إدغار موران، شيخ الفلاسفة، وآخر عمالقة الفكر في العصر الحديث، فرنسي المولد وعالمي الفكر. منظر التعقيد والفكر المركب، العابر للاختصاصات، خاض غمار الحرب العالمية الثانية ضد النازية، ومن المفكرين الملتزمين والمدافعين عن القضايا الإنسانية العادلة. يعيش بمراكش بضعة شهور من السنة، حيث الشمس والدفء يعمان مختلف الأرجاء، ويسعف الفضاء للتأمل والإنتاج الفكري حول ما يمور به العالم من مستجدات وقضايا راهنة. المفكر الملتزم رأى إدغار موران النور، يوم 08 يوليوز 1921 بباريس، واسمه الحقيقي إدغار ناحوم. وفي سن الواحد والعشرين، انخرط في سلك المقاومة الفرنسية ضد النازية الألمانية، ما جعله يختار لنفسه اسما مستعارا من عالم الأدب والإبداع، يحيل إلى شخصية مانيان برواية «الأمل» للكاتب الفرنسي أندري مالرو، التي تعالج قضية الحرب الأهلية الإسبانية، ومناهضة الفاشية، لكن جراء خطإ، غير مقصود، تم تحريف اسمه إلى موران. ويتحدر من أسرة يهودية سفاردية، هاجرت، مع مطلع القرن العشرين، من مدينة سالونيك باليونان إلى مدينة مارسيليا بفرنسا، ومن ثمة إلى مدينة باريس. كان أبوه فيدال تاجر جوارب، أما أمه لونا، فكانت ربة بيت، وافتها المنية سنة 1931، إثر أزمة قلبية، ما ترك في نفسيته جرحا عميقا، وجعله يتذكرها طوال حياته. وفي هذا الإطار، يقول: «لم أكن لأصل إلى هنا لو لم تمت أمي، التي كنت أعشقها. عندما كنت في العاشرة من عمري، توقف قلبها في قطار يصل إلى محطة سان لازار» بباريس. وفي سنة 1941، انضم موران إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي ما لبث أن غادره بعد عقد من الزمن. وخلال الحرب العالمية الثانية، حصل على إجازة في الاجتماعيات، وأخرى في القانون، ورغم ذلك، فإنه يعتبر نفسه عصامي التكوين. فاعل جمعوي ومؤسساتي متعدد الأبعاد، التحق سنة 1950 بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، ليصبح مديرا للبحث فيه سنة 1970. وخلال الفترة الممتدة ما بين 1979 و1989، أدار مركز دراسات الاتصالات الجماهيرية بذات البلد، الذي أصبح، فيما بعد، يحمل اسمه. وفي أواسط تسعينيات القرن الماضي، ترأس الوكالة الأوروبية للثقافة باليونسكو، وأثناء سنة 1997، قام بتأسيس وتدبير جمعية الفكر المعقد، إضافة إلى كونه يحظى بمؤسسة علمية وأكاديمية تحمل اسمه بفرنسا، تروم الحفاظ على إرثه الثقافي، والعمل على إشعاعه الفكري. كما حصل على الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات، عبر العالم، وعلى مجموعة من الجوائز، من أهمها: جائزة شارل فيون الأوروبية للبحوث سنة 1987، والجائزة الدولية فياريجيو سنة 1989، وجائزة ميديا للثقافة سنة 1992، وجائزة كتالونيا الدولية سنة 1994، وجائزة ابن رشد سنة 2009، علاوة على جائزة ابن خلدون سنة 2015، ويعتبر من المؤيدين للفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم، ومن المعارضين لحرب الجزائر، إبان الاستعمار الفرنسي، ومن