ولد الرشيد: المقاربة الدبلوماسية المغربية انتقلت إلى منطق المبادرة والاستباق مرتكزة على شرعية تاريخية    وزير الصحة يستقبل المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط    نحو ابتكار نظام معلوماتي لتثمين ممتلكات الجماعات الترابية المغربية.. مؤلف جديد للدكتور محمد لكيحال    فرق المعارضة تؤجل جمع توقيعات ملتمس الرقابة ضد الحكومة إلى الأسبوع المقبل بسبب سفر إلى موريتانيا    المندوبية السامية للتخطيط : الاقتصاد الوطني أحدث 282 ألف منصب شغل في سنة    أسعار الذهب ترتفع مدعومة بتراجع الدولار    بورصة البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الانخفاض    ولاية أمن طنجة تكشف زيف فيديو اختطاف الأطفال وتوقف ناشرته    العلاقات الاقتصادية الصينية العربية تتجاوز 400 مليار دولار: تعاون استراتيجي يمتد إلى مجالات المستقبل    عمر حجيرة.. زيارة البعثة الاقتصادية المغربية لمصر رسالة واضحة على رغبة المملكة في تطوير الشراكة والتعاون بين البلدين    الرباط.. استقبال أعضاء البعثة الصحية لموسم الحج 1446ه/2025م    مسؤولة حكومية تقر بمنح زميل لها من "الأحرار" مليار و 100 مليون سنتيم لتربية الرخويات    مفاوضات متواصلة تؤجل الكشف عن الأسماء المغربية في موازين    الكوكب يواصل نزيف النقاط واتحاد يعقوب المنصور يعزز موقعه في المركز الثالث    النفط ينخفض بأكثر من دولارين للبرميل مع اتجاه أوبك+ لزيادة الإنتاج    أسود الأطلس يواصلون التألق بالدوريات الأوروبية    المغرب يطلق أول محطة شمسية عائمة لخفض التبخر    غنيمة حزبية في هيئة دعم عمومي    باريس.. الوجه الآخر    آلاف يتظاهرون في مكناس والدار البيضاء دعما لغزة ورفضا لتهجير الفلسطينيين    محمد وهبي: نتيجة التعادل مع نيجيريا منطقية    عودة تير شتيغن إلى برشلونة تسعد الألمان    رسميًا.. ألكسندر أرنولد يعلن رحيله عن ليفربول    التقنيون يواصلون الإضراب الشهري احتجاجا على تجاهل حكومة أخنوش    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    بعد فتح الجمارك.. مواد البناء المغربية تغزو سبتة المحتلة    رحلة كروية تنتهي بمأساة في ميراللفت: مصرع شخص وإصابة آخرين في انقلاب سيارة قرب شاطئ الشيخ    فرنسا والاتحاد الأوروبي يقودان جهودا لجذب العلماء الأميركيين المستائين من سياسات ترامب    الرابطة المغربية لمهنيي تعليم السياقة تطالب بإحداث رخصة خاصة للسيارات الأوتوماتيكية    المتصرفون التربويون يلوحون بالإضراب والجامعة الوطنية تتهم الوزارة ب"اللامبالاة"    العثور على جثث 13 عاملا بعد اختطافهم من منجم ذهب في بيرو    ترامب يأمر بإعادة فتح سجن الكاتراز بعد 60 عاما على إغلاقه    إسرائيل توافق على توزيع المساعدات    تفاصيل إحباط تفجير حفلة ليدي غاغا    صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تزور بباكو المهرجان الدولي للسجاد بأذربيجان    أكاديمية المملكة تحتفي بآلة القانون    شغب الملاعب يقود أشخاصا للاعتقال بالدار البيضاء    مقبرة الرحمة بالجديدة بدون ماء.. معاناة يومية وصمت الجهات المعنية    فيديوهات خلقت جوًّا من الهلع وسط المواطنين.. أمن طنجة يوقف سيدة نشرت ادعاءات كاذبة عن اختطاف الأطفال    طنجة.. حملات أمنية متواصلة لمكافحة الدراجات النارية المخالفة والمعدّلة    العثور على جثث 13 عاملا بالبيرو    الاحتفاء