رئاسة النيابة العامة تؤكد إلزامية إخضاع الأشخاص الموقوفين لفحص طبي تعزيزا للحقوق والحريات (بلاغ)    نقابة المكتب الوطني للمطارات تضع خارطة طريق "لإقلاع اجتماعي" يواكب التحولات الهيكلية للمؤسسة        ميناء الحسيمة : انخفاض كمية مفرغات الصيد البحري    تقرير: المغرب من أكثر الدول المستفيدة من برنامج المعدات العسكرية الأمريكية الفائضة    "الصحة العالمية": أكثر من ألف مريض توفوا وهم ينتظرون إجلاءهم من غزة منذ منتصف 2024    "فيفا" يعلن تقاسم السعودية والإمارات المركز الثالث في كأس العرب    رئاسة النيابة العامة تقرر إلزامية الفحص الطبي للموقوفين تعزيزا للحقوق والحريات    استمرار تراجع أسعار النفط للأسبوع الثاني على التوالي    نادي الإعلام والدراسات السياسية بكلية الحقوق المحمدية : ندوة علمية لمناقشة الواقع الإعلامي المغربي    الرباط تحتضن مقر الأمانة الدائمة للشبكة الإفريقية للوقاية من التعذيب    حمداوي: انخراط الدولة المغربية في مسار التطبيع يسير ضد "التاريخ" و"منطق الأشياء"    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    "الكان" يربك حسابات الأندية الأوروبية    جلالة الملك يهنئ أعضاء المنتخب الوطني المغربي الفائز ببطولة كأس العرب    ملك الأردن يقرر منح الجنسية للمدرب جمال السلامي وهذا الأخير يؤكد استمراره مع "النشامى"    انخفاض الذهب والفضة بعد بيانات التضخم في الولايات المتحدة    "أساتذة التعاقد": اعتقال نزهة مجدي سياسي وانتقامي في حق نضالات التنسيقية    كيوسك الجمعة | ودائع الأسر المغربية تتجاوز 959 مليار درهم    ترامب يوقف برنامج قرعة "غرين كارد" للمهاجرين    هياكل علمية جديدة بأكاديمية المملكة    إدارة ترامب تعلّق قرعة "غرين كارد"    المحافظة العقارية ترفع رقم المعاملات    فرض رسوم التسجيل في سلك الدكتوراه يثير جدلاً دستورياً وقانونياً داخل البرلمان    السكتيوي: المنتخب الوطني حقق اللقب رغم قوة المنافسين    طقس الجمعة.. أجواء باردة نسبيا وصقيع بالمرتفعات    انخفاض جديد في أسعار الغازوال والبنزين بمحطات الوقود    البرلماني رفيق بناصر يسائل وزير الصحة حول العرض الصحي بمدينة أزمور والجماعات المجاورة    شبهة تضارب مصالح تُقصي إناث اتحاد طنجة لكرة اليد من قاعات التدريب    برقية ملكية تشيد بغيرة اللاعبين وكفاءة الأطر الوطنية    المغرب يحصد جائزتين في كأس العرب    رجاء بلقاضي.. تجربة تشكيلية تحتفي باللون والبعد الروحي    الدولة الاجتماعية والحكومة المغربية، أي تنزيل ؟    أسفي بين الفاجعة وحق المدينة في جبر الضرر الجماعي    معدل ملء حقينة السدود يناهز 33٪    الحكومة تُغامر بالحق في الصحة: إصلاح بلا تقييم ولا حوار للمجموعات الصحية الترابية    هل ينفد الكون من النجوم الجديدة؟    المهندس المعماري يوسف دنيال: شاب يسكنه شغف المعمار .. الحرص على ربط التراث بالابتكار    من المغرب.. رمضان يعلق على إدانته بالحبس    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    7 طرق كي لا يتحوّل تدريس الأطفال إلى حرب يومية    سلالة إنفلونزا جديدة تجتاح نصف الكرة الشمالي... ومنظمة الصحة العالمية تطلق ناقوس الخطر    متحف اللوفر يفتح أبوابه جزئيا رغم تصويت موظفيه على تمديد الإضراب    توقيف مروج للمخدرات والمؤثرات