في البداية نود أن نؤكد أن اختيار العبارات المكونة لعنوان هذا المقال تحمل بالنسبة لنا دلالة سياسية كبيرة، إذ نعتبرها عبارات في صلب الانشغالات الآنية المواكبة للتطورات المختلفة على مستوى الدولة الواحدة وعلى مستوى العالم. ما نلاحظه في سياق التطورات الكونية زمن العولمة، بأزماتها المتكررة، أن الشعوب والدول التي تمكنت من الوعي بالتحديات المستقبلية هي التي لا تدخر جهدا من أجل طلب «الكلمة»، والسعي بكل الوسائل الممكنة من أجل تحقيق شروط احتلال الموقع المناسب سياسيا واقتصاديا وثقافيا على المستوى الكوني، وبالتالي التمكن من إسماع صوتها لدول العالم في سياق تنافسي لا يحتمل إلا القوي. لكن، موازاة مع هذه الانشغالات الأساسية والمحورية في أجندة مجموعة من دول الجنوب، نجد جزءا من النخبة في عالمنا العربي والمغاربي قد سمحت لنفسها اللجوء إلى الحلول السهلة لتحقيق مطامحها السياسية على حساب تقوية الروح الوطنية في بلدانها وبناء مستقبل شعوبها على المستويات القطرية والإقليمية والجهوية. فوعيا منها بثقل ثقافة الماضي، ومكبلاته التي تسجن الفرد والجماعة، لم تجد هذه النخبة من سبيل لبلورة أرضيتها السياسية سوى الركوب على التراث التقليدي والاستثمار فيه، وصياغة الخطابات المؤثرة من خلاله لدغدغة عواطف الناس وضمان تأييدهم. ما يؤسف له كونها تقوم بذلك في سياق كوني تتسابق فيه العديد من دول الجنوب من أجل تقوية وزنها الكوني عبر التقاطب الاقتصادي والسياسي، إلى درجة أصبحنا نسمع ونلمس أن الصين والهند ستصبحان، في الأمد القريب، من ضمن الدول الثلاث المتحكمة في مسار الاقتصاد العالمي. فتفاعلا مع منطق النظام العالمي الجديد، بأزماته الاقتصادية والمالية، ومعاناة نظامه البنكي من الضغوطات العقارية الاحتكارية، وضعف ميكانيزمات ضبطه للحكامة التدبيرية للعلاقات الدولية، وتكريسه للتفاوت في العلاقات ما بين الشمال والجنوب، تجد عددا من دول هذا الأخير في صراع مستمر من أجل تقوية الذات قطريا وإقليميا وجهويا. وقد برز في هذا الشأن مجموعة دول «البريك» (BRIC) التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين، ومجموعة N11 التي تشمل أندونيسيا والمكسيك وتركيا ونيجيريا والفلبين وإيران والعربية السعودية وجنوب إفريقيا والتايلاند والفيتنام وفينيزويلا. إنها دول الجنوب التي تناضل اقتصاديا، بدون إضاعة الوقت في الجدال الثقافي والديني العقيم، من أجل إدماج الجنوب ودول الشرق في اقتصاد السوق، والسوق الدولية، وكذا الانتقال إلى الديمقراطية بخطى ثابتة ومحسوبة ترسخ قيمها في الممارسات اليومية للأفراد والجماعات. إنها تناضل من أجل الاعتراف بالجنوب، بإمكانياته البشرية والطبيعية والاقتصادية، في نظم الحكامة العالمية، وإدماجه، من خلال إستراتيجية محكمة، في التعددية القطبية الاقتصادية، وبالتالي الاعتراف به كطرف في التفاعلات الرامية إلى إعادة بناء توازن مناطق وديناميات التنمية في العالم. نضالها براكماتي محض، أساسه بذل المجهودات الداخلية الضرورية لتنمية الذات، وإبرامها لعلاقات تعاون متعددة الأطراف بأبعاد جغرافية أفقية وعمودية (علاقات شمال/جنوب، وجنوب/شرق/غرب، وجنوب/جنوب). وبهذا التعدد في العلاقات، استطاعت هذه الدول من الإسهام في خلق توازن مناطق وديناميات التنمية في العالم، وتوسيع آفاق التعاون في كل الاتجاهات. وعلى مستوى علاقتها بدول الشمال المتقدم، تجدها فاعلا في بلورة الاستراتيجيات العالمية