المناصرين لقضايا البيئة، عبر العالم. ومع مطلع ستينيات القرن الماضي، قام بجولة فكرية وأكاديمية إلى أمريكا اللاتينية، قادته إلى كل من البرازيل والشيلي وبوليفيا والبيرو، إضافة إلى المكسيك، حيث كانت هذه الرحلة فترة دراسة وتكوين، وبداية تشكل فكره المنهجي. ومن أبرز مؤلفات هذا المفكر الغزير التأليف والواسع الأفق، نذكر: «العام صفر لألمانيا» (1946)، و»الإنسان والموت» (1951)، و»السينما أو الرجل الخيالي» (1956)، و»نقد ذاتي» (1959)، و»روح العصر» (1962)، و»إشاعة أورليان» (1969)، و»البراديغم المفقود» (1973)، و»المنهج» (1977-2004)، والثقافة والبربرية الأوروبية (2005)، و»إلى أين يسير العالم؟» (2007)، و»من أجل علم الأزمات» (2016)، و»دروس قرن من الحياة» (2021)، و»وقت إضافي» (2023)، إضافة إلى «هل هناك دروس للتاريخ؟» (2025). من المنهج إلى التعقيد يعتبر كتاب «المنهج» المشروع الفكري الموراني الأساس. فهو أشبه ما يكون بالموسوعة العلمية، وقد استغرق تأليفه ما يناهز ثلاثة عقود (من 1977 إلى 2004)، ويتكون من ستة أجزاء، تحمل عناوين فلسفية فيها كثير من التلاعب اللفظي البليغ، والمثير للاهتمام، وهي: «طبيعة الطبيعة» (1977)، و»حياة الحياة» (1980)، و»معرفة المعرفة» (1986)، و»الأفكار: مقامها، حياتها، عاداتها، تنظيمها» (1991)، و»إنسانية الإنسانية، الهوية البشرية» (2001)، إضافة إلى «علم الأخلاق» (2004). ومن خلال هذا المنجز العلمي والمعرفي الرائد، بسط هذا المفكر، الملقب بالفيلسوف المتوحش، رؤيته المعرفية، التي تتمثل في نظرية أو براديغم/أنموذج التعقيد، الذي هو مقاربة مركبة وبديلة لتجاوز النظرة الاختزالية والمبسطة، من أجل إرساء نمط من التفكير يربط بين المعارف والعلوم، ويؤمن بالتناقض والتداخل. كما يعتبر دعوة لتفسير الظواهر، وفق مقاربة شمولية ومتعددة التخصصات. وفي هذا الشأن، يقول موران: «الفكر المركب لا يرفض الوضوح، بل يرفض التبسيط المخل»، مضيفا أن «التعقيد ليس فوضى، بل هو نظام مليء بالترابطات»، وهو بذلك يرفض السطحية والنمطية في فهم العالم، ويدافع عن فكر شمولي يتسع لتناقضات الإنسان، وأسئلته الوجودية الراهنة، معتبرا أن الفكر لا يحيا إلا حين يبقى في اتصال دائم بالحياة، ومنبها إلى عدم الخوف من التعقيد لكون الحياة، ذاتها، تشكل معجزة من التعقيد الرائع، ونظرا لأن العالم هو عبارة عن تركيبة هائلة من الألغاز والعقد. وفي كتابه «مغامرة المنهج» (2015)، يحكي موران رحلته الفلسفية والشخصية الممتعة، التي قادته، بعد جهد جهيد، وعمل طويل الأمد، إلى بلورة هذا المؤلف المتميز، مستعرضا ملابسات وأسباب نزوله، نظرا لكونه يشكل عصارة فكره، في المجالين الفلسفي والاجتماعي، ويعد علامة فارقة، ضمن منجزه الفكري الواسع الطيف. مراكش واحة الفكر يعيش موران، منذ سنوات، فترات متقطعة من السنة بحي راق وهادئ بمدينة مراكش، هذه المدينة التي أحبها، والتي تتحدر منها زوجته الباحثة