العقلية بطنجة وحجز أزيد من 1200 قرص طبي    خبراء التربية يناقشون في الرباط قضايا الخطاب وعلاقته باللسانيات والعلوم المعرفية    الموت يفجع أمينوكس في جدته    غوغل تطور أداة البحث العميق في مساعدها الذكي جيميناي    أسعار الفضة تتجاوز 66 دولارا للمرة الأولى فيما يرتفع الذهب ب1 في المائة    مركز وطني للدفاع يواجه "الدرونات" في ألمانيا    ترامب يؤكد مواصلة المسار الاقتصادي    الرباط تحتضن مهرجان "أقدم قفطان" .. مسار زي مغربي عابر للأجيال    مركب نباتي يفتح آفاق علاج "الأكزيما العصبية"    التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته 12- كيف قرر الإتحاديون عدم المشاركة في حكومة عبد الإله بنكيران

ودعنا المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008. رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
نعيد بعضا من سيرته الذاتية التي أنجزها الزميل والكاتب حسن نجمي بعنوان " المغرب الذي عشته " عَبْرَ سَرْدِ رَجُلٍ ملتزم، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي…

وبعد أن نوَّهَ بتجربة سي عبد الرحمن اليوسفي، هنأنا سي بن كيران على العمل الذي أَنْجَزَهُ الاتحاد الاشتراكي. ومن جانبه، أكد على جودة العلاقات بين الحزبَيْن وبين الأَشخاص. كما وضَعَنا في صورة الاتصالات التي أَجْرَاهَا مع سي عباس الفاسي الذي منحه موافقته المبدئية على مشاركة حزب الاستقلال في حكومته. وتمنى أن يشارك الاتحاد الاشتراكي بدوره في هذه الحكومة وكذا كافة الأَحزاب المشكلة للكتلة الديموقراطية.
ومن جانبه، حاول المرحوم سي عبد لله باها (1954-2014)، بابتسامته اللطيفة وطيبوبته المعتادة، أن يوضح لنا المُقَارَبة التشاركية لاقتراح العدالة والتنمية تجاه الاتحاد الاشتراكي، ولاسيما أن الاتحاد يتوفر على تجربة غنية. واستمر يطلب منا معرفة موقفنا المبدئي، وعما إِذا ما كانت لدينا بعض المقترحات الخاصة بهندسة الحكومة الجديدة والمناصب.. وما إِلى ذلك. وخَلُصَ المرحوم باها إِلى القول إِن المغاربة يريدون التغيير والاستقرار، الشيء الذي يمكننا أن نقوم به مَعاً.
وتناولتُ الكلمة لأشكر مخاطبَيَّ على اقتراحهما، وعلى الكيفية الودية التي قدما بها هذا الاقتراح. واغتنمت الفرصة لأُذكّر بأن سي عبد الرحمن سَبقَ أن اقترح على حزب العدالة والتنمية أن يشارك في حكومته، وأن هذا الاقتراح كان موضوع نقاش داخل حزبكم وانتهى، في مرحلة أولى، إلى اختيار الدعم بدون مشاركة، وفي مرحلة ثانية، اختيار المعارضة. وكما تعرفون، قلتُ، لقد تَحمَّلْنا مسؤولية التناوب في صيغته الأولى. وواصلنا مشاركتَنَا إِلى يومنا هذا (دجنبر 2011). وخلال هذه الفترة، كنْتُم في المعارضة. وكانت هناك أسباب مهمة لهذا التَّموقُع المختلف. واليوم، فإِن هذه الأسباب لم تَنْتَهِ. ونحن، لم نتحول إِلى حزب العدالة والتنمية. كما أنكم لم تصبحوا الاتحاد الاشتراكي. ومن هنا، هذا النقاش القائم في صفوفنا. فالمناضلات والمناضلون الاتحاديون يُقَيِّمون الموضوع بكل وجوهه بالجدية التي يمكننا أن نتصورها آخذين بعين الاعتبار المصالح العليا للبلاد أولاً وللحزب ثانياً. كما أَننا نتذكر أننا تَعَاوَنَّا داخل مختلف اللجن الوطنية والحوارات الرسمية من أَجل تحرير الدستور وتغيير قوانين الانتخابات وتهييء قانون الأَحزاب.
