إقرار مشروع قانون المسطرة الجنائية    الصويرة: وفود 15 بلدا إفريقيا يشاركون في الدورة ال11 للجنة التقنية للمؤتمر الوزاري الإفريقي للتعاونيات    المغاربة... أخلاق تُروى وجذور تضرب في عمق التاريخ    سي إن إن: معلومات أمريكية تشير إلى تجهيز إسرائيل لضربة على منشآت نووية إيرانية    إيقاف دراجة نارية قادمة من القصر الكبير ومحجوزات خطيرة بالسد القضائي    واقعة "هروب" حرفية مغربية في إسبانيا تُربك غرفة الصناعة التقليدية بطنجة    الحسيمة تحتضن مؤتمرا دوليا حول الذكاء الاصطناعي والرياضيات التطبيقية    طنجة المتوسط.. مجموعة سويدية تدشن وحدة صناعية جديدة متخصصة في المحامل المغناطيسية    باكستان تستعد لدخول عصر جديد من التفوق الجوي بحلول صيف 2026    السغروشني: مناظرة الذكاء الاصطناعي قادمة.. والأمازيغية تنال عناية الحكومة    الأغلبية بمجلس النواب تؤازر الوزير وهبي لإخراج مشروع المسطرة الجنائية    الوداد يفسخ عقد موكوينا بالتراضي    لقجع يحث "الأشبال" على الجدية    أداء إيجابي لبورصة الدار البيضاء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    العرائش تحتفي ب20 سنة من التنمية    متهم بالاختطاف والتعذيب وطلبة فدية.. استئنافية الحسيمة تدين "بزناس" ب20 سنة سجناً    مؤلم.. عشريني ينهي حياة والده بطعنة قاتلة    وفد من مركز الذاكرة المشتركة يزور الشيخة الشاعرة والمفكرة سعاد الصباح    منح الترخيص لأول مقاولة للخدمات الطاقية بالمغرب    وزيرة الخارجية الفلسطينية تشكر الملك محمد السادس لدعمه القضية الفلسطينية والدفع نحو حل الدولتين    'الأسد الإفريقي 2025': مناورات لمكافحة أسلحة الدمار الشامل بميناء أكادير العسكري    كالاس: الاتحاد الأوروبي سيراجع اتفاق الشراكة مع إسرائيل    حديث الصمت    استثمار تاريخي بقيمة 15 مليار دولار ينطلق بالمغرب ويعد بتحول اقتصادي غير مسبوق    الخارجية الصينية: ليس لدى تايوان أساس أو سبب أو حق للمشاركة في جمعية الصحة العالمية    أخنوش: إصلاح التعليم خيار سيادي وأولوية وطنية    بعد مشاركتها في معرض للصناعة التقليدية بإسبانيا.. مغربية ترفض العودة إلى المغرب    وزير العدل: كنت سأستغرب لو وقع نواب "الاتحاد الاشتراكي" مع المعارضة على ملتمس الرقابة    ثلاثة مراسيم على طاولة المجلس الحكومي    نقل إياب نهائي كأس الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم إلى زنجبار    حموشي يستقبل حجاج أسرة الأمن الوطني    تلك الرائحة    الناظور.. المقر الجديد للمديرية الإقليمية للضرائب يقترب من الاكتمال    انقطاع واسع في خدمات الهاتف والإنترنت يضرب إسبانيا    كيف تعمل الألعاب الإلكترونية على تمكين الشباب المغربي؟    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية الكاميرون بمناسبة العيد الوطني لبلاده    موريتانيا تقضي نهائيا على مرض الرمد الحبيبي    هذا المساء في برنامج "مدارات" : لمحات عن علماء وأدباء وصلحاء منطقة دكالة    استئنافية الرباط تؤجل محاكمة الصحافي حميد المهدوي إلى 26 ماي الجاري    40.1% نسبة ملء السدود في المغرب    الوداد الرياضي يُحدد موعد سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية    مسؤولون دوليون يشيدون بريادة المغرب في مجال تعزيز السلامة الطرقية    بوريطة: لا رابح في الحرب وحل الدولتين هو المفتاح الوحيد لأمن المنطقة واستقرارها    صلاح رابع لاعب أفريقي يصل إلى 300 مباراة في الدوري الإنجليزي    يوسف العربي يتوج بجائزة هداف الدوري