إطلاق منصة رقمية للإبلاغ عن المحتويات غير المشروعة على الأنترنيت    المغرب والمجموعة الصينية-الأوروبية "غوشن هاي تيك" يوقعان اتفاقية استثمارية بكلفة 12,8 مليار درهم    مليون و200 ألف مجموع الحجاج الذين قدموا لأداء مناسك الحج في حصيلة أولية    وليد الركراكي يوضح موقفه من حج نصير مزراوي    الركراكي يكشف سبب غياب مزراوي وريتشاردسون عن المنتخب    عيد الأضحى بالمغرب.. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تعلن موعد مراقبة هلال شهر ذي الحجة    بسبب "الفسق والفجور".. القضاء يصدم حليمة بولند من جديد    الملك يهنئ عاهل مملكة السويد والملكة سيلفيا بمناسبة العيد الوطني لبلدهما    "غياب الشعور العقدي وآثاره على سلامة الإرادة الإنسانية"    إصدار جديد بعنوان: "أبحاث ودراسات في الرسم والتجويد والقراءات"    أخنوش أمام مجلس النواب للإجابة عن أسئلة السياسة العامة    إقصائيات كأس العالم 2026.. أسود الأطلس من أجل استعادة الفعالية الهجومية    تداولات إغلاق البورصة تتشح بالأخضر    الأرض تهتز تحت أقدام ساكنة الحسيمة    الحكومة تحدد مسطرة جديدة لإخراج قطع أرضية من الملك العمومي المائي    طنحة تطلق العد التنازلي لموسم الصيف وتنهي تهيئة شواطئها لاستقبال المصطافين    أساتذة العلوم يحتجون في كلية تطوان    الحكومة تؤكد فتح تحقيق قضائي في فاجعة "الماحيا"    الحكومة تؤكد فتح تحقيق قضائي في فاجعة الكحول المسمومة    مجلس الحكومة يتتبع عرضا حول برنامج التحضير لعيد الأضحى    مانشستر يونايتد يفاجئ الجميع بهذا القرار الذي يحدد مصير أمرابط    هذه أسباب نفوق 70 من أضاحي العيد    غزة.. مقتل عشرات الأشخاص في غارة تبنتها إسرائيل على مدرسة للأونروا تؤوي نازحين    في وداع حقوقي مَغربي    مبيعات الإسمنت تتجاوز 5,52 مليون طن    ارتفاع عدد قتلى حريق "قيسارية فاس"    ضبط سيارة بمخدرات في القصر الكبير    الإجهاد الفسيولوجي يضعف قدرة الدماغ على أداء الوظائف الطبيعية    أونسا يكشف أسباب نفوق أغنام نواحي برشيد    إسبانيا تنضم رسميًا لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    تكريم مدير المركز السينمائي عبد العزيز البوجدايني في مهرجان الداخلة    مقتل قرابة 100 شخص بولاية الجزيرة في السودان إثر هجوم    أولمبياد باريس 2024 : ارتفاع أسعار السكن والإقامة    توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة    "الأسود" يختتمون تحضيراتهم بالمعمورة ويتوجهون إلى أكادير لملاقاة زامبيا    قرض ألماني بقيمة 100 مليون أورو لإعادة إعمار مناطق زلزال "الحوز"    توقيف شخص بطنجة وثلاثة بمدن أخرى موالين لتنظيم "داعش" الإرهابي للاشتباه في تورطهم في التحضير لتنفيذ مخططات إرهابية    هشام جعيط وقضايا الهوية والحداثة والكونية...    أولمبياكوس يُغري الكعبي بعرض يتجاوز 5 ملايين يورو    الصناعة التحويلية .. أرباب المقاولات يتوقعون ارتفاع الإنتاج    ارتفاع أسعار الذهب مع تراجع الدولار وعوائد سندات الخزانة    الإعلام الجزائري.. مدرسة المدلّسين    أمسية شعرية تسلط الضوء على "فلسطين" في شعر الراحل علال الفاسي    الصحة العالمية: تسجيل أول وفاة بفيروس إنفلونزا الطيور من نوع A(H5N2) في المكسيك    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم ليوم الخميس    عموتة يحسم الجدل بخصوص عودته لتدريب الوداد الرياضي    مجددا.. إسرائيل تقصف مدرسة بغزة تأوي اللاجئين ووسائل إعلام تعلن مقتل 27 فلسطيني    مقتل 37 شخصا في قصف مدرسة بغزة    اليونيسف: 90% من أطفال غزة يفتقرون إلى الغذاء اللازم للنمو السليم    الممثلة حليمة البحراوي تستحضر تجربة قيادتها لأول سربة نسوية ل"التبوريدة" بالمغرب    نور الدين مفتاح يكتب: آش غادي نكملوا؟    "التسمين" وراء نفوق عشرات الخرفان المعدة لعيد الأضحى بإقليم برشيد    طبيب مغربي يبتكر "لعبة الفتح" لتخليص الأطفال من إدمان الشاشات    انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    حكومة الاحتلال واعتبار (الأونروا) منظمة إرهابية    المخرج عزيز السالمي يترأس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان الرباط كوميدي    قوافل الحجاج المغاربة تغادر المدينة المنورة    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابن باجة و ابتكار فلسفة المتوحد

من الواضح أن تناول متن ابن باجة من خلال كتابه « تدبير المتوحد «، يفرض علينا ربط التصور الفلسفي للتاريخ بالتصور الفلسفي للسياسة المدنية، ومحاولة تلمس الإجابة عن هذا الإشكال من خلال فلسفته الداعية إلى انخراط الفلسفة في الواقع، بيد أن أن الممارسة النظرية للفلسفة لن تكون ذات فعالية بالنسبة للإنسان، إن هي اقتصرت على تحريك الوعي نحو تحقيق رغبة سيكولوجية، مما يجعلها لهوا أو ترفا فكريا، كما اتهمت و تتهم .
والواقع أن الفلسفة نظرة أصيلة للواقع ودعوة ملحة لتغييره، وبالتالي وجب أن تكون فلسفة عملية، فلسفة للفعل، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت نتائجها النظرية على صلة واتصال وثيق بحياة البشر وتطلعاتهم ومصائرهم، وبالتالي تهيئة المناخ الفكري للتغيير المأمول، أي تحقيق حلم « المدينة الفاضلة « رؤية كهذه: تتوخى الأفق العملي للفلسفة السياسية التي تنزل الفلسفة من عليائها وتجعلها على تماس مع الواقع، فتتخذ من النقد آلية ومرتكزا إلى السعي والرغبة في تغييره، فتكون بذلك فلسفة للتغيير ونحو التغيير.
وانطلاقا من هذا المعنى وهذا المبنى العملي للفلسفة، حاول ابن باجة أن يقرأ الواقع السياسي والتاريخي للمجتمع والعصر الذي عاش فيه، فطرح مشروع «الإنسان الإلهي» مؤسس المدينة الكاملة، بديلا للإنسان البهيمي الذي أوجدته المدن الناقصة وتحكم التاريخ في مصيره وبذلك رام اتجاها نقديا طبع فلسفته .
إن أية إشكالية فلسفية لا تنشأ من فراغ، بل لها جذور وأسباب وأصول وظروف تشكل مناخا عاما لإنتاجها، مناخ يتكون من جانبين :
– جانب ذاتي يمثله الفيلسوف بوعيه.
– جانب موضوعي يمثله العصر بمعطياته التاريخية والاجتماعية .
مناخ يفرز وقائع وتحديات تجابه فكر الفيلسوف، فتثير التفلسف لديه، فالعصر يمثل المثير والفيلسوف يمثل الاستجابة . ومن ثمة فإن الفيلسوف ليس منفصلا عن عصره ولا عن تاريخه، فهو يتأثر بالزمان والمكان بكل تجلياتهما ومعطياتهما، فيعيش نتيجة ذلك مخاضا فكريا على مستوى وعيه الفردي، فينتهي به ذلك إلي بلورة تصورات فلسفية للوقائع والقضايا التي يجابهها.
وتأسيسا على هذا، فالتعرف على فلسفته، والإحاطة بها و التعمق في فهمها واستجلاء أبعادها، يتطلب بداية تحديد الإطار العام الذي تشكلت داخله والمتمثل في كل من الجانب الذاتي والجانب الموضوعي.
