في خضم الأزمات والتحوّلات والمعارك تعلو من حين لآخر، أصوات تحتجّ على غياب المثقفين ورجال الفكر وبعدهم »عن السّاحة«، فتتّهمهم بأنهم »يقبعون في أبراجهم العاجية«، بعيدين ممّا يجري، وغالباً ما تعزو صمتهم هذا إلى »انتهازيتهم المعهودة«، وحسّهم البراغماتي. ما يثير الانتباه هو هذه المعالجة »الأخلاقية« للمسألة، ويظهر أنها معالجة لا تولي كبير عناية لطبيعة هذا »الصمت« ودلالاته. أمر واضح هو أن هذا الصمت صمت مزعج بالنسبة الى كثير من الأطراف. فالظاهر أن المؤسسة »تهاب الفراغ« مثل طبيعة أرسطو، وهي لا ترتاح كثيراً لأولئك الذين يخلدون إلى الصمت. وربما لا يهمّها كثيراً أن يكون كلامهم ضدّها أو معها، أن يكون نقداً ومؤاخذة، أو تأييداً ومساندة، ما يزعجها أكثر هو غياب أيّ كلام، هو »الإضراب التلقائي« عن أيّ شكل من أشكال التعبير، أو لنقل على الأصحّ، ما يزعجها بالضّبط هو هذا الشكل من التعبير الذي يلوذ بالصمت، فكأنها ترى في »الإمساك عن الكلام« مفعولاً أكبر من كلّ كلام. تدرك المؤسّسة أتمّ الإدراك أن هذا التواطؤ على الصّمت لا يكون في الأغلب الأعمّ فعلاً إرادياً وقراراً جماعياً يتخذه المثقفون عن طواعية وسبق إصرار، وهي تعلم أن مجريات الأمور و »قوة الأشياء« هي التي تشل الذهن، وتبلد الفكر، وتعطل الإحساس، وتقتل المشاعر، فتلجم الأفواه، إلا أنها لا تنفك ترى في ذلك التعطيل اتهاماً ضمنياً بأنها هي المسؤولة عنه، بل عن كل أسبابه ومسبباته. لا يعني ذلك أن الصّمت يكون دوماً أبلغ من الكلام، كما لا يعني بالأوْلى تمجيداً للعطالة ودعوة إلى الحياد، فليست هذه بطبيعة الحال هي الوضعية »الطبيعية« للمثقف، إلا أنها قد تكون هي ما يتبقى له في وضع بعينه. غداة الحرب العالمية الثانية صاح بعضهم: »لا شعر بعد أوشفيتز«. لم يكن هذا »الشعار« نداء إلى الشعراء ودعوتهم لكمّ أفواههم والركون إلى الصمت، وإنما كان وصفاً لوضعية وتقريراً لاستحالة، وإحساساً بأن ما وقع كاف لأن يعطل كل إحساس، ويفرغ الكلام من كل معنى. ما قد يدفع إلى الصمت إذاً يتجاوز الأخلاق والأفراد والنّيات والمقاصد. ذلك أن »قتل المعنى« لا يتوقف على النيات وحسنها أو سوئها، وإنما يتولد بالأوْلى عن واقع تجمدت حركته، وتكلست قيمه، وتخشبت لغته، واقع قد لا ينفع معه إلا »الصمت المتألم المؤلم«.