القبرصي لموسم 2024-2025    ماكرون وستارمر وكارني يهددون إسرائيل بإجراءات "عقابية" بسبب أفعالها "المشينة" في غزة    نداء إلى القائمين على الشأن الثقافي: لنخصص يوماً وطنياً للمتاحف في المغرب    مسرح رياض السلطان يواصل مسيرة الامتاع الفني يستضيف عوزري وكسيكس والزيراري وكينطانا والسويسي ورفيدة    مستشفى صيني ينجح في زرع قلب اصطناعي مغناطيسي لطفل في السابعة من عمره    تفشي إنفلونزا الطيور .. اليابان تعلق استيراد الدواجن من البرازيل    مهرجان "ماطا" للفروسية يحتفي بربع قرن من الازدهار في دورة استثنائية تحت الرعاية الملكية    ورشة مغربية-فرنسية لدعم أولى تجارب المخرجين الشباب    تشخيص إصابة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بنوع "عدواني" من سرطان البروستاتا    من المغرب.. مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة"    التوصيات الرئيسية في طب الأمراض المعدية بالمغرب كما أعدتهم الجمعية المغربية لمكافحة الأمراض المعدية    رحيل الرجولة في زمنٍ قد يكون لها معنى    فتوى تحرم استهلاك لحم الدجاج الصيني في موريتانيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القيم في الممارسات الاجتماعية الجماعية

3 – ما بعد بول باسكون :من التمازج المركب إلى هجانة منظومة القيم
لم يتمكن بول باسكون بحكم رحيله المبكر أن يتابع مفهوم التركيب الذي قاده إليه بحثة الميداني في حوز مراكش، وما سيؤول إليه نظام الهيمنة والسيطرة المتحكم في تعايش أنماط إنتاج متعددة داخل التشكيلة الاجتماعية لمجتمع الحوز بشكل خاص، والمجتمع المغربي بشكل عام .و كذا ما سيطرأ على «إنسان المجتمع المركب و المزيج الذي يلعب بكل السجلات» (31) القيمية، من تغيرات في منطق اللعب، ومتغيرات سياقات اللعب. لكنه وعلى الرغم من ذاك الرحيل العنيف و المبكر، تمكن من رصد الخاصية الكبرى لتفرد المجتمع المغربي، بعيدا عن إسقاط خطاطة نظرية جاهزة و غير مطابقة لهذا التفرد، والتي لا زالت تشغل في فك لغز الحضور المتعدد للسجلات القيمية داخل سلوكات الأفراد وممارساتهم الاجتماعية، من دون أن يحدث ذلك أية ارتجاجات في العلاقات الاجتماعية الجماعية.
إن المتابعة السوسيولوجية لتغيرات المجتمع المغربي، على الأقل منذ تسعينيات القرن الماضي إلى الآن، تظهر أننا لم نعد أمام شباب يقولون ما قاله «265 شابا قرويا» (32) سواء في صلاتهم بالشغل أو المال أو الجنس والزواج، مثلما لم نعد أمام القرية نفسها، سواء كمجال أو كأنشطة، أو كقيم وسلوكات. لم نعد أيضا أمام ثلاثية الإستعمار والتقليد والحداثة، والأصالة والمعاصرة و القديم والجديد، والجمود والجحود.. لقد ابتعد الجيل الحالي كثيرا عن الاستعمار، سواء في ممارساته الاجتماعية، أو تشكيلاته الخطابية . سبب ذلك اتساع مساحة حضور العولمة، من حيث هي ثورة رقمية واقتصادية مغايرة لجميع ثورات العالم السابقة، في كل المجتمعات ، و كذا ارتفاع درجات حضور هاته المجتمعات في مساحاتها الإقتصادية والتبادلية والتكنولوجية –الرقمية .مؤدى هذا الحدث الجديد الذي مس بنية العالم ككل و خلخلها، مثلما مس الممارسات الاجتماعية في محليتها وخلخل مناحيها وتوجهاتها ، هو رفع درجات تعقيد الصلات بين السجلات القيمية المتعددة و المركبة ، وتغيير طبيعة تمازجها في كل المجتمعات التي لم تعش تجربة الانخراط السلس في السوق الجديدة المعولمة. نستحضر هنا المجتمع الصيني و تجربة المجتمعات التي انتقلت من نمط العيش الجماعي الاشتراكي والشيوعي إلى نمط العيش داخل نظام السوق المعولم.