وعالمة الاجتماع المراكشية صباح أبو السلام، التي تعتبره أستاذها، ونبراسها في مجال البحث العلمي، حيث نشرت، رفقته، كتبا مشتركة، من بينها: «الرجل ضعيف أمام المرأة» (2014). وقد عرف هذا المفكر بشغفه العميق بمراكش، التي لا تعتبر، بالنسبة له، استراحة المحارب أو مجرد وجهة سياحية للاستجمام، بل فضاء فكريا يمكنه من التفرغ للكتابة والتأليف حول القضايا الراهنة للعصر الحديث. وفي هذا الصدد، يقول: «في مراكش، أشعر أنني في وطني الثاني، حيث يتجاور الماضي والمستقبل، الشرق والغرب، في مشهد واحد معقد، لكنه حي». ويعتبر موران هذه المدينة مرآة وتجسيدا ماديا لفكره الفلسفي حول التعقيد، حيث يتعايش الإرث العربي الإسلامي مع التقاليد الأمازيغية والحضور الإفريقي، وتنصهر الحداثة مع عراقة الماضي، ما جعله يصرح، ذات مرة: «مراكش تشعرني بأني داخل فضاء مألوف، فالمغرب ليس غريبا عن ذاكرتي العائلية، ولا عن حسي الثقافي». وكمن يقوم برحلة الشتاء والصيف، يأتي موران لمراكش هروبا من الجو المتجهم لباريس، ولتفادي الضوضاء، وإيقاع الحياة المتسارع بهذه المدينة النورانية، التي أضحت أخطبوطية، جراء التكاثر السكاني، والتوسع العمراني، حيث يقول، في هذا الإطار: «كلما كبرت في السن، كلما ازدادت رغبتي في الشمس. أكره الخريف والشتاء في باريس اللذين يكونان رماديين بالكامل». ففي المدينة الحمراء يعانق هذا المفكر بهجة الحياة، والجو اللطيف، إضافة إلى الهدوء التام، ما يساعده على الاستمرار في البحث والإنتاج الفكري. وفي هذا الشأن، يؤكد: «في باريس أو مراكش، لم أتوقف أبدا عن الشعور بالفضول تجاه العالم الذي أنا جزء منه». وبعاصمة الجنوب، ومثل راهب في صومعة ملهمة، لم ينفك موران عن التأمل وطرح التساؤلات حول رهانات وتحديات العالم. كما كان يحلو له تزجية الوقت، من خلال إعادة تأهيل مزرعة عائلية بضواحي هذه المدينة، مستعملا في ذلك مقاربة الزراعة البيئية، ما ساعده على المحافظة على حيوية الشباب، والعيش في توافق تام مع زحف الشيخوخة العاتية، حيث يقول، في هذا الصدد: «لكي ينعم المرء بشيخوخة طيبة، عليه أن يحافظ على فضول الطفولة الذي لا ينضب، وطموح المراهقة الذي لا يغيب، ولكن من دون الأوهام المرتبطة به»، ومضيفا، في سياق آخر، أن «الحب والفضول يسمحان بالمحافظة على الشباب في الشيخوخة»، ومبرزا أنه «يتغلب على الموت بقوى الحياة الموجودة بداخله»، ويتمنى أن يعيش المزيد من الوقت ليرى كيف يرتسم تاريخ الإنسانية. إن موران ليس مفكرا نمطيا، بل فيلسوفا متنورا، ينسج تصوراته وحقائقه خارج الصندوق، والمسارات المألوفة. فمن المنهج إلى فلسفة التعقيد، ومن مراكش، المدينة العالمية، إلى العالم الذي أصبح قرية كوكبية، ظل هذا المفكر الموسوعي، والشاهد على قرنين، يحمل هاجس الإصغاء لنبض الآخر، وسبر أغوار المحيط، محاولا فك ألغازه بمنظار التعقيد، ومن خلال تجاوز الاختزالية والتبسيط في فهم العالم والإنسان. * كاتب وإعلامي مغربي