أَما فيما يتعلق بمشاركتنا في الحكومة، فهذا أمر آخر. وكما تعرفون فنحن في مرحلة التنافس بين الأَحزاب حول المشاريع المجتمعية والرؤية إلى المستقبل والاختيارات الأَساسية بالنسبة للحاضر، وذلك ببرامج مختلفة بل متعارضة بخصوص بعض الميادين والجوانب. وحول هذا النوع من القضايا، فإن المجلس الوطني لحزبنا هو الجهاز المؤهل للمناقشة واتخاذ القرار. وهو ما سَبَقَ وجَرى بخصوص المشاركة في حكومة سي عبد الرحمن اليوسفي وحكومة سي إدريس جطو وحكومة سي عباس الفاسي.
وكان ردّ سي بن كيران بأن «خير البرّ عاجله».
وكان رأي المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي، المنعقد في 4 دجنبر 2011، أن الأمر يتعلق اليوم بتناوب بين تَحالُفٍ سابقٍ لِوَسَط اليسار وأغلبية جديدة من اليمين. وبالتالي، لكي يكون الخيار واضحاً من أجل المستقبل، ينبغي إِذن عدم الخلط بين الاتجاهات في أَذهان الناخبين وعموم المواطنين. ومن ثم يجب أن يتحقق التناوب بين عائلات سياسية من توجهات مختلفة.
على المستوى الإيديولوجي، فإِن الاتحاد الاشتراكي ينتمي إلى أسرة سياسية وفكرية كونية، إِنسانية تؤمن بإِمكانياتِ الإنسان وقدراته، وتنتصر لقيم ومبادئ الديموقراطية والاشتراكية. كما أن للاتحاد الاشتراكي مرجعياته الخاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالإِضافة إِلى المرجعية الدينية كقاسم مشترك بين جميع المغاربة.
والفاعلون السياسيون الوطنيون لهم مرجعيات مختلفة نحترمها، لكن ينبغي أن نحرص على صيانة الانسجام بين المبادئ والعمل، وإلاَّ سنُصْبح في أنظار المواطنين بمثابة حركة انتهازية تهتم بالمناصب فحسب مما يُفْقِدُها كلَّ مصداقية. بمعنى أن علينا أن نحافظ على هويتنا السياسية الخاصة، ذلك لأننا إِذا ما فقدنا هويتنا ننتقل من أغلبية يسارية إِلى أغلبية يمينية. وبالتالي نفقد بذلك رُوحَنا، ولكننا نُفَضّل أن نفقد مناصب في الحكومة أو مقاعد في البرلمان بدلاً من أن نفقد رُوحَنا. والانسجام بين القول والفعل هو أحد مصادر الثقة.
من جانب آخر، فإن الديموقراطية القوية لا يمكنها أن تشتغل إلاَّ بأغلبية قوية ومعارضة قوية أيضاً.
على الأغلبية أن تَحْكُمَ وتُسيِّر، مثلما على المعارضة أَن تصحح وتنتقد وتُراقِب واضِعةً نصب أعينها المصلحة العليا للبلاد.
إن ممارسة المعارضة مَهَمَّة في خدمة البلاد ومفيدة للأَحزاب. وكَوْن الحزب في المعارضة لا يَعْني إعلان حرب على الحكومة. نعم، يتعلق الأَمر بصراع سياسي، ولكنَّهُ صِراعُ أفكار ومواجهة بين المشاريع والبرامج والكفاءات.
وطبعاً، فقد كان هناك بعض الإِخوة –في المجلس الوطني للاتحاد وحتى خارجه- الذين دافعوا عن فكرة المشاركة في حكومة سي عبد الإله بن كيران، لكن القرار في النهاية كان للأَغلبية بعدم المشاركة. فقد أوضحت المناقشات والمداولات أن على الاتحاد ألا يشارك، وقد احترمنا إرادة أغلبية المناضلين.