بعد رصدها للتغيرات التي لحقت منظومة القيم بالمجتمع المغربي من التسعينات إلى الآن، ومقارنة أشكال تراجع بعض سجلاتها التقليدية وتنامي حضور قيم صاعدة جديدة، وتغيير بعض قيم السجل القيمي التقليدي للونها (من البركة في صيغتها التقليدية إلى الرقية الشرعية حاليا) ستتوصل الباحثة رحمة بورقية إلى الخلاصة الكبرى التالية: «لا يجب مقاربة تطور وتغير القيم بالمجتمع المغربي ، منذ الاستقلال إلى الآن، مقاربة معيارية. فالتغيرات الحاصلة ليست بالإيجابية، أو السلبية. إنها تستجيب لإيقاع تطورات المجتمع المغربي في عصره الحالي، وكذا للتغيرات المفروضة من طرف العولمة، واتساع دائرة حرية القيم في التحرك و التنقل داخل سوق القيم. نظام التقليد الذي تترسخ فيه القيم التقليدية التي فحصناها في الفصل السابق، هو الآن في تراجع . تراجع لا يجد ترجمته و معناه في إرساء شامل وبديل لسجل القيم الكونية والحداثية. إن مفهوم المجتمع المركب الذي استعمله بول باسكون لتوصيف المجتمع المغربي ، يترك مكانه للمجتمع الهجين .أصبح نظام القيم، شيئا فشيئا، نظاما هجينا، خاضعا للتفاوض، بحيث ينهل عناصره تارة من نظام القيم التقليدية وأخرى من نظام القيم الكونية وسجل القيم الحديثة» (33)
لقد أصبح، حسب رحمة بوقية ، نظام الهجانة القيمية يشغل موقع الواجهة مقارنة بالنظم الأخرى ،مثلما أصبح التفاوض حول القيم هو المحرك الرئيسي للعلاقات الاجتماعية الجماعية في هذا المجال . تراجع التركيب لصالح الهجانة في مجال القيم بالمجتمع المغربي ،ليس وليد المجتمع المغربي في ذاته، بل إنه خاصية العصر الحالي المعولم. تقول رحمة بورقية بهذا الخصوص: «التفاوض على القيم، و هجانتها، ليستا خاصية خاصة بالمجتمع المغربي، بل إنها سمة عصرنا، عصر العولمة» (34)
لا تقدم الباحثة رحمة بورقية أية إضاءا ت بخصوص مفهوم الهجانة الذي تقدمه كمفهوم مفتاحي لضبط نوعية التغيرات التي لحقت الوضع القيمي بالمجتمع المغربي .ليست هنالك أية إشارة لا إلى أصله العلمي، او كيفيات انتقاله من مجال البيولوجيا إلى مجال الدراسات السوسيوثقافية، او أنماط حضوره في الدراسات التجريبية التي شملت ميادين مختلفة، وكذا الصعوبات التي كشفت عنها تلك الدراسات في الإستهلاك البسيط والوصفي للمفهوم .و ربما كان غياب هاته الأمور إحدى عوامل الاستقبال السلبي لدراساتها هاته حول القيم من جهة ، و استسهالها لمفهوم التركيب الباسكوني من جهة أخرى .تشير رحمة بورقية إلى كون مفهوم التركيب او التمازج قد استعمله اندري آدم ، قبل باسكون في توصيف التحولات التي عرفتها مدينة الدار البيضاء، وهو ما يحيل بشكل أو بآخر إلى كون المفهوم ليس كشفا باسكونيا ، ولا تضع أي حدود للاختلاف بين الاستعمالين لديهما ، وهو ما قد يكون وراء التباسات كثيرة لدى الباحثين الذين لم يطلعوا على دراسات اندري آدم حول مدينة الدارالبيضاء . لم يشغل هذا الاخير التركيب كمفهوم وصفي بتاتا، بل كاصطلاح فقط ، و في مناسبتين على طول جزئي بحثه، لتوصيف ما نعته « بالمجتمعات التي تعيش «مخاضها» (35)التركيب من حيث هو اصطلاح يعين به اندري آدم البناء الازدواجي المتداخل بين ما حمله المستعمر من قيم الغرب و سلوكاته وما اختزنه الشرق من تقاليده، ومن ثم كانت الصلة بينهما ليس هو التعايش، بل العنف والتمزق، كما يقول بين: «إلحاحية المغاربة على الولوج إلى الكوني، والبقاء في الآن نفسه على ما هم عليه» (36). على خلاف ذلك يتخذ التركيب أو التمازج عند بول باسكون وضعه النظري الوصفي، والتجريبي الذي يلعب دور زحزحة وإبعاد مفاهيم ونماذج نظرية تفسيرية مجربة في سياقات اجتماعية وتاريخية مغايرة، تقترح نفسها ضمن أعمال بحثية لوصف وتفسير مجتمع بكامله، هو المجتمع المغربي (الفيودالية، الرأسمالية، القبلية…).