بالموسيقى الكلاسيكية خلال مسابقة دولية للبيانو بمراكش    كأس أمم إفريقيا U20 .. المغرب يتعادل مع نيجيريا    المغرب التطواني يحقق فوزًا ثمينًا على نهضة الزمامرة ويبتعد عن منطقة الخطر    الأميرة لالة حسناء تشارك كضيفة شرف في مهرجان السجاد الدولي بباكو... تجسيد حي للدبلوماسية الثقافية المغربية    المغرب يطلق برنامجًا وطنيًا بأكثر من 100 مليون دولار للحد من ظاهرة الكلاب الضالة بطريقة إنسانية    الشرطة البرازيلية تحبط هجوما بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا في ريو دي جانيرو    استشهاد 16 فلسطينيا بينهم أطفال ونساء في قصف إسرائيلي جديد على غزة    بريطانيا تطلق رسمياً لقاح جديد واعد ضد السرطان    علماء يطورون طلاء للأسنان يحمي من التسوس    نجم الراب "50 سنت" يغني في الرباط    من المثقف البروليتاري إلى الكأسمالي !    دراسة: الشخير الليلي المتكرر قد يكون إنذارا مبكرا لارتفاع ضغط الدم ومشاكل القلب    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الكتابة عند أدونيس

الكتابة سؤال حول الوجود، وحداثة بلا قيود، واستعارة تجعل العالم عبارة عن مسرح، يعمل أدونيس على بث عدد من الإرساليات المتزامنة، فتظهر الكتابة كإيقاع خاص له مدلوله الخاص، فهي حافلة بشتى أنواع التقنيات التعبيرية ووسائل الأداء الفنية، وفضاء تذوب فيها كل العوالم، فيصبح الشاعر كطود عظيم يسكب الخير، ويهب لأهله الحياة.
فهي خلق وإبداع تنتج الإبداع لمواجهة الموت، وامتداد بين الصور، والتفاعل مع اللغة شرطا في كينونة النص الإبداعي من حيث وجوده، ومصيره، وهويته، فالكتابة عند أدونيس هي التشكيل الشعري، واستجابة للنفسي، والاجتماعي، وقراءة تتجاوز المؤتلف، وتأويل زمني، ومكاني، وتحرر من المتناهي، والمرجعي، إنها حوار مع الكينونة، وعنف ضد الموت، والحياة، وتحول عبر اللغة إلى اللامحدود، والأبنية الممكنة، إذن كيف يرى أدونيس الكتابة؟

تعتبر الكتابة جنسا أدبيا مستحدثا في الثقافة العربية مقارنة مع نظيره في الثقافة الغربية، ويعود ذلك إلى جملة من العوامل أبرزها هيمنة الشعر العربي على الذائقة الفنية لمدة طويلة، وهو ما قلص من حظوظ بروز أجناس أدبية أخرى، ومع ذلك فقد توسلت الكتابة طريقها إلى الأدب العربي مع نهاية القرن التاسع عشر، إثر المثاقفة مع الغرب، وتطورت بشكل عميق خاصة منذ نهاية الستينات وأصبحت مثل نظيرتها الغربية، حيث تتراوح بين الرواية الواقعية والرومانسية والمثالية والتي استقام عودها على يد مجموعة من المؤسسين الرواد الذين أعجبوا بالتخلق الذي طالما دعا إليه منظرو الرواية الغربية الجديد أمثال، ألان روب غرييه ، وناتالي ساروت وميشال بوتور وغيرهم من الروائيين الذين تبنوا الكتابة الجديدة، ورفضوا كل ما هو مستهلك، فكان السر يتعلق بمستوى خاص من الوعي، والتمثل لدى الروائيين العرب، أي الوعي القبلي والتمثل الواعي والجيد والمبرر لما يستثمرونه من أشكال أو تقنيات أو وصفات أو حتى دلالات جاهزة، وذلك بموازاة مع الوعي أيضا بضرورة المساهمة في تغيير وظيفة الأدب ودور الكتابة في المجتمع، ومدى قدرتهما على مواكبة وتحولات الذات ودينامية المجتمع والعالم، راسمة لنفسها مسارا مختصا بها بالشكل الذي يجسدها تجسيدا أسمى، فاستطاعت بذلك الكتابة في مسار تحول تجربتها الخاصة أن تؤسس أنماطا كتابية جديدة تتجاوز البنية التقليدية للمحكي السردي.