فالوقوف على خصائص العصر وميزاته والواقع ومشكلاته، والتعرف على السيرة الذاتية للفيلسوف ( مواقفه واهتماماته)، تمكن من معرفة الأحوال النظرية والعملية لفلسفته العامة والإشكاليات التي تطرحها بخاصة، ومن هنا فإن البحث المنهجي السليم لأية إشكالية فلسفية يقتضي ضرورة ربطها بإطارها النظري الذي تبلورت فيه، فنجد أن فكرة « التوحد « تمثل الإشكالية المركزية في فلسفة ابن باجة حول « الإنسان « وعلاقة ذلك بمفهومي « السياسة ‘' و «التاريخ « ،على أن التوحد مفهوم فلسفي قاعدي وإجرائي في التأسيس للنظرة الفلسفية لسياسة المدينة وحركة التاريخ عند ابن باجة. ففكرة التوحد لم تنشأ من فراغ وليست وليدة الخيال، بل إنها تعبر عن موقف فلسفي مؤسس على خلفية عملية، إنها موصولة الجذور بالواقع الاجتماعي والتاريخي الذي عاشه ابن باجة .
لقد عاش إبن باجة تجربة التوحد واقعا، وعانى من مرارتها قبل أن يؤسس لها فلسفيا، فطبعه الفلسفي الذي تربى عليه فكرا وسلوكا هو ما جعله يتميز وينفرد ويشعر بالوحدة في مجتمع تأسس على طبع غير فلسفي، فرفضه وأدان طريقة تفكير أصحابه واستهجن سلوكهم. ولذلك ظل وحيدا لا يأنس لصديق ولا يطمئن إلى مجتمع. حيث تلقى الأذى من طعن الفقهاء في إسلامه، وحسد الأطباء لتفوقه، تلك هي الأصول العملية والتأثيرات الواقعية والتاريخية التي أسست لفكرة التوحد. وبغير الرجوع لهذه الأصول لا يمكن فهم إشكالية التوحد لدى إبن الصائغ على حقيقتها .
لما كانت الغاية القصوى للمتوحد هي إدراك المعقولات الكلية الخالصة، والاتحاد بها، ولما كانت الأعمال التي تقود إليها هي أعمال عقلية، ولما كانت القوى المحركة لهذه الأفعال هي الصور العقلية، فإن منهج المتوحد منهج عقلي خالص، وذلك قياسا على أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بالفكر، ولا يعي ذاته، ولا يكتمل وجوده إلا بالفكر، أو بتسمية ابن باجة « القوة الناطقة فيه «.والعقل حين يطرح كمنهج، هنا، لا يعني مجرد التفكير على حال العموم والعفوية، بل إنه يتكفل معنى «التدبير» على حال الخصوص والعقدية. فهو إذن ضرب من تدبر الوجود الإنساني حصريا، إنه تدبير المتوحد الذي يتعطل، بل يستحيل بغير التوحد.
إن فلسفة التوحد الباجية إنما تعني أمرين:
أن الإنسان المتوحد يحقق وجوده كإنسان ويستكمله في إطار فرادته وفرديته، فهو متوحد بطبعه الفلسفي.
وأن التدبير كنشاط عقلي، محكوم بغاية نهائية، لا تتم ممارسته إلا في جو من الحرية التي يجد المتوحد في اختيار الإقامة على حدود التوحد فضائلها.
نفهم بذلك الغاية من ربط ابن باجة التدبير بالتوحد. فالتوحد هيئة وجودية يكون التدبير في أفقها تجاوزا للقيود الاجتماعية، استعدادا لصحو العقل من الأوهام والخرافات، وتحرر من النوازع الغريزية، تهيؤا نحو صفاء النفس من الأفعال البهيمية ( اللذائذ والشهوات ). فالتوحد بهذه الخصوصية وهذا الاشتراط المنهجي «موقف ميتافيزيقي» ناتج عن حال النابتة في المدن غير الفاضلة «الناقصة» التي أبطلت مكانته النظرية، وأعاقته عن الكمال.
* باحث في الفلسفة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.