التركيب كما أبدعه باسكون واشتغل به وعليه، مفهوم وصفي(وهو لا ينفي ذلك)، والهجانة كما تستعمله وتقترحه رحمة بورقية، من باب الاستعارة عن أنثروبولوجيي امريكا اللاتينية ، مفهوم وصفي بديل.
أغلب مؤشرات التغير التي عرفها المجتمع المغربي منذ تسعينيات القرن الماضي ، تدل على كون مفهوم التركيب الباسكوني في شموليته قد فقد جزء كبيرا من حيويته وقوته الوصفية، مثلما ان نفس مؤشرات التغير تدل على ان اختيار رحمة بورقية لمفهوم الهجانة في توصيف سيرورات التغير الطارئة على المجتمع في عصر العولمة، اختيار نظري يتمتع بالكثير من الصلاحية والمطابقة.
لم يعبر باسكون بمفهوم المجتمع المركب من مستواه الوصفي إلى المستوى التحليلي والتفسيري، ولا تعرض رحمة بورقية مفهوم الهجانة سوى في مستواه الوصفي العام جدا، وذاك ما يجعل مفهوم الهجانة يبدو أكثر قوة الآن في توصيف أنماط التمازج الحاصلة في المجتمع المغربي على جميع المستويات، القيمية والثقافية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية. وبناء على ذاك المستوى تدفع الباحثة بمفهوم التركيب كي يخلي مكانه لمفهوم الهجانة في توصيف المجتمع المغربي الحالي. يشترك مفهوم التركيب الباسكوني مع مفهوم الهجانة في كونهما معا يمنحان للباحث، قوة تجريبة ونظرية للانفلات من فخ القراءة والتحليل بالثنائيات، وعلى رأسها ثنائيات، التقليد والحداثة، الشرق والغرب، المستعمر والمستعمر، الأصيل والمعاصر، المحلي والكوني، بوصفها ثنائيات صدامية بين طرفين وحدين مكتملين مكتفيان بذاتهما الواحد ضد الآخر. الثنوية عدو نظري استراتيجي بحكم إن كيانها الوجودي لا يتعدى دائرة سياسة الخطاب، ولا تجد في الممارسات والوضعيات الاجتماعية الملموسة أي مقابل فعلي لها مشترك. مفهوما التركيب والهجانة، يضعا الباحث أيضا وجها لوجه أمام أسطورة «الخالص» و«المحض» والصافي «،سواء على مستوى القيم أو اللغة أو العمارة او الهوية أو الطبخ أو اللباس أو السلوكات أو المبادئ، أو الكتابة أو الموسيقى أو التشكيل… مشترك مفهوم التركيب والهجانة أيضا كونها معا يستبعدان المقاربة المعيارية، التي تسجن نفسها في ثنائيات الخير والشر والإيجابي والسلبي.. ويستعيضان عنها بمتابعة ورصد القوة الخلاقة للمركب والهجين داخل ممارسات الناس الاجتماعية الجماعية، وكذا رصد درجات ذكائهم العملي في خلق الصلة المبدعة عمليا بين المتناقض والمتنافر داخل وضعيات وظرفيات اجتماعية.