لقد جاءت الكتابة العربية الحديثة في حد ذاتها أبين دليل على الوعي المغاير، والمناهض لجميع المرتكزات الجامدة، حيث جاءت متزامنة مع هزيمة 5 يونيو 1967 وانكشاف الليبرالية والثورية واستفحال القمع وهيمنة الصوت الواحد المستبد، وانتشار الطائفية والتعصب الظلامي وتحجيم الأنظمة للثورة الفلسطينية، وكفاح الإنسان الداخلي نزوعا نحو التوازن النفسي ضد الاغتراب الروحي والإحباطات ومظاهر العصاب والألم والشقاء والتشويه، وشبح الموت والدمار الذاتي والعلاقات المرضية والمنحطة، فظهور الكتابة أصبح «يفتح السبيل الأول إلى ما هو أبعد من لحظات السقوط والنهضة عبر التاريخ، وهو ما واصله في العقدين التاليين آخرون منهم رضوى عاشور وبنسالم حميش وأدونيس، ومظفر النواب، وأمل دنقل.
وبالرغم من هذا التحديد الذي أقامه أدونيس للإبداع بين التقيد التقليدي والانحياز الحداثي، فقد ارتبط بفترة السبعينات المرتبطة ب (النهضة والحداثة) باعتبارهما وجهين لفترتين متميزتين شملت معها النقد الأدبي أيضا، فإنه سيبقى سؤالا مفتاحا حيث يقول: «ومهما يكن من أمر الرواية أو النقد أو الثقافة فسيبقى إلى حين – لا يبدو قريبا – ذلك الغائب الحاضر (النهضة – الحداثة) سؤالا مفتوحا».
لقد وجدنا في تحديد أدونيس لكل من الحداثة والنهضة في الإنتاجات الإبداعية والنقدية، اقترابا ملموسا من واقع أدبي ونقدي فرض نفسه على مستوى صيرورة الساحة الثقافية، لكنه اقتصر في هذا التحديد على تلخيص ظاهري فقط كنا ننتظر فيه بعضا من التفصيل، المفيد أكثر، لكن هذا ما لا يمكن أن يلتزم به أدونيس لأنه يتعدى حدود مشروع الكتاب لأن الهدف ليس نقد النقد، بل إضافة إلى أن هذه السرعة في الدراسة تنطبق على جميع فصول الكتاب، لكن التحليل الظاهري يمكن تقبله وبالتحديد في هذا الفصل لأن الحديث عن السيرة للنهضة والسقوط يتطلب فصولا متعددة وليس فصلا واحدا، بالإضافة إلى أن هذا الفصل هو عتبة التفكير في قضايا وإشكالات لا تزال في حاجة إلى التفكير، وليس التحديد المطلق لقضايا يصعب الإحاطة بها في مؤلف ضخم، وليس في فصل من كتاب أدونيس، وإنما وضع يد القارئ والباحث على مظاهر عديدة من مظاهر الإبداع النقدي النهضوي والحداثي، لذلك يعتبر هذا الفصل من أخصب وأصعب فصول هذا الكتاب رغم غياب البعد التحليلي فيه.
فأدونيس في زمن الشعر، وفي صدمة الحداثة، وفي مجلة «مواقف»، ودراسات أخرى جعلت منه مناضلا مبدعا، يحارب الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومحمد عبده، وكل الذين يحاولون أن يسيجوا التراث دون قراءته مرة ثانية، وهذه الدعوة لم تكن برانية وبسيطة، بل تتطلب تركيبا معقدا كما يقول ريمون أرون، لأن أدونيس حارب هذا الفكر المعمي بلغة حداثية، وبأسلوب يفتش في طبقات الثقافة لمعرفة الذات المضمرة، قصد إبداع الخطاب الحواري ليتجاوز النمطية المعهودة دون أن يبرأ منها.
ويرى أدونيس في جميع الأعمال الإبداعية أنها جاءت نتيجة سيادة حدث سياسي أو اجتماعي عميق، أثر في العالم العربي، لذلك أصبح المبدع نفسه فردا من المجتمع، فقد كان من الطبيعي أن يعبر عن ذاته وعن غيره من خلال إبداعه الخاص.ويعود هذا في تصوره إلى أن اللغة العربية مازالت تكتب في كثير من نماذجها تحت زخم الواقع وهديره الاجتماعي وأسراره الدفينة، وفي نفس الوقت هي بحاجة إلى وسيلة تلائم هذا التعبير لتناسب أهدافها قصد الخروج من أسر اللغة الواحدة إلى أفق التهجين والتعدد، نظرا لتعقد السرد بتعقد المواضيع المتناولة على حد تعبير نبيل سليمان.
