لم يثر كتاب فاطمة المرنيسي "الحريم السياسي. النبي والنساء"، حين صدور طبعته الأولى باللغة الفرنسية (منشورات ألبان ميشيل)، كثير معارضة ولا ولد جدلا عنيفا ضده من طرف الفقهاء أنصار التأويل الحرفي للنص المقدس، قرآنا كان أو أحاديث نبوية، رغم أنه شكل محاولة جريئة لقراءة الأوضاع التي آلت إليها المرأة في دولة الإسلام الأولى اجتماعيا وضمن سياق المرحلة التاريخي، ولتفنيد بعض المزاعم المنغلقة التي هيمنت لاحقا، بل وإلى حدود اليوم، على المجتمعات الإسلامية والعربية، ممتطية لبلوغ هدفها على إلغاء تاريخانية النصوص المقدسة. ربما لم تولد الطبعة الفرنسية من المؤلف هجوما شرسا من قبل الفقهاء هؤلاء لسبب بسيط: جهلهم للغات الأخرى غير التي عربية القرآن! لكن أصحابنا سيحشدون السيوف ويعلنون حربا ضارية ضد الباحثة بمجرد نشر ترجمة "الحريم السياسي" إلى العربية. وحسنا فعلوا، رغم عنفهم الرمزي الذي حمل في طياته دعوات لتكفير فاطمة المرنيسي لم تكن كلها مضمرة. وكيف لهم غير ذلك، والأمر يتعلق بقراءة وتحليل مغايرين لما تمت صياغتهم عليه منذ توقف العقل المسلم عن الاجتهاد ليساير تحولات مجتمعه التاريخية؟ كيف لهم غير ذلك، والمرنيسي تنتصر لإسلام "يتأكد كدين للآيات، التي يمكن أن تعني (إشارات) أو علامات في المعنى العلمي للدلالة اللغوية للعبارة. فالقرآن هو مجموع إشارات يجب فك رموزها بالعقل، العقل الذي يرتب مسؤولية الفرد، وعمليا سيادته."؟ قضايا كثيرة قامت الباحثة المغربية الجريئة، التي لا ترتكن للكسل الفكري، بتشريحها ونبشها، مهشمة بذلك طبقات التكلس التي عاقت الاجتهاد طوال قرون، لن نبرز من ضمنها إلا قضية لا تزال تسيل كثيرا من المداد و"تلهم" موزعي الفتاوى، وهي القضية المتولدة عن سؤال الحجاب والمؤدية إلى مناقشة "شرعية" مقاومته من طرف المسلمات. إن عمر بن الخطاب احد "أبطال" فرض الحجاب في المدينة، عمر الذي "كان لديه ردة فعل العشيرة التي كانت تشكل عمود الأخلاق في جزيرة العرب الجاهلية، تشرح الباحثة في كتابها. ولم يستطع، رغم حبه للنبي (ص) وربه الذي سوف يخدمه باستقامة تثير إعجاب الجميع، أن يتخيل حِلم النبي (ص)." وفي ذات السياق، قالت فاطمة المرنيسي في الحوار معها الذي تضنه مؤلف "مهنة المثقف" الصادر مؤخرا بتوقيع فاضمة آيت موس وإدريس كسيكس، مؤكدة عبر ذلك ما أوردته في "الحريم السياسي": "لقد اعترف الخليفة عمر، الذي كان ذا نزعة ذكورية، بوضوح أن الإسلام رفع من شأن المرأة، مزعزعا بفعل ذلك التقاليد الأبيسية: (عن ابن عباس رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب قال: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم). ويجب أن نتذكر أساسا أن هجرة النبي من مكة، حيث كان رجال قبيلة قريش ذوي نزعة ذكورية بالأحرى، إلى المدينة، حيث كانت نساء الأنصار مسيطرات على الرجال، أن هجرة النبي زعزعت كليا الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب الذي سيصبح لاحقا الخليفة الثالث. لقد عبر هذا الأخير عن مفاجأته أمام هذه الثورة الجنسية غير المنتظرة بقوله: (وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار). ومن جهة أخرى، فكون الإسلام ضد الرهبانية، خلافا للمسيحية، ساعد على تحرير الحوافز الجنسية، مع تحديد حدود الزنا ودفع الرجال والنساء إلى أن يصبحوا أفرادا مسؤولين". تكتب فاطمة المرنيسي في "حريم النساء" بأن فلسفة الحجاب التي نادى بها عمر واضحة. "عندما أُكره المنافقون الذين كانوا يعتدون على النساء على تبرير سلوكهم، أعطوا التبرير: (بأنهم ظنوا أنهن عبدات) و(الله أمر النساء بتغيير زيهن ليتميزن عن الإثم. ذلك بأن يسدلن عليهن جلابيبهن)." هكذا إذن فرض السياق التاريخي إيجاد وسيلة للفصل بين الإماء وبين النساء الحرات، لتنزل عقبها الآية الحاجبة للحرات. وتستنج الباحثة من برهنتها السالفة أنه: "في الصراع بين حلم محمد (ص) بمجتمع يمكن فيه للنساء التحرك بحرية في المدينة، لأن الرقابة الاجتماعية سوف تكون الإيمان الإسلامي الذي ينظم الرغبات، وبين أخلاق المنافقين الذين لم يتصوروا المرأة إلا