في مجال القيم يركز مفهوم التركيب على آلية التعايش ،دون أن يغفل رهانات السيطرة و الصراع، ويركز مفهوم الهجانة على آلية التفاوض، من دون أن يغفل رهانات التناقض و الصراع . لكن لمفهوم الهجانة وضع شائك وصعب مقارنة بمفهوم التركيب. فالمفهوم الأخير ظل حبيسا للمستوى الوصفي، ولم تجرب السوسيولوجيا المغربية قيمة صلاحيته العلمية الوصفية ، في مسوياتها التحليلية والتفسيرية، وتلك إحدى نقط الضعف الكبرى لما يعيشه البحث السوسيولوجي بالمغرب، رغما عن غناه التخصصي الضيق ، في حين تم تجريب الصلاحية والمطابقة العلميتين لمفهوم الهجانة في مستوياتها التحليلية والتفسيرية داخل السوسيوسيولوجيا الميكسيكية والاميريكو-لاتينية ضمن اعمال تجريبية أصبحت تكتسي قيمة علمية مرجعية داخل السوسيولوجيا الأوروبية والامريكية. (37)
(هجانة وهجين) كلمات لا تتمع بسمعة تداولية محترمة، ,hybridation, hybride سواء في مجال المتخيل الجمعي القديم والحديث للمجتمعات الانسانية، أو في التداول العام والخاص، أو في تاريخها العلمي الطبيعي. أغلب المجتمعات الإنسانية، بنت ثقافتها على وضع الحدود بين الطاهر والخالص والمقدس من جهة والمختلط والهجين والمدنس من جهة أخرى، ومن ثم رفع الحدود الأولى إلى مرتبة الميتا-طبيعي والميتا – اجتماعي الذي يتطلب الاحترام والتوقير والتقديس، وإنزال الثانية إلى مراتب الأسفل المدنس والمركب والملوث الذي لا يتمتع بصفاء الأصل ونقاوة التركيبة .الهجين مختلط ومركب ومزيج، وهو ما يجعله منحطا و مقيتا ومنبوذا، لذلك يتم إبعاده عبر الإرساء الواقعي او المتخيل لهوية الأشياء والكائنات الطاهرة والخالصة. بنى علم البيولوجيا مفهوم الهجانة في أبحاثه التجريبية على عالم الحيوانات وذلك عبر تركيب اللقاحات الجينية على بعض الحيوانات من اجناس مختلفة، وكانت نتائج ذلك منح هبة الوجود لكائنات حيوانية مزيجة ومركبة (هجينة)، ذات اصول متعددة .تجارب أثبتت أن التهجين البيولوجي خلاق ومثري ومبهر، لانه يثري الأنواع والأجناس ويمدها بأوجه ومناحي جديدة للتشعب في الحياة الطبيعية. لكن مقابل ذلك يذكر معارضو فعل التهجين، علم الاحياء بأن الفرح بإنجازات فعل التهجين الخلاقة لا يجب ان ينسينا أن «البغال» لم ترث فعل الخلق والثراء والتوالد، بل العقم الأبدي، نتيجة هجانتها. مثال «البغلة» لم يسمح لفعل التهجين بالفرح بإنجازاته، لكن الامر لم يمنع علم البيولوجيا من تحويل تجاربه في نفس المجال، نحو عالم النباتات بجميع انواعها. ستحقق البيولوجيا النباتية لمفهوم التهجين نجاحاته الكاملة، وستدعم الثقة في تحويل استعمالاته نحو العلوم الاجتماعية.
سيستعمل مفهوم الهجانة، حسب نيستور غارسيا كانثليني، من طرف المؤرخين لتوصيف الآثار الايجابية لفعل «الإختلاط الثقافي والإثني» بين السكان المحليين والمهاجرين، سواء في روما القديمة أو في حوض البحر الأبيض المتوسط، مثلما سيشغله اللسانيون لتوصيف «التعايش» بين لغات متعددة البنيات والأصول، والأنثروبولوجيون لتوصيف «الإنصهارات» في موسيقى الشعوب و«التلاقحات» في أنماط العيش اليومي…(38). Métissage,fusion,mélange,transculturation,syncrétisme,ambivalence, هي المرادفات التي تم تشغيلها في مجالات العلوم الاجتماعية لتوصيف ,reconversion, الإختلاطات البين-ثقافية بين الأجناس واللغات والديانات والممارسات الاجتماعية في فن العمارة والطبخ و اللباس.. قصد بيان غنى مفهوم الهجانة. «إن نقل مفهوم الهجانة، حسب نفس الباحث ، من مجال البيولوجيا، إلى مجال التحليلات السوسيو-ثقافية، جعله يربح في مجال التطبيق، ويخسر بالمقابل وحدته المفهومية» (39)، وبناء على ذلك يتساءل: ما الذي يمكن أن يجنيه البحث العلمي، من وراء الإعتماد على مفهوم ممتلئ بالإبهام؟
