في موضع هامشي، بقرية "الشرافات" قبيلة الأخماس شمال المغرب، غرس طارق بن زياد بذرة نور في صخر الجبل، ومضى يشق طريقه نحو الأندلس، لا بالسيف وحده، بل بخلوة نطقت بالفتح. المسجد هنا ليس من حجارة فحسب، بل من صبرٍ مقيم، ومن إيمان صيغ في العزلة بلا ترف. في هذا الركن الخافت من التاريخ، تلتقي الرواية بالوثيقة، ويضيء الصمت بحقيقة لا تزول. الإلكترونية -الشرافات: الغبزوري السكناوي
في قلب جبال الريف، حيث تُصلّي الرياح بلغتها، وتُصغي الأشجار للذاكرة، ينتصب مسجدٌ لا يشبه المساجد، بل يُشبه عزيمة رجل يعبر من ضيق الأرض إلى فسحة الوعد، قيل إن طارق بن زياد، وهو في طريقه إلى الأندلس، توقف هنا، لا ليستريح، بل ليُصلي ركعة تفتح الأفق، وسجدة تشقّ الماء، هنا، في قرية "الشرافات" بإقليم الشاون ارتفع هذا المقام كأن الجبل تهيأ له، كأن الأرض قدّمت له حجرها الأصفى، وسَمَحت للنية أن تصير بناءً، لا مئذنة شاهقة بل رمحٌ غُرس في خاصرة السماء، ولا زخرف يُبهر بل سكينة تهزم الضجيج، وجدران من صبرٍ مشع، لا تُشيّدها الأيادي بل تُقيمها الهمم.
في هذا الموضع، لا تُرفع الأذان بل صيحة، ولا تُستجلب الطمأنينة بل تُستفزّ النوايا، لم يكن المسجد محض بناء، بل كان وقفة بين مرحلتين: بين أرض تُودّع، وأفق لم يُبصر بعد، حجارة هذا المقام تشهد أن الفتح لا يأتي من تخطيطٍ فحسب، بل من صفاء، من لحظة اتسعت فيها النية حتى صارت خريطة، طارقٌ مرّ من هنا، وترك ركعته كدليل، ومشى، والجبال من خلفه تُردد وصيته: من لا يُصغِ لصمت الله في الجبل، لن يسمعه في قلاع العدو، ومن لم يفتتح قلبه في الريف، لن يفتح بابًا في الأندلس. من هذا العلوّ، من هذا الحنين المغروس في التربة، انطلقت البشارة: أن الفتح لا يبدأ من الأساطيل بل من ركعة، لا من الحشود بل من نَفَسٍ واحدة صافٍية، "الشرافات" ليست استراحة مسافر، بل نقطة تحوّل، والمسجد ليس مبنى، بل شهادة، هنا صعدت السجدات إلى العلياء كما الجند، وهنا، في قلب الريف، كُتبت أولى كلمات العبور، لا بالحبر، بل بخطو واثق وبياض نية، هذا المقام، الذي لا يُرى إلا بعين القلب، سيظلّ علامةً على أن القمم لا تُقاس بالعلوّ، بل بعدد الذين تسلقوها بأقدام من نور وقلوب من يقين، وأن الفتح يبدأ من قممٍ كهذه، حيث لا يتسلّق إلا من نذر نفسه للسُموّ.
هنا، في صمت القمة، حيث شدّت لجام الخيل تحت ظلال "الشرافات" استشعر طارق بن زياد ثقل الرسالة قبل أن يُرفع اللواء، لم يكن البحر يلوح بعد، لكن الأمواج كانت تضطرب في داخله، وكان يعرف أن العبور ليس من مضيق فقط، بل من خوف، من شك، من ذات قد تنكسر إن لم تتوضأ بالعزم، في هذا المسجد لم يخطب طارق، لكنه صلى، ولم يصدر أمرًا، لكنه تهيّأ، كأن الجبل كان محبسه الإختياري قبل انطلاق الحملة، وكأن كل خطوة بعده لم تكن سوى صدى لما نُحت هنا من نية لا تعرف التراجع.
كل شيء هنا يتهجّى الفتح: الريح تحمل عباءة القائد كما لو أنّه لا يزال يراجع خطّ المسير، كما لو أن طارق ما زال هنا، يمرّ كل ليلة يتحسس أطراف المكان، يراجع الخرائط، ويتلو على الجبل وصاياه، والأشجار تُومئ بما سمعته ذات فجر، والصخور تلمع تحت الشمس كأنها آياتٌ حُفرت على صفحة السماء، لا شيء فائض في هذا المسجد، لأن التخطيط كان نورًا، والتنفيذ نية، البساطة ليست فقرًا، بل أعلى مراتب الهندسة الروحية، عريٌ يقابله اكتفاء، وصفاءٌ يشبه عيون الذين نذروا أنفسهم للصلاة لا للفرجة، المسجد لم يُبنَ ليبهر، بل ليُبقي شعلةً مشتعلة في ذاكرة الطريق.