أما آخر مهمة تنظيمية قمتُ بها ككاتب أول للاتحاد الاشتراكي، قبل المؤتمر الوطني التاسع للحزب، فهي التحضير والإِشراف على أشغال هذا المؤتمر.
وأَذْكُر هُنَا حالة استثنائية في تاريخ الاتحاد الاشتراكي وتاريخ العمل الحزبي بصفة عامة، عشتُها شخصياً وعاشها الحزب، وتتعلق بتحضير المؤتمر التاسع وسَيْره. فقد شرفني إخوتي في المكتب السياسي، بتزكية من أعضاء اللجنة التحضيرية وأعضاء المجلس الوطني للحزب، فطَلَبُوا مني –ككاتب أول يُفْتَرض أن يقدم الحساب للمؤتمرين- في لحظة أولى أن أرأس اللجنة التحضيرية، ثم لاحقاً أن أرأس أشغال المؤتمر التاسع نَفْسِهِ على غير العادة، إِذْ إِنَّ هذه المَهمة تُسْنَد في العادة إلى مَنْ لا يتحمل المسؤولية الأولى في الحزب.
وهي مهام تحملتُها وأَديتُها بأَمانة من بدايتها إلى نهايتها، أي إلى أن تم انتخاب الأجهزة القيادية الجديدة (الكاتب الأول الجديد، مكتب ورئيس المجلس الوطني، واللجنة الإِدارية الوطنية).
واليوم، ما زلتُ أُواصِلُ مهمتي كمناضل في الاتحاد الاشتراكي على رأس لجنة الأَخلاقيات والتحكيم إلى جانب مسؤولياتي النضالية كنائب برلماني ورئيس الجماعة القروية (القْصِيبِية).
لقد تَحمَّلْتُ دائماً عدة مسؤوليات عليا داخل حزْبي، وفي بلادي، وعلى المستوى الدولي. واليوم، ليس لي أي مسعىً أو تطلع شخصي، ومُنْتَهى طموحي يتجه نحو بلادي وحزبي.
*
حين تَركْتُ مسؤوليتي ككاتب أول للاتحاد في دجنبر 2011، خَلَّفَ هذا العبور لديَّ مثلما سيُخلِّفُ لدى إِخواني في الحزب، وبدون شك لدى آخرين، جملةً من الأَفكار والخلاصات، ورُبَّما الدروس. وأرى من المفيد –بالنسبة إِلي على الأَقل- أن أَتأملها.
الملاحظة أو الخلاصة الأولى التي يهمُّني أَنْ أُبْديَها تتعلق بتطور دور الكاتب الأول كموقع وكمسؤولية. فقد وصلتُ إلى مسؤولية الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد أن حَدثَ تطور ملموس في مزاولة هذه المهمة. فمنذ نشأة الاتحاد سنة 1959، كان الكُتَّاب الأوائل يُعتَبَرون قياديين طبيعيّين، بمعنى أنهم، وبسبب ماضيهم ورصيدهم ومكانتهم في الحزب والمجتمع وتاريخ البلاد، كان من الطبيعي أن يَتَوَلَّوا موقع قيادة الحزب بدون مناقشة أو منافسة. وهذا في رأيي ما كان يتوفر في أخينا المهدي وعبد الرحيم وفي سي عبد الرحمن. ثم بدأ هذا التغيير الذي أشير إليه مع أخينا محمد اليازغي حيث جرى بينه وبين إِخوته أعضاء المكتب السياسي للاتحاد عندئذ نقاش حول مهامه ككاتب أول جديد قبل انتخابه، وهو النّقاش الذي تُوِّجَ بِتَعاقُدٍ مَكْتُوبٍ أصبح معروفاً في وثائقنا الحزبية بوثيقة 28 نونبر 2003 التي كانت تعبيرا تنظيميا لمرحلة ما بعد شتنبر 2002.