كموضوع للعنف والشهوة، كانت هذه الأخيرة التي رجحت، فالحجاب هو انتصار للمنافقين..." وبناء عليه، فسوف يقسم الحجاب النساء المسلمات منذئذ إلى صنفين: "النساء الحرات، اللواتي حرم اغتصابهن، والنساء الإماء، اللواتي أبيح التعرض لهن. في منطق الحجاب، حل قانون الاغتصاب القبلي محل عقل المؤمن الذي أكد عليه رب المسلمين كأمر لا بد منه كي يميز بين الخير والشر". بعدها، تتطرق فاطمة المرنيسي إلى محاولة بعض المسلمات المقاومة ورفض الحجاب، مطالبات بحق الخروج سافرات (برزة). لتطرح السؤال المزعج الذي أثار نقمة فقهاء "ويل للمصلين": "من هن هؤلاء النساء المسلمات اللواتي قاومن الحجاب؟" لنترك للباحثة المجال لحكي سيرة أشهرهن كاملة: سكينة، حفيدة النبي وبنت الحسين بن علي. "إن اشهرهن سكينة إحدى حفيدات النبي (ص) من ابنته فاطمة، زوجة علي، علي الشهير، الخليفة الراشدي الرابع البائس الذي ترك الخلافة لمعاوية وكان قد جرى اغتياله من قبل أول إرهابي سياسي مسلم. مصير أبنائه سيكون مأساويا كمصيره، ولسوف تشهد سكينة من جهة أخرى مذبحة والدها في كربلاء، وهذه المأساة تفسر جزئيا تمردها ضد الإسلام السياسي، العاتي والمستبد، وضد كل من ينتهك حرية الفرد بما في ذلك الحجاب. "ولدت سكينة في عام 49 هجرية (671 م تقريبا)، لقد اشتهرت بجمالها، وما كان يسميه العرب جمالها خليط متفجر من اللطف الطبيعي والعقل الانتقادي والفصاحة اللاذعة. لقد تخاصم حولها الرجال الأكثر قوة، خلفاء وأمراء طلبوا الزواج منها ولكنها احتقرتهم لأسباب سياسية. مع ذلك سوف تنتهي إلى الزواج خمس مرات... وبعضهم يقول ستة. لقد عارضت بعضهم، وأظهرت حبها الملتهب العاشق للبعض الأخر، وقاضت أحدهم أمام المحكمة لعدم أمانته ولم تقبل مطلقا الطاعة لأحد. في عقود زواجها، كانت تشترط أنها لن تطيع الزوج، ولا تفعل إلا ما يوحي به عقلها، وأن لا تعترف لزوجها بحق تعدد الزوجات، كل ذلك بسبب من مصلحتها بالنسبة للقضايا السياسية والشعر. لقد استمرت على استقبال الشعراء في منزلها وحضور مجالسهم، رغم تعدد زيجاتها، في مجالس قريش المشابهة لمجلس بلدي غير مركزي ويدار ديمقراطيا في أيامنا. "إن شخصيتها التي فتنت المؤرخين الذين كرسوا لها صفحات وصفحات، وأحيانا سيرة كاملة، رطبت واقع التاريخ القاسي : مذبحة والدها الحسين بن علي، في كربلاء، أحد كبار الثائرين في التاريخ الإسلامي، الحسين ذلك الرجل المسالم الذي أعلم معاوية بعقد خطي قراره بالتنازل عن الخلافة شرط أن يتركه يعيش بأمان مع عائلته. شاعر اشا بالنساء اللواتي أحبهن: رباب زوجته وسكينة ابنته. بعد موت معاوية، رفض مبايعة ابنه، فذبح في كربلاء وسط أهله، وكانت سكينة ترافقه. إنه يوم عاشوراء، وسوف تحافظ سكينة طيلة حياتها على احتقارها الذي لم تكن تتردد في التعبير عنه ضد العائلة الأموية المالكة، وسوف تهاجمها في الجوامع، وسوف تشتم حكامها وممثليها في كل مرة تقتضيها المناسبة، وكانت تعمل على إعداد مثل هذه المناسبات. " لقد عملت على توقيع عقد زواج مع أحد أزواجها تؤكد فيه على حقها بالنشوز، هذا التمرد ضد السلطة الزواجية التي عذبت كثيرا ضمير الفقهاء. لقد طالبت بالحق لها في النشوز، وكانت بزينتها وبكياستها وعبقريتها تؤكد على أهمية حيوية المرأة في التقليد العربي. إن المؤرخين العرب المعجبون والمقدرون لها يسرهم عرض مشاهد معاملتها، والدعوى التي رفعتها ضد احد أزواجها الذي انتهك شرعة الزواج الأحادي الذي كانت فرضته عليه في عقد الزواج. ومع أن القاضي كان مذهولا بشروط العقد، فقد كان ملزما بالحكم، مع أن زوجته الخاصة جاءت لتحضر محاكمة العصر وأن الخليفة أرسل مبعوثا لينقل إليه مسيرة الدعوى... " ماتت سكينة في المدينة، في سن 68 سنة (سنة 117 هجرية). ومصادر أخرى اعتبرت أنها ماتت في ال 77 سنة من عمرها في الكوفة . وهذا هو الأرجح . لأنها لم تكن تحب العراق ولا العراقيين: (قتلتم جدي وأبي وعمي وزوجي)، قالت هذا مشيرة إلى ترملها . إن مصعب بن الزبير أحد أزواجها الذي أحبته أكثر من غيره ،قتل من قبل الأموي عبد الملك بن مروان خامس خليفة أموي ( 658 - 708 )"»