لتجاوز الأزمات، حيث ساهمت بفعالية مشهودة في النقاش الدولي لتجاوز التركيز على الدولار الأمريكي، وإقرار نظام نقدي معتمد على عملات متعددة (الدولار، الأورو، الجنيه الاسترليني، العملة الصينية الرينمينبي،...). أكثر من ذلك، لقد كان دورها محوريا في الدفع في اتجاه تجاوز هذا الحل الأخير ودفع الغرب إلى التفكير في بلورة جدول أعمال جديد في شأن التحولات النقدية والمالية في العالم، وضمان الاستقرار المالي الشمولي، والذي توج بتزكية اقتراح نظام جديد أصدره صندوق النقد الدولي تحت اسم «حقوق السحب الخاصة»، كوحدة للحساب وللاحتياط الدولي، مع ربط قيمتها بأربع عملات صعبة أساسية هي الدولار الأمريكي، والأورو، والين الياباني والجنيه الاسترليني. وفي عبارة واحدة، واصفة للمجهودات المستمرة لهذه الدول للتأثير إيجابا على مجريات تطور العلاقات الدولية، نقول أنها تمكنت فعلا من الدخول في التاريخ من بابه الواسع، دخلته وأثرت في مجرياته بالتركيز على هدف أسمى حرصت وتحرص دائما على تحقيقه، ويتعلق الأمر بتشكيل جبهة اقتصادية مؤثرة في النظام الاقتصادي العالمي، وقوة ضاغطة من أجل تجاوز منطق التركيز المبالغ فيه للقوى الاقتصادية الغربية على التجارة، والتبادل الحر، والاحتكار المالي اللامنتهي، والتبادل التجاري غير المتكافئ ما بين الشمال والجنوب، وسيطرة دول الشمال. بل أكثر من ذلك، استطاعت أن تثير النقاش بشأن المرور إلى بناء نظام جديد، ينبني على أساس تعدد الأقطاب، تساهم في تنميته وتقويته كل دول ومجتمعات العالم. واستحضارا للانشغال الجدي لدول الشمال بالحكامة الاقتصادية في العالم، وحرص العديد من دول الجنوب ليكون لها حضور فعلي في هذا الشأن، لا يمكن للمتتبع إلا أن يعتبر اللجوء إلى إبراز «المسألة الثقافية» عامة و»الدينية» خاصة بمنطق تقليدي في بلداننا العربية والمغاربية، وما أحدثه ذلك من صراعات على هامش المسار التطوري للعالم، مجرد ظاهرة لا منطق لها ولا أساس، بل يمكن اعتبارها حدث خارج مجريات التاريخ. فمن باب المسؤولية السياسية، لا يمكن السكوت عن تغييب الفرد في جحيم الجماعة (الجماعة «السيدة» الضاغطة) لأن الديمقراطية تحتاج إلى الفرد الواعي الذي يدافع على حقوقه بالقانون، ويؤدي واجباته بالقانون. بالطبع، هذا الاعتبار يجب أن يفرض على كل مستويات المسؤولية في دول ومجتمعات المنطقة التعجيل بالاستثمار الجدي في دراسة واقع شعوبها وارتباطه بتاريخها البعيد والقريب، وتحليله في مختبرات العلوم الإنسانية المختلفة من أجل تمكينها من العودة إلى سكة النضال من أجل تغيير منطق مواجهة الرهانات المستقبلية، وعلى رأسها رهان تحديث الثقافة من خلال إعادة قراءة التراث قراءة عقلانية، وقراءة النص القرآني قراءة اجتهادية تتجاوز الفهم السطحي المعتمد في منطق الآداب السلطانية القديمة ومنطق الطوائف والمذاهب الدينية. نقول هذا، لأننا نعتقد أنه لولا المبالغة في التأويل السطحي لتفسير القرآن الكريم لتحقيق أغراض «سياسوية» ضيقة، لتمكنت شعوب بلدان منطقتنا العربية المغاربية من ربح قرون في مجال البناء التنموي والثقافي. الكل يتذكر في هذا الشأن أمجاد عصر التدوين (العصر العباسي) وما حققه من انجازات، وعصر النهضة التي صدرها الإسلام إلى العالم بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلاديين. إن عصر التدوين، يقول الجابري، كان بامتياز عصر البناء الثقافي العربي العام حيث عرف لأول مرة تقعيد اللغة العربية، والارتقاء