وفيما يخصني شخصياً، اعتمد الحزب، كما سبقت الإشارة، صيغة جديدة تقضي بانتخاب الكاتب الأول من طرف المؤتمر كمرشَّح ضمن مرشحين آخرين في إطار من التنافس الديموقراطي، وفي دورة واحدة. وهكذا انتُخِبتُ بأَغلبية أصوات المؤتمرين. ومعناه أننا أصبحنا في وضع تنظيمي جديد، فكان عليَّ أن أَتَصرَّفَ في انسجام مع هذا التحول الكبير معتبراً نفسي كاتباً أولَ أُمَثِّلُ القاعدة الاتحادية كُلَّها ومُعبِّراً عن إرادةِ كافة أخواتي وإخواني في القيادة الوطنية للاتحاد، مجلساً وطنياً ولجنةً إِداريةً ومكتَباً سياسيّاً. وكان لديَّ حرص شديد على أَنْ أُمثّل هذه الروح الجماعية ساعياً إِلى كسْبِ ثقة الجميع بدون استثناء، أَخْذاً بعين الاعتبار أن هناك من لم يُصَوِّت لفائدتي وعليَّ أن أحظى بثقته، أي أن أتبادل وإيَّاهُ الثِّقَةَ والتقدير والأُخُوة النضالية الصادقة.
من هُنَا، سيكون عليَّ –أكثر من غيري- أن ألعَبَ دوراً قائماً على التَّوافُقَات. واعتَبَرتُ ذلك في صميمِ الروح الديموقراطية. ومن ثم، آليتُ على نفسي أن أشتغل في أُفُقِ خطةِ عمل، وذلك على أَساس ما حَدَّدَهُ المؤتمر الوطني الثامن من آفاق العمل، وبالتالي فإِن خريطة الطريق التي نَهجْتُها والتزمُتُ بها كانت هي التي وضَعَها المؤتمر.
الملاحظة الثانية التي تُتَبدَّى لي -وهي بديهية إِلى حدٍّ كبير- أَنَّ المغرب تَبدَّلَ كثيراً. إن مغرب المؤتمر الوطني الثامن (2008)، بالتأكيد، لم يكن هو مغرب المؤتمرات الوطنية السابقة. وبالأخص، لا هو مغرب المؤتمر التأسيسي (1959)، ولا هو مغرب المؤتمر الاستثنائي (1975)، ولا المؤتمرات اللاحقة التي حضرها وقادها عبد الرحيم بوعبيد أو عبد الرحمن اليوسفي على سبيل المثال. الإطار الفكري والثقافي والسياسي العام تغيَّر جوهريّاً. كما تغيرت السيَّاقات والوجوه والمسلكيات والعلاقات الاجتماعية.. وما إِلى ذلك. واستطراداً، لم تتبدل فقط الطريقة التي كان بِهَا يتمُّ اختيارُ القيادة الحزبية داخل مؤتمرات الاتحاد، وإنما ظهرت ممارسات انتخابية جديدة بل مسلكيات انتخابَوية لم يَألَفْها الاتحاديون على امتداد تاريخهم الداخلي. وأَيضاً، تغيرت علاقات الاتحاديين مع بعضهم البعض.
مَعْنَى ذلك كُلِّه أن المرء يجد نَفْسَه أمام عَالَم آخر لم يفْتَحْ عينيه عليه، ولم يتدرج فيه أو يكبر في فضائه.
ولعل هذا التحول في المجتمع مثلما في الحزب كان يفرض نَفْسَه بقوة، وكأن عَليَّ ككاتب أول أن أُلْزمَ نفْسي بالتعايش مع هذا الفضاء الجديد، ومع هذه العلاقات الجديدة. كما أن خلفيات ومنطلقات الصراع السياسي لم تَعُدْ هي نَفْسَها، ولا ميزان القوى هو نفسه. على العكس، تغَيَّر كلُّ شيء، الفاعلون السياسيون والفعل السياسي والخطاب واللغة والعلاقات والأَجيال.