مفهوم الهجانة، هجين في تشكله وتركيباته واستعمالاته، لذلك يكون المفهوم الاكثر قربا ومطابقة في رصد «سيرورات التهجين السوسيو – ثقافية التي تتشابك فيها بنيات وممارسات مكتومة، غير مترابطة، كي تؤطر ميلاد بنيات و موضوعات وممارسات جديدة» (40). سيرورات تشمل كل قطاعات وفئات المجتمع، والتي يعمل كل منها على طريقته، لتملك ما تمنحه الحداثة من حسنات وفضائل وأرباح. إن توجه البحث العلمي نحو» دراسة هاته السيرورات الثقافية، بقدر ما يبعدنا عن إثبات الهويات المكتفية بذاتها، بقدر ما ينفعنا في معرفة كيفيات التموضع داخل المركب وغير المتجانس، ومن ثم فهم الكيفيات التي تتشكل بها وفيها سيرورات الهجانة» (41)
يتطلب فهم هاته السيرورات، الخروج بمفهوم التهجين، من دائرة المستوى الوصفي للتمازجات البيثقافية، ومن ثم منحه قوته التحليلية و التفسيرية. في المستوى التحليلي والتفسيري، يواجه مفهوم الهجانة وسيرورات التهجين، تعقد أفعال الاختلاط والتمازج والتعايش الثقافية في الممارسات الاجتماعية. فكثيرة هي أفعال الاختلاط التي لا تفضي بالضرورة، داخل الممارسات الاجتماعية الفردية والجماعية، إلى التمازج والانصهار، بل تظل راسية عند حدود التجاور و المجاورة. (دعاء السفر مع القيادة عند مهنيي النقل الحضري و القروي أو طب الاعشاب والطب العلمي مثلا)، مثلما أن عناصر ثقافية كثيرة متغايرة لا يسهل تهجينها، إما بحكم درجات تباعدها، أو بحكم تناقضاتها، أو بحكم تواجدها في دائرة الصراع لأجل النفوذ او القوة أو السلطة . مع المستوى التحليلي والتفسيري لمفهوم الهجانة، تتدخل متغيرات الصراع والتناقض والسلطة، إلى جانب التعايش والتمازج ولاختلاط والانصهار، لذلك يفترض التعامل بهذا المفهوم مع الممارسات الاجتماعية، تجميد فكرة المجتمع بوصفه كلا متوازنا و موحدا و متجانسا، واعتبار التفاوتات الاجتماعية في الولوج إلى المغاير ثقافيا، كان كونيا أو حداثيا ، و كذا التفاوتات القطاعية في ممارسات فعل التهجين المنتج و الخلاق، أو الممزق والجارح والمؤلم، لهاته المكونات.
يبرز مفهوم الهجانة، من زاوية رصده العلمي كسيرورة، قوته الخلاقة والمبدعة، ومن ثم عيش فرح وسعادة حضوره في وضعيات وممارسات اجتماعية فردية وجماعية، داخل مجال الموسيقى (كناوة، العيطة، الملحون، موسيقى الزوايا، وكيفيات مزجها و صهرها مع موسيقات عالمية مغايرة…)، وفي مجال العمارة، و فن الطبخ، واللباس، والحرف، والنحت والتشكيل، والفوتوغرافيا، والرقص، والأدب ..لكنه إلى جانب ذلك يضمر ويكشف في الآن ذاته عن أشكال عديدة من التمايزالاجتماعي في إمكانيات الولوج العادل لما تقدمه الحداثة والعولمة من خدمات ثقافية و رقمية، سواء على المستوى الاجتماعي أو المجالي أو الثقافي، أو التربوي التعليمي .تمايزات وتفاوتات تجعل من سيروات فعل التهجين مؤلمة وممزقة بشكل حاد، في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي -التعليمي والتربوي .
لا تولد سيرورات التهجين إذن، فرح التمازج والاختلاط والانصهار، بل أيضا آلام الصراعات والتناقضات، لذلك بقدر ما رصد غارسيا كانثليني استراتيجيات ولوج دائرة التهجين في السياقات الثقافية، طرح إلى جوارها استراتيجيات مغادرتها، بدء من عنوان مؤلفه «ثقافات هجينة، استراتيجيات الولوج إلى الحداثة، والخروج منها».