بها إلى مستوى اللغة القابلة لأن تتعلم بأساليب علمية وعملية. وبهذا الإنجاز المعرفي التاريخي، تم إعادة بناء العصر الجاهلي، وتدوين علوم الحديث والتفسير والفقه والتنظير للعقيدة الدينية، واللجوء إلى الترجمة والاقتباس من أجل دمج الموروث القديم الضخم، المتعدد والمتنوع، الذي خلقته الثقافات القديمة، البابلية والفنيقية والسريانية والمصرية الاسكندرانية اليونانية في الثقافة العربية الإسلامية الواحدة. إن السبيل الوحيد في نظرنا لتطوير الديمقراطية بالوثيرة المطلوبة يتطلب في نفس الوقت تحديث الثقافة المجتمعية (تطور ثقافة «ديمقراطية الفرد»، وحقه في حرية الاختيار، ودعمه لقيم التسامح والتعايش والاختلاف)، والاستثمار في تقوية الوعي السياسي المدعم للإصلاحات الدستورية والسياسية وفي التطور المادي والتعليمي في المجتمع (إصلاح الأنظمة الاقتصادية والتربوية). لقد تأكد اليوم صعوبة أو استحالة استمرار الحكم بنفس منطق الماضي، بل أصبح من متطلبات العصر التعامل مع المتغيرات بوعي وحرص شديد على خدمة مصالح الشعوب، وتهييء الأفراد لأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. وهذا التهييء هو الذي سماه الجابري ب»التخطيط الثقافي» الذي يقتضي التوفر على أجندة بجدولة زمنية مدروسة تضمن انجاز الإصلاحات الكبيرة في مختلف المجالات. أكثر من ذلك، لقد فرضت ضغوطات التحولات الجارية الطابع الاستعجالي لتحقيق هذه النهضة. لقد مكن التفاعل الثقافي بواسطة النظام الاتصالي العالمي الجديد، وما حققه من تعدد في الوعي، من إسقاط حاجز الخوف عند الفرد، وتكسير آليات الاستعباد والخضوع للمطلق والمقدس، ومن تقوية تشبثه بالمطالبة بالكرامة والمردودية العمومية والمحاسبة. وموازاة مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار لهذه التحولات السريعة ومتطلباتها، نلمس أن هناك ضغط آخر من نوع خاص تفرضه تهديدات «إضعاف» الأحزاب السياسية، تهديدات مرتبطة بكون الطبيعة لا تطيق الفراغ، وأي فراغ قد يسهل مأمورية المتربصين بمسار التغيير في «رسملة» الرأي العام لصالحها، وبالتالي تقوية إمكانياتها في نشر المحافظة في المجتمع، ومحاصرة الوعي الديمقراطي التقدمي الحداثي. فنموذج دولة مالي في هذا الشأن مليء بالدروس والعبر. فهذه الدولة عاشت ثورة انتخابية ديمقراطية في الأمس، وتحولت، بسبب عدم الاستثمار في التحديث الثقافي والتنمية البشرية، إلى دولة منهارة. وفي شأن هذا التحول المعاكس لمجرى التاريخ قال الباحث الأنتروبولوجي جيل هولدر في حوار لجريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 10309 بتاريخ 31 يناير 2013 أن رجال الدين في مالي انتعشوا بفعل الديمقراطية بعدما كان المجال الديني أكبر مستفيد من هذا المسلسل، وتمكن من تحقيق الاستقلال الذاتي في المجال العمومي من خلال إنشاء المساجد وبروز شخصيات كاريزمية... مجالات المساءلة الديمقراطية الوحيدة كانت هي التظاهرات الدينية الكبرى مثل عيد المولد النبوي، حيث يوجه الخطباء والدعاة انتقاداتهم للدولة أمام عشرات الآلاف من المريدين...الديمقراطية بإدخالها للتنافس في المجال الديني، أدت إلى تحويل الشأن السياسي نحو الديني (الوهابي). كما تتبعنا جميعا أن الرئيس المصري الجديد، الدكتور مرسي، حاول نهج نفس المسار لتمكين الإخوان المسلمين من السيطرة على السلطة، إلا أنه وجد أمامه مقاومة شديدة من المعارضة (جبهة الإنقاذ) دفعته إلى المطالبة بحوار وطني.