وإذا كان قد اهتم بالأعمال التراثية الجديدة في تجلياتها الحداثية، فهو لم يغفل الإشارة إلى السيرة للنهضة والسقوط أو الانتصار والهزيمة، والتي رأى فيها الأثر العميق والإعلان عن نقلة جديدة ليؤطر الاشتغال الإبداعي منذ سبعينيات من القرن العشرين عبر سبيلين:
أولهما: اشتغل على لحظات النهضة بعمقها الشعبي ومحمولها الاجتماعي وأحيانا السياسي، فتصدرت كتاباته الشواغل التقنية التقليدية، ويعبر نبيل سليمان عن مميزات هذه الفترة فيقول: «وقد ناءت تحت وطأة المؤرخ ودهشة الاكتشاف وتمجيد الماضي».
ثانيهما: اشتغل على لحظات السقوط وبخاصة لحظة 1967، فاشتهرت كتابات هاني الراهب وحيدر حيدر وغادة السمان وسواهم، وقد غلب على هذا النوع الشواغل التقنية للحداثة، ويرى أدونيس أن هذه الكتابة قد شكت من ضمور النقدي فيها وناءت أيضا تحت وطأة الهجائية والعصابية والشعارية … مما جعل الإبداع العربي يرتبط بالمعنى الواحد، والوحيد، ولا يعطي الأهمية للعوامل الخارجية سواء كانت اجتماعية أو سياسية، أو معرفية، لهذا بقي الإبداع العربي يلوث أطياف الذكريات، ويستشرف نحو آفاق مجهولة، دون طرح السؤال ما الكتابة.
ما هي شروط فعل القراءة الإبداعية؟
إن ظهور سوسيولوجيا القراءة لأول مرة من طرف الأمريكي دوكلاسو ألياس نظرا للانحراف الأخلاقي، والاجتماعي، عمل على تشجيع القراءة، باعتبارها عملية بنائية سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي وقد عملت المناهج على رفض انطلاق النصوص، سواء على المستوى الماهوي، أو الدلالي، أو التاريخي وقد أكد السوسيولوجي أن القراءة لا يمكن فصلها عن متغيرات الواقع.
فالنص لا يمكن اعتباره نصا مغلقا على ذاته، بل هو نتاج اجتماعي حقيقي، وتناصي، لكن البناء الاجتماعي المفبرك يستطيع أن يؤسس لنفسه فكرا أو ثقافة بعيدة عن الواقع، وهذا ما شاهدته عصور «الفن للفن»، وهذا التصور الإيديولوجي لا يستطيع التخلص من سياقه، ونسقه الاجتماعي لأنه يفترض قوالب وصيغ مشتركة.
هكذا نجد أن هذه الأطروحة هي تأسيس نظمي للقيم، واستراتيجية توجه القراءة وتحدد له مراجعها الخاصة، وتمنح له افتراضات مسبقة لهذا عملت السوسيولوجيا على استخلاص بعض المفاهيم من الدراسات الأدبية، من بعض الدارسين ككولدمان، ولوكاتشوإيزر وبيير زيما، وانكاردن، وديريدا وغداير وتودوروف وغيرهم، ومن بين هذه المفاهيم – رؤيا العالم – الوعي الواقعي – الصراع الإيديولوجي – الوعي – الممكن، الفهم – الشرح – المادية الجدلية – التفسير – التأويل كلها مفاهيم تنتمي إلى حقول معرفية وإنسانية متنوعة، تعيد للقراءة دلالتها في كل مرة وفي مواجهة تصورات ذاتية وكذا تفكيك شفراتها ومعاييرها، فالقراءة عند أدونيس هي مراجعة ثانية للسائد، وبناء رؤية جمالية سواء على المستوى التلقي، أو التأويل المقروء. من هنا يظهر لنا عزوف العرب عن القراءة نظرا لعدة عوامل منها بيئية، وأسرية واجتماعية، وسياسية، ، فهذه العوامل جعلت الفاعل لا يرتبط بالاستراتيجية التأويلية، ولا النقدية بل يبقى أسير النمطية التاريخية التي تعمل على تسييج خياله، وإبداعه.
إذن لابد من الرغبة في القراءة لتقويض الفكر المغلق أو الأورتودوكسي كما حدده محمد أركون في كتابه «الأصول» أو الفكر الإسلامي لأن القراءة هي تحول فكري وصيرورة تاريخية وإبداعية، لا تقوم على الاختزال،بل تمتد إلى المرجعية كجهاز تأملي، يعيد للذات القارئة فكرها، وتعددها الإبداعي.