4 – على سيبل الختم
ليست الهجانة، حسب الباحثة رحمة بورقية خاصية خاصة بالمجتمع المغربي، بل هي خاصية عصر العولمة الذي نعيش فيه، وربما يكون هذا الإقرار مدخلا لعدم إبعاد مفهوم التركيب في قراءة الوضع القيمي بالمجتمع المغربي. فإذا ما كانت العولمة قد أفرزت وضع الهجانة القيمية والثقافية في مجتمعات كثيرة، فإن هاته المجتمعات تعيش كل منها تفردها الخاص في تهجين الهجانة ومنحها طابعها المحلي. فالمجتمع المغربي، ليس هو المجتمع المكسيكي أو البرازيلي، على الرغم من أنهم يتقاسمون خضوعهم لسيرورات التهجين. المجتمعات لا تستهلك احتكاتها الثقافية والقيمية، سواء الطوعية، أو المفروضة بالقوة، بنفس الكيفية. لكل مجتمع مصفاته التي تظهرها وتبرزها الممارسات الاجتماعية بشكل ملموس وعميق، على خلاف سياسات الخطاب التي قد تتوقف عند حدود الترديد وإعادات الإنتاج اللفظية. لقد خرج المجتمع المغربي من مرحلته الاستعمارية، في صيغة مجتمع مركب كما كان قبل هاته المرحلة، لكن مع استدخال المركب لما حملته هاته المرحلة من قيم وثقافة وتقنية، بكل عنفها على جميع المستويات. ومنذ ذاك الحين إلى الآن وهو يراكم متغيراته داخل دائرة التركيب وليس خارجها .لذلك من المفترض، قبل أن نطالب مفهوم التركيب ترك مكانه لمفهوم التهجين، أن نوسع دائرة تجريبه، وذلك عبر الإنتقال به من المستوى الوصفي، الذي توقف عنده بول باسكون، إلى المستوى التحليلي والتفسيري الذي سيغنيه.
وإذا ماكان مفهوم التركيب قد أبان الآن عن تعبه إذا ما سجناه داخل مشكلة وسؤال أنماط الإنتاج، فإن حيويته كمفهوم لم تنهك بعد في قراءة ما هو سوسيو-ثقافي .لذلك حينما نعمق البحث في طبيعتة وتشكيلته، بناء على سؤال القيم، فسنصادف خاصية التهجين، ولن يتعلق الأمر بنموذج جديد، بل فقط بسيرورة التركيب التي تغيير تشكيلتها عبر استضافة آلية التهجين كآلية دمج أقوى لما هو متعارض و متنافر، بفضل ولوج محرك التفاوض داخل دائرة التمازج و التعايش. ضمن هذا المستوى التحليلي ستتسع دائرة التركيب المفاهيمية لتصبح تربتها الإجرائية محتضنة لمفاهيم التمازج والتعايش والتهجين والتفاوض والانصهارو الاختلاط والتناقض و الصراع و التفاوت، من دون أن يختزل في إحداها، على اعتبار كونه الشكل الذي تتخده سيروات التفاعل والتعارض والإنتقاء والتفاوض داخل الممارسات الاجتماعية الجماعية تحت ظل الحاجيات الاجتماعية التي تؤطرها وضعيات و ظرفيات اجتماعية ملموسة.
الهجانة الآن مشترك مجتمعات كثيرة، لكن التركيب يبقى خاصية المجتمع المغربي . إنه ما يتفرد به منذ قرون تاريخية ، و هو ما يفترض فعل تثمينه وترصيده في مجال العلوم الاجتماعية المغربية .ففي غياب تملك ما يتفرد به مجتمع ما، تتيه هاته العلوم في تشغيل
مفاهيم نظرية، وأدوات منهجية لا تستطيع الإجابة عن سؤال مدى ملاءمتها وصلاحيتها العلمية ودرجات مطابقتها للظواهر المدروسة. يقول السوسيولوجي الصيني شين يان: «وحدها معرفة التفرد تفرض أدوات تحليل مطابقة».
هوامش
31 – Pascon ,p, le haouz de marrakech , ibid, p :591
32 – Pascon ,p, et , Bentahar,m, ce que disent 265 jeunes ruraux marocain ……
33 – Bourqia,r, les valeurs , chagements et pérspéctives , ibid, p : 99
34 – ibid, p : 101
35 – Adam ,andré,,,,,,,,,,,,,,p :895
36-ibid, p: conclusion
37 – Garcia,
38-ibid, p: 17
39-ibid, p: 19
40-ibidem
41 – ibid, p: 23
(انتهى)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.