحمة. وصدقوني، ليس هناك من مهمة صعبة أمام أي إدارة مثل هذه الوضعية المعقدة التي تواجهنا وتخلق لدينا الإلتباس. ثم لا تسقطوا من حسابكم تغير الرؤية المفروض على الإدارة الفرنسية منذ إقرار مبدأ الحماية منذ أربع سنوات. فمذ قليل، في دردشة مع واحد منكم، تساءل عن حال سابقي، فقلت له المشكلة أنه ليس هناك سابق لي. والجنرال النبيل، السيد داماد (d?Amade)، الحاضر معنا هنا، الذي إليه يعود الفضل في تواجدنا بالمغرب، يمكنه الشهادة في هذا الباب. سيؤكد لكم، أنه وهو مكلف بالإحتلال العسكري، لم يكن له أي سند مدني، ولم يكن جواره سوى قنصلنا الذي ممثلا بسيطا لفرنسا في بلد أجنبي، وأن سفيرنا المقيم بطنجة، كان مجرد سفير عند دولة أجنبية (1). ولم تصبح لنا إدارة فرنسية، سوى بعد فرض الحماية، ووجدتني أول مقيم عام أمام وضعية غير مسبوقة بالمرة (في باقي وضعيات الإستعمار الفرنسي). لقد كانت النتيجة الطبيعية، منذ البدايات الأولى، التواجه مع نظام قائم سابق. فبعد أن كان سفراؤنا في طنجة يجهدون للدفاع عن مصالح فرنسا بالمغرب، فإنه فكرة تحقيق الحماية كانت تبدو بعيدة جدا، بل أكثر من ذلك، عشوائية وغير واضحة المعالم. وما كان علينا القيام به، أمام خصم مصر على وضع اليد على المغرب مباشرة أو بشكل غير مباشر، ولم يكن هناك ما يثنيه على ذلك، هو وضع القوانين المناهضة لقوانين قائمة وأن نحدد الملكية بغير الملكية، مهما كلفنا ذلك من ثمن (2). بهذا الشكل تمت عملية التنزيل الفرنسي، من خلال دعم هجرة أكبر عدد ممكن من الفرنسيين إلى تلك الأرض، وأن يتملكوا الأراضي ويحوزوا رسومها دون التوقف كثيرا عند مدى قوتها القانونية، لأن الهدف هو منافسة ومعارضة رسوم عقارية كان يراكمها الألمان في أيديهم، فكان لابد من مواجهتهم بحلول ترقيعية آنية سريعة. والأمر لم يكن يعني الألمان فقط، بل حتى ضد المخزن، أي الدولة المغربية، الغارقة في الفوضى والمنافحة لوجودنا بقوة. ومنذ تنزيل الحماية، أصبحت الدولة المغربية، أصبح المخزن، هو نحن، وأصبحت كل المحاولات التي تستهدفه إنما أصبحت تستهدف إدارتنا الفرنسية، التي أصبحت متملكة لمصالح الدولة المغربية. ومراقبة الديون الذي السيد بيرتي، الحاضر معنا هنا، أحد مهندسيه الأوائل، والذي كان أداة حاسمة من أدوات ممارسة الحماية، قد كان أيضا عملا رقابيا ضد المخزن نفسه، بصفته سلطة مراقبة، وأنه كان لابد من آلية مباشرة لمراقبة عمل الحكومة. بل إنه في البداية، كان علي القبول بالتعامل حتى مع إرث المخزن (التنظيمي)، ومحاربة هذه المؤسسة الرقابية وذلك من أجل التسلل إلى دواليب المخزن وسحب المهام منه الواحد بعد الآخر. لأنه كان مهما أن تصبح تلك السلط الرقابية بين يدي مراقب الديون، على أن تبقى بين يدي السلطان الذي كان مناهضا لنا ومشكوكا في ولائه لنا (المقصود هنا عند ليوطي السلطان مولاي حفيظ ? م - ). ودون التحكم في ذلك ما كان ممكنا للإدارة الفرنسية العمل بحرية ولا إعادة تنظيم مجال الدولة (3). باختصار، استبدال المخزن بالإدارة الفرنسية، قد قلب بالكامل كل البنى السابقة. ومن نافلة القول التأكيد على حجم المشاكل التي واجهتنا في بدايات تلك المهمة. إنني أدعوكم إلى تمثل هذه المعطيات دوما وإلى وجهة النظر هذه، حتى تدركوا حجم ما وجهناه من معارضة التي كان علينا اتخاد إجراءات عدة كان يهم فيه الجانب الكمي أكثر من الكيفي، والتي علينا اليوم، أن نعيد تمحيصها بدقة ضمن إدارتنا الجديدة. * هامش: * (1) هذا مهم من ناحية التأويل التاريخي لوجود دولة قائمة في المغرب. وكلام ليوطي يعزز الحقيقة التاريخية، أن غزو فرنسا للمغرب، لم يكن غزوا لقبيلة أو تحالف قبائل، أو أرض مشاع بدون قيادة وتنظيم. بل إنه كان احتلالا لدولة قائمة الذات. * (2) المقصود هنا عند ليوطي هم الألمان بالدرجة الأولى، الذين بقوا طامعين في المغرب حتى آخر لحظة، أي حتى محاولات الإنزال العسكري بأكادير سنة 1911، ثم إنجلترا بشكل أقل رغم الإتفاق السري بينهما سنة 1904، الذي تتنازل بموجبه فرنسا عن مصر والسودان لبريطانيا على أن تتنازل لندن لباريس عن المغرب، لكن دون الشواطئ المتوسطية ومضيق جبل طارق، ومن هنا الحرص على منح ذلك الجزء لإسبانيا لكن بدون طنجة التي بقيت دولية، حتى لا تستحوذ مدريد على مضيق جبل طارق كله. * (3) مهم جدا، أن ننتبه هنا لخطاب ليوطي الصريح والمختلف عن المغرب. فهو هنا يخاطب نخبة مدينة ليون، القوية ماليا وسياسيا دوما في فرنسا. بالتالي، فإنه يحكي حقيقة المشروع الإستعماري بدون مواربة ولا لغة مجاملة. ومن هنا أهمية لحظة الحقيقة هذه، التي برز فيها ليوطي الحقيقي في كامل صورته الإستعمارية الوفية طبيعيا لمصالح بلده فرنسا. فالكلام هنا مباشر لا مواربة فيه.