إن تأسيس الكوجيطو العربي «أنا عربي أنا قارئ فاعل/هو منطق، وخطاب إنتاجي لا يختزل الذوات ولا يشطرها، بل أن يفكر العربي بفكر متعدد من أجل إقامة تفاوض بين المغلق/والمفتوح والمستهلك/والمنتج، والتفسير/والتأويل، وذلك من أجل إقحام الواقع في سياق ثقافي عام ندعوه بالقراءة العربية تارة، وبالثقافة القارية المعاصرة تارة أخرى، وفي هذا المناخ المتعدد المشارب، نضع الخطاب القرائي موضع التساؤل «لماذا لا نقرأ؟» فالسؤال يستدعي معالجة أكاديمية صرفة، وتفترض فيضا معرفيا لا يقول شيئا عن الواقع وتلك المعاينة، لأن هذا الخطاب يتأثر في المقام الأول بصنف تأمل – نقدي، من حيث أنه يسعى إلى كشف حساب – التأخر – لا من باب التراكم المدرسي، بل بمقاييس نمو الوعي القرائي النقدي الذي من أهم إشعاعه، القراءة للجميع وبالتالي القدرة على المنافسة الإبداعية.
إن هذا الرصد المنهجي كما ذكرت، يندرج بشكل ما في ذلك الخطاب النقدي – لا يسعنا فيه إلا أن نبدي رأينا حول القراءة – بكل اختلالاتها الوظيفية، فهو مفهوم متعدد، يتوافق ويتكامل نسقه مع المتلقي، ولعل هذا ما يبقى للإنسان في هذا العالم لكي يقاوم النسيان، وهي التي تدفعه إلى الارتباط بالتاريخ والالتزام الاجتماعي والانخراط في المعاصرة، وفي أجواء العولمة. فبدون القراءة لا تكتمل الشخصية الإنسانية، فهي الإشعاع لوجوده، ونسيج لنموه وحوار لفهمه، وإقامة لوجوده، ونزوع نحو المشاركة في بناء قيم وطموحات. فالقراءة عند أدونيس هي وعي وجودي، وخلخلة للمألوف، وكسر للمقدس، وتمرد على كل ثقافة تقوم على المشابهة والمماثلة.
وامتلاك النص ، هو تشظي لهذه الذوات، ووعي وجودي يمثل الهوية والماهية الأنطولوجية، بحيث يمكن للذات الأدونيسية أن لا تقف عند لغة الانتحال، ولا الشرفة كما ادعى «كاظم جهاد». إنه يعكس الغرب من خلال الفهم الذي يمارس عليه وفيه، واكتشاف وتوصيل إلى الآخر، وذات مسؤولة هي التي تبني لنا – لعبة القراءة – وتركبها من خلال المؤجل، والأصل كما يقول جاك ديريدا، يسعى في كتاباته إلى العثور على شيء لا يسكن التراث واقعيا، بل مكتشفا النقص في الحداثة العربية بوازع فكري تنموي، قبل أن يكون وحدة متنامية في الجمل الشعرية القديمة، يريد أن يؤسس لهذه القراءة من خلال النص الآخر، ليس بمفهوم الإقصاء أو التسلط كما يقول بيير بورديو في كتابه «أسئلة حول علم الاجتماع»، فأدونيس يتميز بالتعارض دون إلقاء المرجعية الذاتية، خالقا صراعات داخلية في الحقل المعرفي حسب مفهوم بورديو، يحول الأشياء ذاتها لترى نفسها في التعدد، وفي علاقتها بالقوى الإنتاجية، لا المعنى فقط، لأن كل حقل قرائي هو لعب يمثل الرهانات الموجبة وغير المنغلقة، ولا يؤمن بالتفاعلات والتداخلات المتناهية، بل بالفراغ والمؤجل من أجل تحقيق الإنجازات الخارجية (الدين – الثقافة) والداخلية الجمالية اللغة، كلها تتداخل في الحقل الثقافي المنفتح، إذن كيف يحمي أدونيس حقيقته ووجوده المعرفي؟
سؤال يشرعن مقاييسه، ليكون النواة الجوهرية في التطور المجتمعي العربي، دون السقوط في الماكيافيلية والسبينوزية، يمدنا بفلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع الديني والسياسي لمواجهة التراث والسلطة– والثقافة – والإبداع … كلها مفاهيم تميز بين ما هو عضوي وما هو تقليدي، تمي يز ينبغي الاستماع إليه كضمير نقدي، يعيد المثالية المطلقة / بمفهوم هيجل إلى وجه المعالجة الإكلينيكية من أجل فهم الشروخ والثغرات التي أصابت العرب، وهذا التوجه يستوجب منه جرأة وحسا تفاعليا دون نزوع استاتيكي (كلي)، وهذا الإحساس خلق له أعداء (حراس الجهل المقدس) داخل الساحة الثقافية، فظل يشخص المفاهيم بالبرهان وبالمنطق الروسوي، الفوكوي، والتشومسكوي والديريدي، يحاور الكلام المرتبط بالحضور (الهوية – والوحدة والبداهة)، ويخالف السائد بالكتابة والقراءة وبالتعدد كما يقول عبد الله إبراهيم (في معرفة الآخر، ص: 13) وهذا اللاتطابق يؤسس الأشياء لكي يختفي المتناهي والثابت، باختفاء القارئ المنمط، والذي لا يملك خاصية البقاء كما يقول جاك ديريدا في كتابه (الكتابة والاختلاف، ص: 36).
