كيف يمكن تأمل ما أبدعه اللسان الشعبي المغربي خلال نهائيات كأس العالم للأندية البطلة بأكادير ومراكش، من شعارات، التي تحولت في رمشة عين إلى شعار عالمي، أصبح يردده الكوري والصيني والبرازيلي والأمريكو لاتيني والكندي والسويدي والجنوب إفريقي والألماني؟. وفي ترديد العالم له لم يكن مهما المعنى بالضرورة بل موسيقى الإنسان كنشيد.. لقد جعلنا فريق الرجاء البيضاوي ندمن الفرح، لأسبوعين، وحولتنا كرة القدم، كما قال مرة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، من مشاهدين إلى عشاق. عشاق لأمل ومعنى وانتماء. بل إن الكرة التي تتدحرج بين الأرجل وتتقادف بين السماء والأرض كقمر عشاق كل يريد حيازته إليه، قد أعادت إلينا بدون أن ننتبه إلى ذلك، معنى ما يفعله الإبداع الشعبي في حياة الأمم والشعوب، ضدا على الثقافة العالمة، التي لا ترى الإبداع سوى في التعابير الخارجة من بين دفتي كتاب ومن كراسي الجامعة وسلطة المعرفة الرسمية. لقد أعادت إلينا أناشيد جمهور الرجاء التي أبدعها بسرعة الحاجة الآنية للحظة، تأمل ألق ذلك الإبداع الشعبي الغارق في ذكاء خارق رهيب. وكيف أن الشعار قد ينطلق من فرد وسط كومة الجمهور، ليصبح في رمشة عين، شعارا كونيا مثل الذي حققه نداء شعب الرجاء البيضاوي «والواليدة صيفطي اللعاقة.. الرجا باقا». بل، قليلا ما ننتبه إلى مكر الشعار نفسه، لأنه كما لو أنه يعلن ضمنيا أن لا أحد كان ينتظر بقاء الفريق المغربي في المنافسة، وأنه بالتالي قد اجترح المعجزة، بأن انتصر ليس فقط على فرق عالمية، بل انتصر أيضا على نفسه وعلى قلة الإمكانيات وعلى أفق الإنتظار الجماعي الذي لم يكن يعتقده فائزا أمام أقدام راسخة في اللعبة بملايير الدولارات. بل حتى كلمة «اللعاقة» هي عربية أصيلة، لأنه بالعودة إلى «لسان العرب» سنجد أن عبارة «اللعقة واللعاق» تفيد الشئ القليل الزائد، أو ما تبقى من طعام في الفم بعد الشبع. من هنا فإن اختيار الشعار لعبارة «اللعاقة» كناية عن المال مغربيا، تفيد أيضا طلب ما فاض من مال عن جاحة العائلة إليه. وهنا الرسالة بليغة في ذلك الإبداع الشعبي دلاليا. بل إن الإبداعية الشعبية الماكرة ستكبر أكثر مع الشعار الآخر الموالي بعد التأهل إلى النهاية لمواجهة الألمان، حين أصبح النداء هو «والواليدة صيفطي الدعاوي. الكاس رجاوي». هنا أصبح المطلب أكبر من المال الزائد عن الحاجة، بل أصبح المطلب هو الأمل، لأن دعاء الأمهات تسمعه السماء صافيا دوما. إن رفاق محسن ياجور ومحسن متولي، قد جعلونا نستعيد تأمل حكاية هذه اللعبة الرياضية الساحرة التي اسمها كرة القدم في حياة البشر، لأنه في لحظة زمن مكثف أصبح فريق الرجاء أيقونة عالمية وجهت انتباه العالم إلى بلد إسمه المغرب وناس إسمهم المغاربة عنوان اكتشاف كوني عبر مسرح مفتوح على الحياة إسمه رقعة الملعب الخضراء. وعاد إلينا ذات السؤال العميق بعد أن انطفأت أنوار ملعب مراكش: ماذا نفعل بعد أن عاد الماردون إلى أهلهم؟ مع من سنسهر، بلغة محمود درويش، بعدما اعتدنا أن نعلق طمأنينة القلب وخوفه على الأقدام المعجزة. ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة بعدما اكتشفنا البطل فينا الذي أجج داخلنا الحاجة إلى البطل، بطل نصفق له (كما فعل لاعبو الباييرن الألماني وقوفا في صفين حتى عبر شبان المغرب الفقراء مثلما تعبر الأسطورة في درب الأولمب)، نصفق له وندعو له بالنصر ونخاف عليه وعلى حلمنا من الإنكسار؟. علينا الإنتباه أن منجز فتية الرجاء، على مدى أسبوعين من الزمن النفسي المكثف، إنما أعاد إلى الذاكرة قصة هذه اللعبة الرياضية مع سؤال الإبداع، وكيف أنها ليست مجرد لعبة للتسلية، بل إنها لحظة من اللحظات التي يكبر فيها الإنساني في الإنسان. ألم يقل المفكر اليساري الإيطالي الشهير غرامشي: »إن كرة القدم هي مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق«.. ألم يتساءل محمود درويش: لماذا لا يتعامل الأدب مع هذا البارود العاطفي، الذي يشعل الملايين في علاقتها بالمشهد الذي يحولها هي إلى مشهد درامي؟ ثم: أهناك عذاب أشد، ووحشة أقسى من عذاب حارس المرمى، ووحشته الكونية، أمام ضربة جزاء؟ . أهناك ضغط نفسي أثقل من ضغط الوقوف الدقيق على وتر النجاح أو الفشل، والتحكّم بمصير الأمة المعنوي، حين يقف الهدّاف الماهر لتسديد ضربة الجزاء، مثلما فعل متولي؟ . من منا لا يتذكر حكمة الروائي الفرنسي/الجزائري، ألبير كامو، الذي كان حارس مرمى، التي تقول: »تعلمت أن كرة القدم لا تأتي مطلقا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها. وقد ساعدني ذلك كثيرا في حياتي، خصوصا بالمدن حيث الناس ليسوا مستقيمين دائما«.. من منا لا يذكر النص الأدبي الجميل للروائي النمساوي بيتر هاندك، الذي اختار له عنوانا فارقا: »قلق حارس المرمى أثناء ضربة الجزاء«.. ثم تلك المقالات الآسرة للناقد والأديب الإيطالي إمبيرتو إيكو، حول بطولة »الكالشيو« الإيطالية، وحول كأس العالم، التي يعتبر فيها هذه الرياضة طقسا للمرموزات، وكيف أن الكرة الدائرية الشكل، هي كناية عن دوران الكرة الأرضية، وعن دوران رأس الإنسان، وأنها متوالية من الفرح الطفل للناس، وأداة عمومية للتربية على تقبل الهزيمة والسعي للفوز بشرف.. وأن الروائي الأمريكي الشهير بول أوستر، قد اعتبر أن هذه الرياضة هي »البديل عن سفك الدماء« في الحروب الكونية. وأنها »معجزة الأمم الأوروبية في ممارسة كراهية الآخر، دون الاضطرار الى تمزيق أوصاله في ساحة قتال«، مضيفا: »تخوض البلدان اليوم حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون السروال القصير. والمفترض أن هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها. غير أن الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة في السماء، في المدرجات والساحات العامة والبيوت«. لكن، أجمل الأسئلة التي طرحها الفكر حول كرة القدم، ذلك السؤال الذي يقول: »لماذا تستهوي كرة القدم الرجال أكثر من النساء؟!«.. وكان الجواب: لأنها امرأة!!. فالبرازيليون يلقبونها ب: »السمينة«، ويسمونها: »الطفلة«. بهذا المعنى، إن الذي أخرج الملايين بالمغرب في ليالي دجنبر القارسة، ليس اللعبة وحدها، بل المعنى الذي تعممه عنا جميعا أمام العالم. إنها صرخة الفوز التي ليست بهذا المعنى مجرد صرخة تنفيس، بل عنوان حاجة لإسماع صوت الجماعة المغربية أمام العالم. إنها صرخة حلم البطولة التي تحرر الروح من قلق الهزيمة في باقي أمور الحياة.