اخْتَلَّ الانسجام وتفككت الإِرادة التي أَلفْناها دائماً كنواة صَلْبَة تنتج الفكر الجديد دائماً، وتبادر في اتجاهِ الخطوات الجريئة الوَثَّابة، وتخلق الحَدَث دائماً.
كان مشروعنا على الدوام مشروعاً جماعياً، وحدوياً، وطنياً.
*
يقودُني ذلك إِلى إِثارة مشكلة مطروحة في المغرب، ألاَ وهي إدارة المنافسة لأن السياسة في الديموقراطية قائمة أساساً على المنافسة، وروح المنافسة. لا يمكن داخل الديموقراطية أَلاَّ تكون هناك منافسة بين الأفكار والمشاريع والبرامج والكفاءات. فالفكر الوحيد أو الحزب الوحيد لا مكان له في الديموقراطية. فقط، في الأَنظمة الاستبدادية يُغيَّب التنافُس ويحضر التوجيه والتعيين من أعلى الهرم. وحتى تجديد القادة والنُّخَب بصفة عامة في هذه الأنظمة لا يتم بالانتخاب أو بالمنافسة،على قاعدة الكفاءات والجدارة، وإِنما يتم عن طريق الولاء حيث يختار الأَعضاء القادة من بينهم. وهذا الولاء يوجد في أنظمة أخرى. قد تَتَخفَّى هذه الطريقة تحت مسميات أخرى مثل «أولوية القيادة» في الاختيار والتوجيه والمركزية الديموقراطية، بينما في الديكتاتوريات يكون القائد الأعلى وله وحده سلطة التعيين والتسمية.
والمُنَافَسَة الموجودة في الديموقراطية ملزمة وجوباً باحترام قواعد اللعب والحرص على أخلاق التنافُس. أما حين يصبح هناك غِشّ في المنافسة واستعمال كل الوسائل للوصول إِلى الغاية، وبدون احترام للمقاييس والمعايير والقوانين والأَخلاق، عندها تَفْسُد الديموقراطية أَساساً. وقد ظَهَر هذا في أَثينا القديمة مع بدايات الفكرة الديموقراطية. ففي ذلك العهد، في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه الديموقراطية، ظهرت معها الشَّعْبَوية مثلما ظهرت الديماغوجية. فما الذي وقَفَ في مواجهة الشعبوية والديماغوجية؟ إِنه الوعي، وعي المواطن ولاحقاً وعي الناخب أو وعي المناضل. وأظن أن ليس هناك من نظامٍ يتسم بالكمال يشتغل من تلقاء نفسه بعد اعتماده وتَبَنِّيه. دائماً وفي كل الأحوال، لابد من حرص متواصل للدفاع عنه وحمايته.
إِن للديموقراطية نُقَطَ ضُعف كبيرة، لكن الإِيجابي فيها أن المواطنين عندما يمتلكون وعْياً تصبح قادرة على إِصلاح نَفْسِها بنفْسِها من الداخل. والدواء الناجع لعيوبها هو الوعي. وكلما توفر هذا الوعي، كلما كانت الديموقراطية أَقل ضرراً من الأنظمة الأخرى.
إِذن عندما تتحول روح المنافسة، داخل الأَحزاب والتنظيمات المجتمعية بصفة عامة، إِلى «جْميْعَاتْ». ولا أَقصد هُنا بالجماعات التيارات التي لها قاعدتها الفكرية والإيديولوجية ومحدداتها النظرية والأَخلاقية، وبالتالي لها شرعيتها ومشروعها، وإِنما أَقصد بالجماعات مجموعات الأشخاص التي تتفق سريّاً فيما بينها على أساس مصالح ذاتية أو مادية كي تسيطر أو تستأثر أو تضغط أو تقلب وضعاً ديموقراطياً سليماً، بكيفية غير مشروعة. كما تجعل المنافسة منافسة غير شريفة، أي بدون اعتماد جدي للمعايير والقوانين، وبدون احترام للأَخلاق. وهذا الداء الذي تفَشَّى داخل الأَحزاب له امتدادات وجذور تاريخية داخل المجتمع بل وداخل الدولة كذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.