فالكتابة عند أدونيس هي اختيار منهجي، تتفاعل فيه قوانين التحول الخاص به وبنا، فهي تصور ثلاثي الأبعاد، الكلية والتنظيم الذاتي، والاختلاف، فهذا الثالوث هو عبارة عن منظومة متكاملة من المعارف والقيم الجديدة التي هي سر بقاء «الهامش» على مر التاريخ الحضاري مؤثرا وفاعلا في صرح المركز وحفظه من التلاشي، والتخلف، فخلف أي عمل إبداعي كما يقول جورج سانتيانا في كتابه «الإحساس بالجمال»، يتم التعبير عن هذه الكتابة بأسلوب واع ليعيد تشكيل الذات المنكتبة فوق البياض، وهذا التناص هو امتصاص ( حسب كريستيفا) لقراءات تعمل على تحول المقروء إلى المدون، وأدونيس قد بدأ بتشريح الثقافة الأدبية والصوفية، والفلسفية والدينية باعتبارها مركبة من استجابات دالة، تفسر بنياتها الفرعية والأصلية.
فهذه الكتابة هي تقويض ونسف للقيم السالبة لكي يقدم البديل البنائي، دون السقوط في التدجين، والاحتواء والمركزية كما يقول جاك ديريدا.
ومهما يكن فإن الأثار الكاملة لأدونيس زمن الشعر، ومقدمة للشعر العربي، وفاتحة لنهايات القرن، والثابت والمتحول وسياسة الشعر، والشعرية العربية، والصوفية والسريالية. فالكتابة عنده (أدونيس) هي رحلة ضد الموت الطبيعي، وتمرد يبعدنا عن الماضي، ويقربنا إلى فرح الموت الإبداعي، فأدونيس يهدف دوما إلى تقويض الثابت من أجل بروز الكتابة كرؤية جديدة، وهذا النبش في طبقات المتخيل الشعري والفني، والتراثي، جعله يعيد الهارب، والمحتجب إلى أصالته، وشعريته، لأن الكتابة هي عنف لذوي يؤسس للمبدع ذاتيته، وهويته، ويجعل اللغة تسكنه قبل أن يسكنها فأدونيس أقام حركة حداثية متنوعة، مؤسسة على مفهوم تكسير (المرجع) تأسيس أمده برؤيا نقدية للأوضاع العربية، وخاصة السورية، لأن العنوان هو الكتابة التي هي علاقة جدلية بين الذات والموضوع، وبين الحرية، والضرورة وبين الحضور والغياب، تشكلت عنده هذه الرؤيا الإبداعية من أجل طرح السؤال «هل نكتب؟ وأين نحن من الكتاب الآخرين؟، وهل نملك كتابة إبداعية، أسئلة أمدتنا بقضية جوهرية وهي أن حداثة الكتابة لا تكمن في الخروج عن المعهود، وإنما تعنى بتجديد الرؤيا، والوعي، والثقافة والنظرة إلى الحياة، هكذا عمل أدونيس على تكسير قوالب الكتابة الرمادية من أجل بناء أسئلة التي لاتزال تقلق الإنسان العربي، منها، علاقة الكتابة بالسلطة، والكتابة / والحداثة، والكتابة والجنس، والكتابة والتراث وغيرها…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.